حينما أشرقت شمس يوم الخميس 29 أكتوبر عام 1936، كان العراق على موعدٍ مع حدثٍ غير عادي. احتشدت طائرات الجيش في سماء بغداد وأمطرت مدينة المنصور بمنشور حمل توقيع الفريق بكر صدقي "قائد القوة الوطنية الإصلاحية". حينها كان بكر يشغل منصب قائد الفرقة الثانية في الجيش العراقي، وعُرف بعلاقته الوطيدة بملك البلاد غازي بن الحسين.
توجّه البيان بالحديث إلى "الشعب العراقي الكريم"، مُعلنًا أن الجيش "نفد صبره" إزاء الحكومة الحالية (كان يقودها السياسي البارز ياسين الهاشمي)، واعتبر أنها لا تهتمُّ إلا بـ"مصالحها وغاياتها الشخصية دون أن تكترث لمصالح الشعب ورفاهيته". وأعلن البيان أن "الواجب الوطني" دفع الجيش العراقي إلى "تقديم طلب إلى صاحب الجلالة الملك المفدى" للإطاحة بالحكومة الجائرة وتشكيل وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان "الذي لطالما لهجت البلاد بذكره الحسن ومواقفه المشرفة".
بهذه الصياغة، لم يتخطَّ قادة الحركة الخطوط الحُمر كثيرًا رغم تمرّدهم على الدولة واحتلالهم العاصمة، فلم يجنحوا بمطالبهم أكثر من مُطالبة الملك بتغيير الحكومة، وهو ما يعني إقرارا بالنظام الحاكم ورغبة في أن يمرَّ التغيير المطلوب من خلاله، لكن رغم ذلك شكّلت سابقة لا نظير لها في السياسة العراقية.
بعد مُضي ساعاتٍ قليلة على إصدار هذا البيان، استضاف غازي ملك العراق في قصره عددا من كبار رجال سياسة دولته مثل نوري السعيد ورستم حيدر والسفير البريطاني وأقاموا مداولات سريعة انتهت بإقرار رغبة ضباط الجيش وإقالة حكومة ياسين الهاشمي وتكليف السياسي حكمت سليمان بالوزارة الجديدة، تمامًا كما طالب قادة الانقلاب.
في استقالته المُقدَّمة إلى الملك، لم ينسَ الهاشمي الإشارة إلى "قلة الخبرة وبعض الأطماع التي طوّحت بالمسؤولين عن الدفاع عن هذه البلاد، فأقدموا على حركة ستؤدي إلى نتائج غير محمودة".
وبعيدًا عن تلك النتائج "غير المحمودة"، التي كان أول مَن اكتوى بنارها هم قادة الحركة أنفسهم، فإن هذه الاستقالة أعلنت نجاح أول انقلاب عسكري في تاريخ العراق والعرب بأسرهم.
انقلابٌ أبيض- تقريبًا- إذ مرَّ بلا أحداث دموية باستثناء عدة قنابل جرى إسقاطها في بعض نواحي بغداد واغتيال جعفر العسكري وزير الدفاع الذي حاول مقابلة صدقي وإقناعه بالعدول عن تمرّده، وكان جعفر هو ضحية الانقلاب الوحيدة.
أما باقي خصوم صدقي السياسيين مثل ياسين الهاشمي ورشيد الكيلاني ونوري السعيد فقد هربوا إلى خارج العراق خوفًا من التنكيل بهم.
هل دبّر الملك هذا الانقلاب؟
يقول زهير خضر ياسين في دراسته "موقف الملك غازي من انقلاب بكر صدقي"، إن ياسين الهاشمي تواصل بشكلٍ مباشر مع بكر صدقي فور وقوع الانقلاب، وأن محادثة حادة جرت بين الرجلين أكد فيها الهاشمي أنه لن يستقيل إلا لو طلب منه الملك ذلك، ففوجئ ببكر يخبره أن الملك نفسه من أمره بالانقلاب عليه!
لاحقًا، نفى الملك غازي للهاشمي أي مشاركة له في تدبير هذا الانقلاب، لكن ياسين تأكد من أن الملك لا يخبره الحقيقة بعدما اقترح عليه الاستعانة بباقي ألوية الجيش لسحق هذا التمرد فرفض غازي. هنا، سلّم الهاشمي بأن حكومته مغضوب عليها من القصر والجيش وعليها أن ترحل فورًا.
شهادة أخرى توحي أن الملك غازي كان على عِلم بالانقلاب قبل وقوعه هي شهادة حفظي عزيز الطيار الخاص بالملك، والذي حكى أن غازي استدعاه قبل الانقلاب بيوم وطلب منه التأكد من تزويد طائرته الخاصة بوقود يكفيها للوصول إلى عمان، وهو ما استنتج منه لاحقًا أن غازي أعدَّ خطة احتياطية حال فشل الانقلاب تمثّلت في الهروب إلى الأردن حيث يعيش عمه الأمير عبد الله.
أيضًا، كتب السفير البريطاني في ذلك الوقت، والذي كان حاضرًا خلال الاجتماع الأخير بين الملك غازي وياسين الهاشمي، في تقريره إلى لندن قائلا: "لقد كنت أراقب الملك بدقة، وأنا متأكد من قولي إنني اقتنعت بأن الملك كان على علمٍ مُسبّق بالانقلاب".
عن هذا اليوم يقول هاري سندرسون الطبيب الخاص بالعائلة المالكة في مذكراته: دُعيت إلى قصر الزهور (المقر الرسمي للحُكم) في الساعة العاشرة صباح 29 نوفمبر 1936، ورأيتُ الملك غازي في زيه العسكري يحمل مسدسًا على أحد جانبيه. وبعد أن أجريتُ له الفحص الطبي، سألته "لماذا الاضطراب يا سيدي؟"، فأشار إلى السماء التي أخذ ينظر إليها بمنظارٍ مكبر حيث كانت بعض الطائرات تُلقي قليلاً من القنابل. لم يكن لديّ شك في أن الملك كان يعلم بالانقلاب مسبقًا، وأن كل ما كان يخشاه فشل ذلك الانقلاب أمام انقلابٍ مضاد.
تدفعنا هذه الآراء المتعددة إلى سؤالٍ آخر: لماذا فعل الملك ذلك؟ ما الذي يدفع ملكًا لتحريض جيشه على الانقلاب على حكومته؟
"خطايا" حكومة الهاشمي
في بداية عام الانقلاب (1936) ارتكبت الأميرة عزة -شقيقة الملك غازي- فضيحة كبرى بعدما هربت مع عامل فندق يُدعى أنستاس خلال رحلة لها إلى أوروبا. لأجله تحولت من الإسلام إلى المسيحية دون معرفة أحدٍ من أهلها، وهو ما فجّر أزمة ضخمة أضرّت بسُمعة العائلة المالكة بأسرها.
إزاء هذا الحادث، اتّبع ياسين الهاشمي رئيس وزراء العراق حينها إجراءات صارمة ضد الملك وعائلته فرض بموجبها قيودًا شديدة على تحركاته؛ فأبعد عددًا كبيرًا من موظفي القصر المقرّبين إليه، ووضع رقابة على حجم نفقات الأسرة الملكية، وكذا أصدر مرسومًا وزاريًا بتشكيل لجنة معنية بالأمور التأديبية الخاصة بالأسرة الهاشمية، وهو ما اعتبره الملك غازي عدوانًا على صلاحياته.
أكثر من ذلك، قام الهاشمي بجولة في شمال البلاد لقي فيها الكثير من الترحاب بين المواطنين، وانتشرت في العراق شائعة قوية بأن ياسين ينوي خلع الملك وإعلان الجمهورية وتنصيب نفسه رئيسًا أبديًا عليها!
وما ساعد ياسين على الرغبة في تحقيق تلك المطامع المزعومة هي حالة الضعف السياسي التي عاشها العراق عقب وفاة الملك المؤسِّس فيصل الأول عام 1933م، وتولّي ابنه غازي -حديث العهد بالسياسة- الأمور، ما أصاب البلاد بحالة من عدم الاستقرار تغيرت الحكومة على أثرها 8 مرات حتى عام 1936.
في ظِل الضعف الذي أبداه غازي، نجح ياسين في تأمين أغلبية برلمانية لـ"حزب الإخاء" الذي يترأّسه، وأجرى تحالفات سياسية مع الرجلين القويين جعفر العسكري ونوري السعيد جعلته خصمًا عصيًّا على الملك خاصةً بعد "واقعة عزة" التي عصفت بالبيت الهاشمي وكادت تقتلعه من جذوره.
يقول لطفي فرج في كتابه "الملك غازي ودوره في سياسة العراق"، إن ياسين اعتقد أن وجود شقيقه طه الهاشمي في منصب رئاسة أركان الجيش سيُجنّبه شر أي انقلاب مفاجئ. وهكذا، بعد أن أمِن شرّ الجيش ومكر القصر تمادَى في طموحاته؛ وفي منتصف أكتوبر 1936 طلب ياسين من بعض العشائر العراقية المقرّبة إليه الاستعداد للانتشار في بغداد لحظة إعلانه للجمهورية حتى فوجئ بوقوع الانقلاب.
يقول قاسم فرج في دراسته "الأوضاع السياسية والإدارية في العراق (1932- 1958)"، إن الهاشمي اتّبع نهجًا إقصائيًا خلال حُكمه، بعدما عَمِدَ إلى حل الأحزاب السياسية ونفي المعارضين وإغلاق بعض الصحف، وهو ما أثار نقمة عددٍ من معارضيه ضده، منهم السياسي العراقي حكمت سليمان وكذا الضابط قوي التأثير بكر صدقي، فاتفقا على الإطاحة به بعدما مُنحا الضوء الأخضر من الملك".
وفي كتابه، أوضح لطفي فرج سبب لجوء الملك غازي لسلاح الجيش للمرة الأولى في الساحة السياسية العراقية مُلقيًا باللائمة في ذلك على الهاشمي نفسه. يقول فرج إن الهاشمي كان أول مَن أدخل الجيش في المعترك السياسي بعدما استخدمه بكثافة لإخماد الحركات العشائرية التي كانت تندلع ضده، وهو ما أعطى للجميع إيحاء بأن الجيش أداة فعالة للتغيير السياسي بعيدًا عن تعقيدات الانتخابات وألاعيبها.
ويتابع فرج أن الهاشمي أثبت أن الاستناد إلى قوة العشائر لم يعد كافية لتأمين الحُكم في العراق بعدما باتت القوة الفعالة في البلاد هي الجيش بما يملكه من أسلحة حديثة. وفي هذا العام تحديدًا تضخّم عدد الجيش العراقي إلى 800 ضابط و19 ألف جندي بالإضافة إلى 37 طيارًا، ما أعطى أفراده إحساسًا بأنهم قوة لا تُقاوم في العراق.
تزامن مع هذا الإحساس المتزايد بالقوة في نفوس الضباط شعور بالسخط بسبب سياسة الهاشمي في تسخير الجيش لضرب المواطنين ومنع الاحتجاجات الشعبية، وهو ما خلق أرضية مناسبة أمام الفريق بكر صدقي حينما شرع في تدبير تمرده.
الصراع على بكر صدقي
في ذلك العام، كان بكر صدقي نجمًا ساطعًا داخل الجيش وخارجه عقب نجاحه في سحق ثورة الآشوريين شمال العراق عام 1933 بعدما خططوا للانفصال عن العراق. قمع صدقي تلك النزعات الانفصالية بسلسلة من المجازر راح ضحيتها آلاف الآشوريين. ولا تزال ذكرى تلك المجازر تُحيى حتى اليوم.
في كتابها "تأسيس الجيش العراقي وتطور دوره السياسي"، تؤكد رجاء الخطاب أن صدقي سعى منذ نجاحه في تصفية التمرد الآشوري إلى تكوين كتلة كبيرة من الضباط حوله، بعضهم بسبب إعجابهم بشخصيته وبطريقته في القيادة، وآخرون بسبب تنظيمه حفلات غنائية وموائد طعام لهم، وأخيرًا الأكراد الذين أيدوه لأنه كثيرًا ما كان يعبّر عن دعمه لهم لأن أمه كانت كردية.
بلا شك، كان بكر صدقي عنصر نجاح حاسمًا حال استخدام الجيش للإطاحة بأحد أطراف العملية السياسية، فإن أيّد الحركة دعّمتها أغلب فيالق الجيش وإن عارضتها ستتدخل سريعًا وتحبطها.
ومنذ أمدٍ طويل جمعت علاقة وطيدة بين الملك وبكر صدقي؛ عرفه غازي من خلال عادة غازي بالتفقد المستمر لقطاعات الجيش، ومنها كثرت الاجتماعات الخاصة التي جمعتهما على انفراد، وكثيرًا ما أوردت الصحف العراقية أنباء زيارة الملك لبكر صدقي في كركوك ومرافقته له أحيانًا في طائرته الملكية، كما اعتاد صدقي زيارة الملك بانتظام في قصر الزهور.
المفارقة هي أن إجراءات ياسين العقابية التي اتخذها لتضييق حركة الملك عقب حادثة الأميرة عزة شملت الحدَّ من لقاءاته بضباط الجيش. هذه الإجراءات لم تُطبّق على بكر صدقي بسبب الاعتقاد السائد حينها بأنه من "جماعة ياسين".
المفارقة الثانية أن بكر صدقي كان أحد قادة حملة "تأديب العشائر المتمردة" في عهد ياسين، ما حمل الأخير على ترقيته لرتبة فريق في مايو 1936، كما أمر بتسفيره إلى أوروبا مرتين على نفقة الحكومة، وأيضًا أقرَّ له عددًا من المكافآت النقدية المتتالية في محاولةٍ منه لكسب وِد رجل الجيش القوي وجذبه إلى صفِّه.
رغم هذا البذخ التكريمي فإن صدقي لم يكن راضيًا عن وضعه. وحسبما ذكر محمد أنيس في دراسته "حادثة الأميرة عزة وأثرها في انقلاب بكر صدقي"، فإن بكرًا كان دائم الشكوى من أنه لم يُكافأ كما يجب نتيجة خدماته الوطنية في تصفية الأزمة الآشورية، وهو ما دفعه إلى الانحياز في صفِّ الملك وتنفيذ انقلابه وتخليص الملك من رئيس وزرائه اللدود.
بكر صدقي بعد الانقلاب
توقّع الجميع أن يشغل الفريق بكر منصب وزارة الدفاع في الحكومة الجديدة لكن هذا لم يحدث، وإنما اكتفى بمنصب رئاسة أركان الجيش،. أما وزارة الدفاع، فأُسندت إلى شريكه في الانقلاب عبد اللطيف نوري، الذي كان يشغل منصب قائد الفرقة الأولى.
في النهاية، لم يُقدّر لسُلطة الانقلاب الجديدة أن تستمرّ أكثر من 8 أشهر و10 أيام بعد اغتيال قائده بكر صدقي في 11 أغسطس عام 1937.
فبعد نجاحه في تقلُّد كافة مقاليد أمور الحُكم في العراق وبات رجله الأول، دخل صدقي في صدام مع كتلة "الضباط القوميين" داخل الجيش العراقي بسبب ميوله الكردية، فعمد إلى إبعادهم من مناصبهم، كما أجبر الحكومة على الكفِّ عن تبنّي المسائل العربية في فلسطين وسوريا ومصر، وحاول توثيق علاقة بلاده بإيران وأفغانستان.
تقول رجاء الخطاب إن كتلة الضباط القوميين -بقيادة المقدم صلاح الدين الصباغ- هم المسؤولون عن قتله، بعدما استغلَّوا اعتزام صدقي السفر إلى تركيا لحضور مناورات الجيش التركي، فدبّروا مؤامرة سريعة لاغتياله في الموصل داخل المطار. لاحقًا برّر الصباغ تلك الجريمة في مذكراته بقوله "كان بكر صدقي من القائلين لا عروبة في العراق، فأثار ذلك نقمة الجيش عليه، ولما قتل الجيش بكرًا انعتق من فكرة العراقية الضيقة وقال بالقومية العربية فاطمأن الشعب إلى جيشه"!
وبدون داعمه العسكري، فقد حكمت سليمان أي فرصة للبقاء في الحُكم، فأصدر الملك قراره بعد مقتل صدقي بأسبوع فقط بتغيير الحكومة وحل المجلس النيابي وانتخاب مجلسٍ جديد. وسعى غازي لبدء صفحة جديدة لمملكته فسمح للسياسيين –مثل نوري السعيد والهاشمي- الذين فروا بسبب الانقلاب بالعودة، وكذلك أصدر عفوًا عامًا عن قاتلي بكر صدقي.
مهّدت تلك الأحداث السبيل أمام كتلة الضباط القوميين للسيطرة على الجيش بزعامة صلاح الدين الصباغ، وهو ما دفعهم لتدبير ثورة ضد سيطرة البريطانيين على العراق، عُرفت بِاسم "ثورة رشيد الكيلاني" عام 1941، انتهت بالفشل وبإعدام الصباغ علنًا في بغداد.