"عرضة للاستغلال".. متسولّات "أنيقات" في بغداد
في أحد مطاعم بغداد، كانت أسيل جعفر (27 عاماً)، توشك على تناول البيتزا التي وصلتها للتو، حتى امتدت يد فتاة يرافقها طفل في الخامسة من عمره، تطلب منها ألفي دينار (1.5 دولار أميركي)
تقول لـ"ارفع صوتك": "كانت ترتدي ملابس أنيقة، وطلبت مني المال بصوت منخفض، فاستجبتُ لها ظناً من أن الطفل تسبب بإحراجها لشراء شيء ما".
"وما إن حصلت على النقود، حتى انتقلت لطاولة أخرى تكرر طلبها"، تضيف سجى.
ما حصل معها، مشهد متكرر ويغلب عليه طابع التجديد -إن جاز التعبير- في التسوّل. حيث تنتشر شابات بملابس أنيقة ذات ألوان زاهية، يحملن حقائب صغيرة، في شوارع بغداد، ويتجولن داخل متاجر ومقاه ومطاعم، بقصد التسوّل.
وتطلب المتسولات المال "بأسلوب لطيف دون توسّل واستعطاف، كما هو المعتاد، وبعضهن يتعاملن مع الأمر كأنه وظيفة"، وفق سجى.
"أنا لا أتسوّل"
وتتبعاً لهذه الظاهرة، نلتقي الشابة إيمان (23 عاماً)، التي هربت وأختها مع والدتهما من الموصل إلى بغداد، إثر مقتل والدها في المعارك مع داعش.
في البداية كانت تبيع المناديل الورقية قرب شارع تجاري، موضحة "لم تكن المهمة سهلة، إذ لا يمكنك استغلال أي مكان في الشارع ما لم تحصل على موافقة من يتواجد فيه من باعة جوالين ومتسولين".
وتتابع: "أخبرني أحد باعة علب المياه هناك بإمكانية البقاء في هذا الشارع مع منحه مبلغاً من المال يومياً".
وتضيف إيمان أن الأمر أشبه بتأجير مكان ما، وفي حال الامتناع عن الدفع بشكل يومي، فلن يُسمح لها في هذا الشارع أو ذاك.
وتحصّل يومياً حوالي 50 ألف دينار (17 دولار تقريبا)، فأغلب المارة من سائقي السيارات يتصدقون عليها بالمال مساعدة لا مقابل علب المناديل.
وأثناء تسوّلها، ترتدي إيمان ثياباً أنيقة وتغطي وجهها بكمامة، وتتعامل مع أصحاب السيارات بأسلوب مهذب، وفق تعبيرها، مضيفة "أنا لا أتسوّل، هذه مهنتي كأي موظف".
وبرأيها، فإن الناس "ما عادوا يتقبلون أساليب التوسّل والرجاء والبكاء للحصول على المال، وقدرون أكثر الثياب المرتبة والجميلة".
"استغلال الفتيات"
في نفس السياق، ترى الناشطة الحقوقية عذراء محسن، أن أساليب التسول الجديدة، من حيث السلوك والملابس والهيئة العامة "طريقة تحاول بها المتسولات إيصال صورة بأنهن نشأن في بيئة بعيدة عن التسول ولكن الظروف القاهرة أجبرتهن على ذلك".
وتضيف لـ"ارفع صوتك": "وهو بالفعل ما حدث ويحدث، إذ أن الكثير من الفتيات اللواتي يتسولن بحجة بيع ما لديهن من سلع بسيطة ورخيصة الثمن، نجدهن من عوائل لم يمتهن أفرادها في يوم ما التسول، ولكن نتيجة الحروب والأزمات والفقر والنزوح والتشرد اضطررن لذلك".
وتتابع محسن: "كما توجد فتيات لم يتمكن من إيجاد فرص عمل مناسبة لهن، خاصة أن غالبيتهن لم يكملن تحصيلهن الدراسي، لذا نرى الكثير من الناس يتعاطفون معهن ويحاولون مساعدتهن".
"لكن هذا لا يمنح التسول شرعية" تستدرك محسن، مشيرة إلى أن "الكثير من أفراد المافيات وعصابات الجريمة المنظمة حاولوا استغلال الفتيات الفقيرات وتوريطهن في التسول وبعض الجرائم".
وكان الناطق باسم وزارة الداخلية اللواء خالد المحنا، أكد في تصريح سابق، إلقاء القبض على عصابات منظمة تقف وراء ظاهرة التسول في البلاد.
قانون العقوبات
ويعاقب قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل في المادة 390/1 بالحبس مدة لا تزيد عن شهر كل شخص أتم الثامنة عشرة من عمره وكان له مورد مشروع يتعيش منه أو كان يستطيع بعمله الحصول على هذا المورد، وجد متسولا في الطريق العام أو في المحلات العامة، أو دخل دون إذن منزلاً أو محلاً ملحقاً لغرض التسول، وتكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر إذا تصنّع المتسول الإصابة بجرح أو عاهة أو ألحَّ في الاستجداء.
أما المادة 390/2 فتنص: "إذا كان مرتكب هذه الأفعال لم يتم الثامنة عشرة من عمره تطبق بشأنه احكام مسؤولية الأحداث في حالة ارتكاب مخالفة ويجوز للمحكمة بدلا من الحكم على المتسول بالعقوبة المنصوص عليها في المادة السابقة أن تأمر بإيداعه مدة لا تزيد على سنة داراً للتشغيل إن كان قادراً على العمل أو بإيداعه ملجأً أو داراً للعجزة إذا كان عاجزاً عن العمل".
من جهته، يقول المحامي ثائر أحمد لـ"ارفع صوتك"، إن "المشكلة ليست في تنفيذ القوانين فحسب، بل في الظروف التي أدت إلى فعل التسول سواء للصغار أو الكبار ومن كلا الجنسيين".
"فالقانون غير كاف، إذ يتعامل مع المتسول من كلا الجنسيين على أنه مرتكب جريمة يمكن الإفراج عنه بعد قضاء مدة الحبس، ما يعني العودة إلى التسول"، يتابع أحمد.
ويشير إلى أن الكثير ممن امتهنوا التسول يتم إلقاء القبض عليهم ومحاكمتهم وحبسهم وفق عقوبة القانون، ليعودوا بعد الإفراج عنهم للتسول من جديد.
ورغم استحداث قسم التسول داخل دائرة ذوي الاحتياجات الخاصة للوقوف على هذا الشأن، إلا أن الأمر غير كاف، وفق أحمد.
بقول: "نحن بحاجة للنظر في الظروف التي تدفع للتسول وإيجاد الحلول الواقعية من أماكن مخصصة لهم ومجهزة بكل شيء، خصوصا الفتيات، لحمايتهن من الاستغلال والتورط مع عصابات الجرائم المنظمة".