العراق

انقلاب 8 شباط.. القوميون والبعثيون يستولون على السلطة

دلشاد حسين
08 فبراير 2022

لم تكن السنوات الخمس بعد سقوط النظام الملكي في العراق وتأسيس الجمهورية عبر انقلاب 14 تموز 1958 سنوات استقرار سياسي وأمني. فالصراع بين الأطراف المنفذة للانقلاب كان يتطور ويتعمق يوما بعد يوم حتى أطاح بالحقبة الأولى من العهد الجمهوري مع بداية عام 1963. 

شهدت الحقبة الأولى من النظام الجمهوري صراعات واضطرابات سياسية بين الحزب الشيوعي وحزب البعث والقوميين العرب. وكانت هذه الاضطرابات تنتهي دائما بمعارك واشتباكات مسلحة بين أزقة بغداد وشوارعها. 

ولعل أبرز سبب لعزلة رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، ومن ثم الانقلاب عليه، هو الصراع بينه وبين العديد من زملائه الضباط الأحرار، وفي مقدمتهم العقيد الركن عبد السلام عارف، الذي عينه قاسم نائبا له عام 1958 ووزيرا للداخلية.

لكن لم يمض سوى شهرين من عمر وزارة قاسم حتى اشتد الخلاف بينهما لأسباب عديدة، منها محاولة عارف إبراز نفسه إعلاميا وتأييده للوحدة بين مصر وسوريا التي كان قاسم معارضا لها.

قرر قاسم عبد السلام عارف من مناصبه في الحكومة وعينه سفيرا في ألمانيا الغربية في سبتمبر 1958. ورغم ذهابه إلى ألمانيا إلا أنه رفض المنصب وعاد بعد شهرين إلى بغداد. وحينها اتُهم بقيادة انقلاب عسكري على نظام الحكم ومحاولة اغتيال رئيس الوزراء، وحكم عليه بالإعدام  قبل أن يعفى عنه عام 1961 ويحكم بالسجن المؤبد ومن ثم الإقامة الجبرية. 

لم يكن الصراع مع عبد السلام عارف العامل الوحيد لسقوط عبدالكريم قاسم. كان قاسم، وبحسب مختصين بالشأن السياسي والعسكري العراقي، يحاول فرض نظام الزعيم الأوحد كمحاكاة للنظام في الاتحاد السوفيتي السابق، الذي عمل خلال سنوات حكمه لتوطيد العلاقات معه في كافة المجالات. 

ولم يف قاسم بالوعود التي قطعها للعراقيين بتنظيم انتخابات نزيهة وتشكيل حكومة مدنية وإنهاء كافة المظاهر المسلحة التي أعقبت انقلاب عام 1958، ولم يشكل مجلس قيادة الثورة الذي كان متفقا عليه بين الضباط الأحرار بعد سقوط النظام الملكي. 

بدأ قاسم عام 1959 بتحييد معارضيه ومنافسيه، وأعدم 36 ضابطا من زملائه، بينهم رفعت الحاج سري قائد تنظيم ضباط الأحرار، ومن ثم عزل المئات من الضباط من صفوف الجيش العراقي خاصة الضباط الكُرد والبعثيين والقوميين العرب وحتى الشيوعيين من المعارضين له وقرب عددا من الضباط اليساريين ومن القوميين منه ومنحهم سلطات سياسية وعسكرية واسعة. 

تعرض قاسم في أكتوبر عام 1959 لمحاولة اغتيال عند مرور سيارته في شارع الرشيد ببغداد، نفذها البعثيون أصيب على إثرها هو واحد مرافقيه بجروح بينما قُتل سائقه. وسبقت هذه المحاولة بأشهر محاولة انقلاب عسكرية نفذها العقيد عبد الوهاب الشواف في الموصل، لكن قاسم تصدى لها وأخمدها وأعدم كافة المشاركين فيها. ولم تتوقف محاولات اغتياله، فبحسب مؤرخين تعرض قاسم خلال عام 1961 لأكثر من 6 محاولات باءت جميعها بالفشل. 

أما خارجيا، فازدادت عزلة قاسم دوليا وعربيا إثر محاولته ضم دولة الكويت عام 1961 بعد إعلان الأخيرة استقلالها وإلغاء اتفاقية الحماية مع بريطانيا. وطالب قاسم في مؤتمر صحفي في وزارة الدفاع بضم الكويت بحجة أنها أرض عراقية استقطعها البريطانيون. وعلى إثر طلب قاسم تدهورت العلاقات بين البلدين وقطع العراق علاقاته مع لبنان وتونس والأردن وإيران والولايات المتحدة واليابان لاعترافها بالكويت دولة مستقلة. 

وفي هذه الاثناء، كان البعثيون يخططون لتنفيذ انقلاب شباط العسكري ضد قاسم، ولأن أعدادهم في الجيش العراقي كانت قليلة وتقتصر على عدد قليل من الضباط، فقد وجدوا في العدد الكبير للضباط القوميين العرب في الجيش وسيلة لتنفيذ الانقلاب. 

واستفاد البعثيون من انشغال قاسم بالصراعات الداخلية والأزمات الخارجية وشكلوا مليشيا مسلحة تابعة لهم باسم "الحرس القومي". وكانت تتكون من أعضاء حزب البعث والمتطوعين الذين انضموا لهم وعدد من أعضاء الحزب الشيوعي المطرودين. وقد لعبت هذه المليشيا دورا بارزا في انقلاب شباط 1963. 

وضعت قيادة انقلاب شباط خطة محكمة للتنفيذ اختارت فيه يوم الجمعة، حيث حركة الشوارع بطيئة في بغداد مقارنة بالأيام الأخرى خاصة خلال شهر رمضان الذي يسهر البغداديون فيه ليلا حتى وقت السحور ويستيقظون متأخرين في اليوم التالي.

انطلقت شرارة الانقلاب مع اغتيال الحرس القومي لقائد القوة الجوية العراقية العميد جعفر أوقاتي الضابط اليساري المقرب من قاسم والمرشح لخلافته إذا اغتيل بالقرب من منزله حوالي الساعة 8 والنصف صباحا. وكانت قيادة الانقلاب المكونة من الضباط البعثيين والقوميين العرب تنتظر في معسكر أبو غريب غرب بغداد نبأ نجاح عملية اغتيال أوقاتي لتتحرك وتذيع بيان الانقلاب. 

طوقت قوة من الانقلابيين أجهزة إرسال الإذاعة القريبة من المعسكر في أبو غريب بعد أن استسلمت قوة الحماية. وأذاع القيادي في حزب البعث حازم جواد البيان الأول للانقلاب، وتلته أناشيد حماسية وقومية كان البعثيون أعدوها مسبقا خلال مرحلة التخطيط للانقلاب. 

وتحرك الحرس القومي على شكل مجاميع مكونة من 5 مسلحين لتطويق منازل الضباط والقادة الموالين لقاسم، وانتشروا في ساحة النسور وسط بغداد وهاجموا القرية السكنية الخاصة بالضباط وقتلوا بعضهم لترهيب الناس. 

وتزامنا مع التحركات البرية، انطلقت 3 طائرات حربية يقودها ضباط بعثيون من قاعدة الحبانية الجوية لإسناد الانقلابيين. كانت مهمة إحداها قصف وزارة الدفاع مقر عبد الكريم قاسم والأخرى توفير الحماية لقيادة الانقلاب في معسكر أبي غريب. أما الثالثة فهاجمت القاعدة الجوية في معسكر الرشيد ودمرت الطائرات التي كانت تحاول الطيران للتصدي للانقلاب. 

عند علمه بالانقلاب، توجه قاسم وبمشورة عدد من الضباط المرافقين له إلى وزارة الدفاع لقيادة عملية عسكرية وإنهاء الانقلاب. وكان أنصاره يتجمعون لتأييده قرب وزارة الدفاع وفي العديد من شوارع المدينة مطالبين بتزويدهم بالسلاح لمواجهة الانقلابيين لكنه وبحسب شهود عيان عاصروا تلك الحقبة رفض تزويدهم بالسلاح.

ومع تعرض مبنى وزارة الدفاع للقصف الجوي نجحت دبابات الانقلابيين في دخول بغداد بعد رفعها صور قاسم لتمويه أنصاره. لكنها مع الاقتراب من وزارة الدفاع بدأت بقصف المبنى وأنصار قاسم المحيطين بها، الأمر الذي تسبب في تفريق المتظاهرين ومقتل وإصابة العديد منهم. 
وعلى مدار يوم 8 شباط، كان قاسم يقود المعارك ويحاول استعادة السيطرة. لكن الانقلابيين سرعان ما كانوا يتوسعون ويبسطون السيطرة على الوحدات والمعسكرات والمباني الحكومية الواحدة تلو الأخرى.

وكان قادة الانقلاب، وهم كل من عبد السلام عارف وأحمد حسن البكر وعلي صالح السعدي، متواجدين في مبنى الإذاعة والتلفزيون في منطقة الصالحية منتظرين حسم المعركة، ومحاولين التفاوض مساءً مع قاسم. لكن المفاوضات لم تنجح. وفي اليوم التالي، وبعد استمرار القتال بين الجانبين حتى الظهر، توصلا لاتفاق يقضي بتسليم قاسم ومن معه لأنفسهم مقابل محاكمتهم بشكل عادل.

سلم رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم نفسه ظهيرة 9 شباط 1963، واقتيد إلى أستوديو التلفزيون حيث جرت محاكمته من قبل محكمة خاصة شكلت برئاسة عبد الغني الراوي، وحكم عليه ورفاقه بالإعدام رميا بالرصاص وعرضت صورهم بعد تنفيذ الحكم على شاشة التلفزيون العراقي.

لم يتمكن انقلاب شباط من إصلاح الأوضاع في العراق، لأن الصراعات سرعان ما اشتدت بين القوميين والبعثيين على السلطة. وبدأ الحرس القومي، الذي منحه البعث إطارا قانونيا وسلحه وزاد من أعداده بعد الانقلاب، بالتدخل في شؤون الحكم والسيطرة على مفاصله، وقمع المدنيين وتنفيذ عمليات القتل والتغييب والاعتقالات القسرية. 

وشعر رئيس الجمهورية الجديد عبد السلام عارف بخطورة البعث ومليشيا الحرس القومي على سلطته، فتحرك بعد مرور 8 أشهر للقضاء على حزب البعث والحرس القومي مستفيدا من غضب قادة الجيش العراقي من تصرفاتهما. وبعد اشتباكات بين الجيش والحرس القومي، سيطر الجيش العراقي على مقرات الحرس وزج بقادة البعث في السجون وأعلنت الحكومة العراقية رسميا إنهاء حزب البعث في البلاد. 

دلشاد حسين

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.