عمل تطوعي يقابله نبذ اجتماعي.. غاسلات الموتى في العراق
أمام باب المطبخ في باحة المنزل الخارجية، شرعت الأخوات الثلاث بتعليق ستائر من القماش كحواجز تغطي جثة جدتهن التي ستبدأ الحاجة عالية (56 عاماً)، بطقوس غسلها وتكفينها.
هكذا تسرد الحاجة عالية، وهي امرأة تأخذ على عاتقها مهمة تغسيل الموتى من النساء والأطفال واحدة من القصص التي واجهتها، فتقول لـ "ارفع صوتك" إن "حمام المنزل كان صغيراً، لذا اضطررنا لاستغلال باحته الخارجية بعد إحاطة السرير بستائر من الجهات كافة، كي نتمكن من غسلها وتكفينها".
في الغالب، تنفذ طقوس غسل جثث النساء في منازلهن، لكن البعض منهم ما زالوا يفضلون غسلهن في غرف خاصة متوافرة في الجوامع والمساجد، أو في مغتسلات خاصة بالنساء في المقابر.
وترى الحاجة التي توارثت هذه المهمة من والدتها أنها تطوعية، غايتها مساعدة الناس في محنة الفقد.
بدأت عالية المهنة حين كانت شابة في التاسعة عشرة، وكان الخوف الشديد من رؤية الموتى والاقتراب منهم يتملكها، وقبل أن يتبدد مع مرور الأيام، رفضت الدخول مع والدتها ومساعدتها في تغسيل الجثث مراراً.
ولا تجني أموالاً تُفرض على أهل المتوفاة مقابل تغسيل الجثة، باعتباره "عملاً تطوعياً" والأمر متروك للأهل بالدفع من عدمه.
"غاسلات الموتى في السابق كن لا يطلبن المال من أهل الميت، إذ كان المتعارف عليه أن يمنح خاتم المرأة المتوفاة هدية لمن تقوم بغسل جثتها"، تضيف عالية.
ودأبت النساء في السابق على أن يتركن وصية لكل من يعيش معهن في "أن الخاتم الذي تواظب إحداهن على ارتدائه في إصبعها طيلة حياتها، من نصيب المرأة التي ستقوم بتغسيل جثتها وتكفينها".
وفي الوقت الحالي، تتخذ الكثير من غاسلات الموتى من فكرة الحصول على مناشف تغسيل الجثة، ثمناً لعملهن التطوعي بذريعة أن الكثير من عائلات الميت لا يتمكنون من شراء المناشف لتدني مستواهم المعيشي.
وواجهت الحاجة عالية الكثير من القصص خلال مهمتها هذه التي تعد رسمية ومرخصة من قبل الجهات الحكومية، بعضها تبدو غريبة وغير متداولة، لذلك فهي ترى أنها من "أخطر وأقدس المهام التي من الممكن أن تُستغل بطريقة غير إنسانية" وفق تعبيرها.
نظرة المجتمع
الكثير من اللواتي يتطوعن بهذه المهمة يتعرضن للابتزاز والاستغلال، خصوصاً من قبل العاملين في السحر والشعوذة، وهدفهم الحصول على "المياه التي تغتسل فيها الجثة أو خصلة شعر من رأسها أو الصابونة، مقابل مبالغ مالية كبيرة"، كما تقول أم علي (62 عاماً).
كما تمثل نظرة المجتمع تحدياً كبيراً، فالكثير من الناس يرفضون الاقتراب منهن أو التعامل اليومي معهن أو تناول الطعام أو الماء من أيديهن.
تضيف أم علي، لـ"ارفع صوتك" أن "من تعمل بتغسيل الموتى تواجه الكثير من التحديات في تعاملها مع الآخرين وخاصة المعارف والأقارب والجيران، لشعورهم بالقرف أو التقزز، لأن الأمر يتعلق بجثة ميت".
"بل يتعداه الأمر إلى الابتعاد عن الزواج من أبناء وبنات غاسلات الموتى، إلاّ إذا كانوا ينحدرون من عائلات تمتهن بعض الأعمال المشابهة أو التي تتعلق بالميت، إذ يرى البعض أن هناك علاقة بين هذه المهمة وممارسات السحر والشعوذة، بينما غيرهم لا يشعر بالراحة النفسية عند الاقتراب منا أو التعامل معنا"، تتابع أم علي.
وتؤكد أن هذه المهنة التي تعلمتها من زوجها دافن الموتى "من أصعب الأعمال، خاصة عند النساء، لقلة أعدادهن التي تزيد من مشقته".
وتقول أم علي أن هذه المهنة تأتي بالوراثة بين نساء العائلة ورجالها، ونادراً ما ينخرط فيها أحد لا تاريخ عائلي يجمعه بها.
فيروس كورونا
أخت زوجها سماح عبد (43 عاماً)، المتزوجة من رجل يعمل في بيع الأعشاب الطبية، عملت أيضاً في غسل الموتى لكنها لم تتمكن من الاستمرار لأنها فضلت حياة أخرى.
تقول سماح لـ "ارفع صوتك"، إن "قرار الابتعاد عن مهمة غسل الموتى، كان مع انتشار فيروس كورونا خشية انتقال العدوى إليها".
يظهر الحزن على وجه سماح عندما تتحدث عن القصص التي واجهتها في تغسيل الموتى، فهي لا تحبها ولكنها كانت مضطرة بسبب ضغوط زوجها.
تضيف "كثيرون لا يتقبلون أصحاب المهن التي لها علاقة بالموت والجنائز والقبور. بالنسبة لهم، ترتبط هذه المهن ارتباطاً وثيقاً بمن هم أدنى منهم مكانة ويتعاملون بفوقية كبيرة، فضلاً عن شعورهم الدائم بأنهم قد ينقلون الأمراض النفسية وخاصة المتعلقة بالجن".
لكن انتشار الوباء كان "منقذها"، موضحة أن "قلق زوجها على حياتهما وأطفالهما كان وراء الابتعاد عن هذه المهنة".
وتشير سماح إلى أنها لم تتقبل يوماً هذه المهنة التي مارستها بشكل متقطع لأكثر من تسع سنوات، لأنها كانت تدفعها للشعور بالاكتئاب والحزن، فتمضي أياما بلا طعام أو تعود على طبيعتها بعد كل عملية غسل.
"مهما كان الدافع إنساني وتطوعي وراء تغسيل الموتى، فإن العديد من الناس يجدون الأمر صعباً، وغالباً ما يتحدثون معك وكأنك شخصاً غير مقبول أو غير طبيعي"، تقول سماح.