العراق

"عرضة للاستغلال".. متسولّات "أنيقات" في بغداد

03 مايو 2022

في أحد مطاعم بغداد، كانت أسيل جعفر (27 عاماً)، توشك على تناول البيتزا التي وصلتها للتو، حتى امتدت يد فتاة يرافقها طفل في الخامسة من عمره، تطلب منها ألفي دينار (1.5 دولار أميركي)

تقول لـ"ارفع صوتك": "كانت ترتدي ملابس أنيقة، وطلبت مني المال بصوت منخفض، فاستجبتُ لها ظناً من أن الطفل تسبب بإحراجها لشراء شيء ما".

"وما إن حصلت على النقود، حتى انتقلت لطاولة أخرى تكرر طلبها"، تضيف سجى.

ما حصل معها، مشهد متكرر ويغلب عليه طابع التجديد -إن جاز التعبير- في التسوّل. حيث تنتشر شابات بملابس أنيقة ذات ألوان زاهية، يحملن حقائب صغيرة، في شوارع بغداد، ويتجولن داخل متاجر ومقاه ومطاعم، بقصد التسوّل. 

وتطلب المتسولات المال "بأسلوب لطيف دون توسّل واستعطاف، كما هو المعتاد، وبعضهن يتعاملن مع الأمر كأنه وظيفة"، وفق سجى.

 

"أنا لا أتسوّل"

وتتبعاً لهذه الظاهرة، نلتقي الشابة إيمان (23 عاماً)، التي هربت وأختها مع والدتهما من الموصل إلى بغداد، إثر مقتل والدها في المعارك مع داعش.

في البداية كانت تبيع المناديل الورقية قرب شارع تجاري، موضحة "لم تكن المهمة سهلة، إذ لا يمكنك استغلال أي مكان في الشارع ما لم تحصل على موافقة من يتواجد فيه من باعة جوالين ومتسولين".

وتتابع: "أخبرني أحد باعة علب المياه هناك بإمكانية البقاء في هذا الشارع مع منحه مبلغاً من المال يومياً". 

وتضيف إيمان أن الأمر أشبه بتأجير مكان ما، وفي حال الامتناع عن الدفع بشكل يومي، فلن يُسمح لها في هذا الشارع أو ذاك. 

وتحصّل يومياً حوالي 50 ألف دينار (17 دولار تقريبا)، فأغلب المارة من سائقي السيارات يتصدقون عليها بالمال مساعدة لا مقابل علب المناديل.

وأثناء تسوّلها، ترتدي إيمان ثياباً أنيقة وتغطي وجهها بكمامة، وتتعامل مع أصحاب السيارات بأسلوب مهذب، وفق تعبيرها، مضيفة "أنا لا أتسوّل، هذه مهنتي كأي موظف".

وبرأيها، فإن الناس "ما عادوا يتقبلون أساليب التوسّل والرجاء والبكاء للحصول على المال، وقدرون أكثر الثياب المرتبة والجميلة".

 

"استغلال الفتيات"

في نفس السياق، ترى الناشطة الحقوقية عذراء محسن، أن أساليب التسول الجديدة، من حيث السلوك والملابس والهيئة العامة "طريقة تحاول بها المتسولات إيصال صورة بأنهن نشأن في بيئة بعيدة عن التسول ولكن الظروف القاهرة أجبرتهن على ذلك".  

وتضيف لـ"ارفع صوتك": "وهو بالفعل ما حدث ويحدث، إذ أن الكثير من الفتيات اللواتي يتسولن بحجة بيع ما لديهن من سلع بسيطة ورخيصة الثمن، نجدهن من عوائل لم يمتهن أفرادها في يوم ما التسول، ولكن نتيجة الحروب والأزمات والفقر والنزوح والتشرد اضطررن لذلك". 

 وتتابع محسن: "كما توجد فتيات لم يتمكن من إيجاد فرص عمل مناسبة لهن، خاصة أن غالبيتهن لم يكملن تحصيلهن الدراسي، لذا نرى الكثير من الناس يتعاطفون معهن ويحاولون مساعدتهن". 

"لكن هذا لا يمنح التسول شرعية" تستدرك محسن، مشيرة إلى أن "الكثير من أفراد المافيات وعصابات الجريمة المنظمة حاولوا استغلال الفتيات الفقيرات وتوريطهن في التسول وبعض الجرائم".

وكان الناطق باسم وزارة الداخلية اللواء خالد المحنا، أكد في تصريح سابق، إلقاء القبض على عصابات منظمة تقف وراء ظاهرة التسول في البلاد.

 

قانون العقوبات

ويعاقب قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل في المادة 390/1 بالحبس مدة لا تزيد عن شهر كل شخص أتم الثامنة عشرة من عمره وكان له مورد مشروع يتعيش منه أو كان يستطيع بعمله الحصول على هذا المورد، وجد متسولا في الطريق العام أو في المحلات العامة، أو دخل دون إذن منزلاً أو محلاً ملحقاً لغرض التسول، وتكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر إذا تصنّع المتسول الإصابة بجرح أو عاهة أو ألحَّ في الاستجداء. 

أما المادة 390/2 فتنص: "إذا كان مرتكب هذه الأفعال لم يتم الثامنة عشرة من عمره تطبق بشأنه احكام مسؤولية الأحداث في حالة ارتكاب مخالفة ويجوز للمحكمة بدلا من الحكم على المتسول بالعقوبة المنصوص عليها في المادة السابقة أن تأمر بإيداعه مدة لا تزيد على سنة داراً للتشغيل إن كان قادراً على العمل أو بإيداعه ملجأً أو داراً للعجزة إذا كان عاجزاً عن العمل". 

من جهته، يقول المحامي ثائر أحمد لـ"ارفع صوتك"، إن "المشكلة ليست في تنفيذ القوانين فحسب، بل في الظروف التي أدت إلى فعل التسول سواء للصغار أو الكبار ومن كلا الجنسيين". 

"فالقانون غير كاف، إذ يتعامل مع المتسول من كلا الجنسيين على أنه مرتكب جريمة يمكن الإفراج عنه بعد قضاء مدة الحبس، ما يعني العودة إلى التسول"، يتابع أحمد. 

ويشير إلى أن الكثير ممن امتهنوا التسول يتم إلقاء القبض عليهم ومحاكمتهم وحبسهم وفق عقوبة القانون، ليعودوا بعد الإفراج عنهم للتسول من جديد. 

ورغم استحداث قسم التسول داخل دائرة ذوي الاحتياجات الخاصة للوقوف على هذا الشأن، إلا أن الأمر غير كاف، وفق أحمد.

بقول: "نحن بحاجة للنظر في الظروف التي تدفع للتسول وإيجاد الحلول الواقعية من أماكن مخصصة لهم ومجهزة بكل شيء، خصوصا الفتيات، لحمايتهن من الاستغلال والتورط مع عصابات الجرائم المنظمة".

مواضيع ذات صلة:

فقد تنظيم داعش مصدر تمويله الرئيسي، النفط، بعد خسارته لأراضيه في سوريا والعراق.
فقد تنظيم داعش مصدر تمويله الرئيسي، النفط، بعد خسارته لأراضيه في سوريا والعراق.

يبدو تنظيم داعش، عندما يتعلق الأمر بالتمويل والبحث عن مصادر دخل تنعش موارده المتدهورة، أشبه بكيان متمرس في عالم المافيا والجريمة المنظمة. الكثيرون، بمن فيهم أمراء كبار، انشقوا عنه حينما صدمتهم هذه الحقيقة. 

قيادة التنظيم نفسها تدرك جيدا أن تسليط الضوء على هذا الجانب من نشاطات التنظيم يقوض الصورة التي رسمها لنفسه أمام أتباعه وأنصاره. لذلك لم يتبنَّ يوما أي عملية قتل أو تخريب قام بها باسم جباية ما يسميها "الكلفة السلطانية" رغم أن جزءا من جهوده، لا سيما في شرق سوريا، مكرس لهذا النشاط الشنيع.

 

الكلفة السلطانية

 

منذ خسارة التنظيم للمساحات الشاسعة التي كان يسيطر عليها في سوريا والعراق، وما نجم عن ذلك من فقدانه لما تدره عليه المعابر وحقول النفط من موارد مالية كبيرة، فَعّل التنظيم عددا من "الخطط الاقتصادية" البديلة كان من بينها جباية ما يسميها "الكلفة السلطانية".

تعد " الكلفة السلطانية" نشاطا مدرا للدخل إلى جانب نشاطات أخرى ضمن "اقتصاد الحرب" تضخ في خزينة التنظيم أموالا طائلة، مثل التهريب، والاختطاف، وتجارة الآثار، والسطو على البنوك ومحلات الصرافة، واستحواذه على احتياطات العملة الصعبة والذهب في المدن التي اجتاحها، ونهب ممتلكات الطوائف الأخرى وغيرها.

تزامنت ثورة مواقع التواصل الاجتماعي مع الصعود السريع لتنظيم داعش عام 2013.
"داعش".. خلافة رقمية يطوقها مارد الذكاء الاصطناعي
الشركات التكنولوجية الكبيرة شرعت منذ 2017 في الاعتماد كليا على خوارزميات الذكاء الاصطناعي لرصد وحذف المواد التي تروج للتطرف العنيف على منصاتها، بينما اقتصر دورها في السابق على تكميل جهود فرق بشرية يقع على عاتقها عبء هذه العملية برمتها.

لعدة سنوات ظل التنظيم يجمع " الكلفة السلطانية" لاسيما في مناطق الشرق السوري، حيث تنتشر حقول النفط، والمساحات الزراعية، وممرات التهريب، والمتاجر ومحلات الصرافة. لكنه لم يكن يتحدث عن ذلك لا في إعلامه الرسمي ولا الرديف، بل وتحاشى الاشارة إليها حتى في مراسلاته الداخلية، لأنه يدرك أن جدلا محموما سينتج عن ذلك، وسيحتاج إلى فتاوى دينية وجهود دعائية كبيرة لإقناع أتباعه بـ"وجاهة" أفعاله، وقد خرج أعضاء سابقون في التنظيم ونشروا على قنواتهم الرقمية "أن إرغام المسلمين غصبا وبحد السيف على إعطاء جزء من حلالِهم لثلة من المفسدين في الأرض هو عمل عدواني لا يقوم به إلا أهل البغي وقطاع الطرق".

 

ضريبة على رعايا الخليفة!

 

ينبغي التفريق هنا بين ما ينهبه التنظيم ممن يعتبرهم "كفارا ومرتدين" والذي يسميه ب"الفيء" و"الغنيمة" وبين ما يجبيه باسم "الكلفة السلطانية". فالكلفة السلطانية هي ضريبة يؤديها "المسلمون ورعايا الخليفة" بالقوة والإكراه، أي أن المستهدفين بها هم في عرف التنظيم من المسلمين الذين "لا تحل أموالهم ودماؤهم" ولا تدخل "الكلفة السلطانية" أيضا ضمن الزكاة الواجبة التي تتم جبايتها قسرا من المسلمين من طرف أمنيي التنظيم.

وبعد انكشاف أمر عمليات السطو والنهب هذه لم يجد التنظيم بدا من الحديث عنها في مراسلاته الداخلية، وانتداب أحد شرعييه لصياغة فتوى لتسويغها من الناحية الدينية.

صاغ أبو المعتصم القرشي، وهو أحد كوادر "المكتب الشرعي" لـ"ولاية الشام" فتوى مطولة في 12 صفحة، وحشد فيها مجموعة من النصوص الدينية والقواعد الأصولية التي اعتبرها "أدلة شرعية" على جواز نهب أموال المسلمين بالقوة والإكراه!.

عَرّف القرشي الكلفة السلطانية بأنها " الأموال التي يطلبها الإمام من الناس لأجل مصلحة شرعية". ولعجزه عن إيجاد نصوص قطعية من الكتاب والسنة لتبرير هذه "البدعة الداعشية"، فقد لجأ إلى القواعد الأصولية من قبيل" يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام" و" درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، و" تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما"، و"ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".

يعني هذا ببساطة أن مصلحة استمرار عمليات التنظيم والحفاظ على قوته ومقدراته مقدمة على مصالح الناس الأخرى، وأن تواصل عمليات التنظيم باعتبارها "جهادا مقدسا"  إذا لم يتم إلا بالسطو على أموال الناس فيجب السطو عليها.

أكد القرشي في نص فتواه جواز استخدام العنف والقوة لجباية الأموال، قائلا: "لا شك أن المال عصب الجهاد، والإعداد لا يكون إلا به، فتحصيله وتوفيره واجب على الإمام ولو بالقوة والإكراه"، ومن امتنع عن أداء "الكلف السلطانية جاز للإمام أو من ينوب عنه أن يعزره بشكل يكون رادعا له ولغيره حتى يؤدي ما عليه من الحقوق المالية في هذا الشأن".

أما الفئات الاجتماعية المستهدفة بهذه الضريبة، فقد قدم أبو المعتصم سردا طويلا بأصحاب المهن والمحلات التجارية والأطباء والصرافين والفلاحين والمدارس والكليات وتجار الدجاج والبيض وتجار المواشي والمستشفيات. ولم يترك أي نشاط مدر للدخل إلا وأشار إليه ضمن الذين فرض عليهم دفع "الكلف السلطانية"، ولم يستثن سوى أصحاب البسْطات على الأرصفة.

أخطر ما في الفتوى هو أن الممتنع عن أداء ما يطلبه التنظيم من أموال سيكون مصيره القتل والحكم عليه بالردة، و" طريقة استخدام القوة تتفاوت حسب المعاندة والممانعة بين التهديد، والإتلاف لبعض المال، أو التعزير، أو التغريم المالي وحتى الجسدي، ثم القتل إذا استعان الممتنع بشوكة الكفار والمرتدين على المجاهدين فعندها يُطبق عليه حكم الردة" حسب تعبير أبي المعتصم القرشي.

 

معاناة الناس في شرق سوريا

 

في شرق سوريا، يتم استخلاص هذه الضريبة بعد توجيه رسائل تهديد بأرقام دولية عبر تطبيق واتساب إلى المعنيين، وتخييرهم بين دفع "السلطانية" أو مواجهة خلايا الاغتيال، بعد تخريب ممتلكاتهم وتقويض مشاريعهم التجارية والاستثمارية.

وحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد ارتفعت هذا العام نسبة تلك الضرائب إلى حد كبير جداً مقارنة بالسنوات الفائتة، حتى بلغت نحو 616 ألف دولار من تجار النفط والمستثمرين.

وحصل المرصد على إفادة من أحد العاملين في شركة مستثمرة في قطاع النفط في المنطقة الشرقية (دير الزور) تقول بأن الشركة رفضت دفع كامل المبلغ المطلوب منها تحت مسمى "الكلفة السلطانية"، والتي قدرها التنظيم بنصف مليون دولار أميركي، ودفعت بدلها 300 ألف دولار، لكن التنظيم هدد سائقي صهاريج المحروقات التي تعمل لصالح الشركة بالاستهداف إذا لم يتم دفع المبلغ كاملا في غضون أسابيع، ولم يعد لدى الشركة خيار آخر سوى تدبير ما تبقى من المبلغ.

مستثمر آخر في قطاع النفط توصل برسالة عبر تطبيق الواتساب من رقم دولي مفادها بأن عليه دفع "الكلفة السلطانية" البالغ قدرها 75 ألف دولار، وعدم إخبار أي جهة تابعة لقسد أو التحالف الدولي بذلك ووجهت له تهديدات في حال التبليغ أو عدم دفع المبلغ خلال أسبوع، وأن خلايا التنظيم ستقوم بزرع عبوة في سيارته أو حرق بئر النفط الذي يعود له.

ولفت المرصد إلى أن خلايا داعش في بادية ريف دير الزور الشرقي تفرض ضرائب تتراوح بين 1000 و3500 دولار، في مناطق ذيبان وحوايج ذيبان وجديد بكارة، على المستثمرين الذين يعملون على توريد المحروقات إلى "سادكوبى" التابعة للإدارة الذاتية في دير الزور.

يعمد التنظيم أيضا إلى حرق المحاصيل الزراعية التي تعود للفلاحين الذين رفضوا الرضوخ لابتزازه ودفع الأموال التي يطلبها منهم، ورمي القنابل اليدوية على منازل الأثرياء، وعيادات الأطباء، وقد هرب عدد من الأطباء من المنطقة الشرقية بعدما أثقل التنظيم كاهلهم بالضرائب و"المكوس"، ولا سيما وقد وضعهم في رأس قائمة أهدافه لأنهم -حسب اعتقاده- يجنون الأموال أكثر من غيرهم.