سطوة العشيرة تهدد مدنية الدولة في العراق 
سطوة العشيرة تهدد مدنية الدولة في العراق 

لا تغيب ظواهر العشيرة عن حياة العراقيين، فحيثما تسير تجد عبارة "مطلوب عشائريا" على أحد المنازل، أو دوي أصوات المواجهات المسلحة في محافظات الجنوب التي باتت مشهدا دوريا تستخدم فيها حتى الأسلحة الثقيلة.

واتسعت سطوة العشيرة، لتسبب بعضها تفاقم ظواهر العنف ضد الأسرة والمرأة فضلا عن ضحايا نزاعتها المستمر.

في المقابل، تسعى وزارة الداخلية العراقية وبعض المعتدلين من شيوخ العشائر للحد من تلك السلوكيات وتنظيم أطر العمل العشائري بما لا يهدد هيبة وقوة الدولة والقانون. 

نزوح عشائري 

وجدت أم حسين (64 عام) نفسها مجبرة على إعالة نفسها وعائلتها بعد أن اضطرت للهرب من محافظة البصرة إلى ديالى، على إثر نزاع عشائري تورطت بها عائلتها مما اضطرها للمغادرة لحماية نفسها وأسرتها. 

ووسط ظروف شاقة تعيشها اليوم تضطر أم حسين إلى العمل في بيع السمك يوميا من الصباح وحتى المساء دون أمل بالعودة إلى سكنها الأصلي.

منذ ساعات الصباح الباكر، وحتى المساء، تبقى أم حسين أمام بسطتها الصغيرة لبيع السمك على أمل الحصول على بضع دنانير تعيل بها عائلتها المكونة من 11 عشر فردا، مطالبة بإيجاد حل لها وإنهاء معاناتها الممتدة لسنوات بسبب النزاعات العشائرية.

وتقول: "أطالب بإيجاد حل لمشكلتي، منذ ثلاث سنوات وأنا أعيش بعيدا عن محافظتي دون معيل، أولادي عاطلون عن العمل، وأنا لم أجد حلا سوى بيع السمك بعد أن سمح لي الناس بالجلوس هنا، كل يوم أخرج عند الثالثة فجرا وأعود عند العاشرة ليلا للبيت لأجل الحصول على 30 ألف دينار (15 دولار) فقط تسد رمقنا بالكاد". 

أم حسين تبيع الأسماك لساعات من أجل إعالة عائلتها

إحصائيات مقلقة 

 وأكّدت الإحصائيات الرسميّة أنّ المحافظات الجنوبيّة وبغداد جاءت في المراتب الأولى بالنزاعات العشائريّة، حيث احتلت البصرة المرتبة الأولى في هذه النزاعات، تليها ذي قار وميسان وبغداد وواسط.

كما أشارت إلى أن عدد الذين قتلوا في صراعات العشائر خلال عام 2021 بلغ 21 شخصاً، وأنّ بعض العشائر تمتلك صواريخ وطائرات مسيّرة ومدافع رشاشة وأسلحة أخرى ثقيلة استخدمتها خلال نزاعاتها الدمويّة. 

تلك الأرقام المرتفعة عاما بعد آخر، أثارت المخاوف لدى مواطنين وحقوقيين بالشكوى من اتساع سطوة العشيرة وانتهاج سلوكيات تسببت بتفاقم ظواهر العنف الأسري واضطهاد المرأة.

المواطن ثائر أبراهيم (43 عاما) يرى بأن العشيرة أصبحت دولة موازية تحكم بمفردها وتمتلك قانونا خاصا، موضحا أنه "لا تمر فترة دون أن نرى حرقا لمنزل تحت مسميات القصاص أو عبارة على آخر مطلوب دم للعشيرة، العشائر تتحرك كقوة منفصلة لا تأبه بالقانون أو الحكومة، حتى أنها تشجع أحيانا على جرائم مجتمعية تمارس بحق المرأة والأسرة ولا يحاسب مرتكبوها تحت غطاء العشائر وسطوتها".

وطالب عضو مفوضية حقوق الإنسان، فاضل الغراوي، الحكومة العراقية باتخاذ إجراءات واسعة وصارمة إزاء أعمال العنف التي تحصل بين عشائر عراقية.

ويؤكد الغراوي أن "استمرار النزاعات العشائرية من دون رادع من قبل الحكومة يهدد السلم المجتمعي العراقي"، لافتاً إلى "سقوط مدنيين نتيجة الرصاص الطائش الذي تستخدمه العشائر"، ودعا "العشائر وشيوخها إلى وقف هذه الصراعات التي لا تمثل دور العشائر المعروفة بانضباطها وعدم ممارستها أو لجوئها إلى الأعمال المسلحة العنيفة".

شيوخ مستحدثون 

في المقابل، عبّر بعض شيوخ العشائر عن رفضهم لشيوع مثل تلك الظواهر مبررين انتشارها بوجود الدخلاء والطارئين.

كما يدين الشيخ علي عبد كاطع، شيخ عشائر الأكَرع، في بغداد تلك الممارسات مشيرا إلى أن من يقوم بها من ممثلي العشائر "هم ليسوا بشيوخ أو أولاد شيوخ، بل سماسرة يمتهنون مشيخة العشيرة لإجبار الناس على دفع الدية العشائرية والاستفادة منها".

الشيخ علي عبد كاطع انتقد الشيوخ "المرتزقة"

وبيّن أن البعض من أصحاب الأموال بدأ الادعاء بأنه شيخ عشيرة، "تارة تراه مع الدولة وتارة ضدها حسب مصلحته"، ووصفهم بـ "المرتزقة، بعد تسببهم بخراب أصالة العشيرة ودورها في حفظ القيم ومنع الاعتداء على الآخرين". 

معدلات النزاع وتحركات الداخلية 

ووفقا لوزارة الداخلية فإن العشائر العراقية تمتلك سبعة ملايين قطعة سلاح أغلبها غير مرخص رغم كل مشاريع حصر السلاح بيد الدولة من قبل جميع الحكومات المتعاقبة بعد عام 2003، في المقابل تقول إنها اتبعت استراتيجية قائمة على تفعيل دوائرها المجتمعية وبث التثقيف والتوعية إزاء مخاطر تلك الظواهر.

اللواء خالد المحنة، المتحدث باسم وزارة الداخلية يبين أن الوزارة "وضعت استراتيجية وأوعزت إلى المديريات التابعة لها بضرورة مكافحة هذه الظواهر"، لافتاً إلى أن "هذه الظواهر ما زالت تحدث بين الحين والآخر لكن عند النظر إلى مستوى العدد نراه في تناقص مستمر". 

مدنية الدولة مهددة  

وتضمنت وثيقة صادرة عن شيوخ عموم القبائل تم التوقيع عليها خلال مؤتمر عقد لشيوخ العشائر في شهر أكتوبر الماضي تعديلا لبعض العادات التي لم تعد تتماشى مع القانون العراقي والدولي.

أبرز هذه التعديلات تضمن إنهاء ظواهر النهوة والفصلية المجحفة بحق النساء ونبذ العنف الأسري وتعزيز مفهوم المواطنة ومساندة سلطة القانون.

لكن ورغم تلك التحركات لا تقتصر مخاطر سطوة العشيرة حتى اليوم على النزاعات وحسب بل امتدت لتهديد مدنية الدولة وتفشي العنف الأسري وسط محاولات المعتدلين من شيوخها والحكومة لإيقاف تفشي تلك الظواهر. 

وثيقة شيوخ العموم لقبائل العراق الصفحة الأولى
وثيقة شيوخ العموم لقبائل العراق الصفحة الثانية

 

وثيقة شيوخ العموم لقبائل العراق الصفحة الثالثة

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.