العراق

يوم في عشوائيات بغداد.. ماذا قال لي سكانها؟

31 أغسطس 2022

لحظة وصولنا إلى مدخل مجمع العشوائيات السكني في" الصبابيات"، كان أول ما لاحظته أن نقطة التفتيش الأمنية التي تعترض دخول السيارات لم تلتفت لنا، أو يستدر أفرادها باتجاهنا، ولم يعترضوا أو حاولوا إيقافنا، فمررنا بسهولة غير متوقعة!

هذا المشهد جديد بالنسبة لي، فقبل أقل من ثلاث سنوات، كان عبور هذه النقطة أمراً قد يعرّضك للمساءلة والتحقيق، حتى بعد إظهار هويتك الخاصة بالعمكل الصحافي، لينتهي الأمر غالباً بمنعك الدخول ومغادرة المنطقة.

لم يساورنا أي شك ونحن نواصل الدخول بتمهل نحو الشارع المتهالك الذي تسوّر جوانبه الأعشاب اليابسة وأكوام النفايات، بأن الإجراءات الأمنية المشدّدة قد تغيرت بعد أن ساد اعتقاد لدى الأغلبية، بأنها كانت لحماية سكان العشوائيات من المسلحين مجهولي الهوية.  

ما بين المدخل المقفر ومنازل العشوائيات أرض جرداء تخلو من الأشجار تقريباً، لكنها مغطاة بالأتربة والغبار الذي جعلها تبدو كأنها مهجورة تماماً.

بدت الأبنية من على بعد كأنها مجرّد أقفاص ملونة متباينة الحجم، بينما قطعان المواشي تتناثر بين الشوارع الفرعية الضيقة، باحثة بين النفايات على طعام لها.

ومن بعيد، بدت رايات الحزن الحسيني ترفرف مع نسيم الصيف فوق جدران متهالكة من صفائح "الجينكو (زينكو) والكارتون".

كنت حريصة عند دخولي هذا المكان على ارتداء الثياب التي تتناسب وطبيعة سكانه، فالملابس فضفاضة سوداء مع حجاب الرأس والابتعاد عن كل ما يثير الانتباه من ماكياج أو إكسسوار.  

وبينما كنت أتجول وزملائي الصحافيين، استوقفنا مشهد لامرأة طاعنة في السن تجلس قرب دكان يبدو للوهلة الأولى مدخلاً لمنزلها، لكن الحاجة والعوز دفعاها لاستغلال صالته وتحويلها إلى محل صغير تعرض على رفوفه القليلة بعض علب السجائر والحلويات الرخيصة وغيرها من الاحتياجات المنزلية الضرورية.

قبل أن أصل إليها، اقترب منها طفل عمره حوالي عشرة أعوام، طالباً منها علبة صغيرة من معجون الطماطم. لكنها نهضت فجأة، ورفعت عصا خشبية ملوحة له بالابتعاد.

توجهت أنظار المارّة نحوها وهي تصرخ فيه "فلتقل لأمك أن تدفع الدين قبل شراء المزيد من الحاجيات"، ثم عادت للجلوس، وركنت العصا جانباً، ثم بدأت تدخين سيجارتها بصمت ولامبالاة بما حولها.

كانت حرارة الجو تزداد مع كلّ دقيقة تمرّ، اقتربتُ منها وألقيت التحية مبادرة بحديث عفوي معها! ردّت عليّ وهي ترفع رأسها، وسألتها بعد أن عرفتها بنفسي عن السبب وراء ما فعلته بالطفل؟

فقالت، إن "الكثير من سكنة هذا المجمع يشترون ما يحتاجونه من سلع وبضائع بالدين –الدفع بالآجل- ولا يدفعون ما عليهم من استحقاقات مالية بذريعة الفقر والبطالة".

اتفق معها صاحب دكان حلاقة رجالية مجاور قائلاً "نعم حتى حلاقة شعر رأس الزبون هنا بالدين". 

يذكّرنا الحلاق الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، بأن هذه العشوائيات "يسكنها منذ عام 2005 الذين تعرضوا لعنف طائفي وهجمات فنزحوا وهجروا من منازلهم في المحافظات".

ومضى قائلاً "في هذا المجمع الآن العشرات من العوائل الفقيرة. ليس لديهم من معيل يوفر لهم لقمة العيش".

إحدى النساء التي تسكن مع زوجها بمفردهما بعد تزويج ابنتها وهي بعمر الخامسة عشر، قالت لي مؤكدة لهذا الكلام: "الفقر وفقدان المعيل يضعنا أمام خيارين إما تزويج بناتنا وهن صغيرات أو زجهن في الشوارع لبيع المناديل الورقية وقناني المياه المعدنية". 

هذه الخيارات -إن جاز التعبير- ليست حلاً بنظر بتول (39 عاماً)، خاصة بعد تعرض زوجها لحادث سير عام 2010، تسبب له في إعاقة جسدية.

تقول: "نواجه صعوبة بالغة في توفير لقمة العيش، وإنهاء معاناتنا اليومية". 

وحاولت بتول وغيرها من النساء اللواتي يعانين من مشقة توفير لقمة العيش وفقدان المعيل، اللجوء إلى الجهات الحكومية وطلب الرعاية، لكن بلا جدوى!

تؤكد بتول أن "الجهات الحكومية تمنع ما خصصته من رواتب إعالة على الذين لم تتجاوز إعاقتهم الجسدية 80%".

"كلما راجعت الجهات المعنية أخبروني بأن زوجي لا يستحق راتباً من مديرية الرعاية الاجتماعية، لأن إعاقته ليست وفق الضوابط التي تسمح له بالحصول على راتب"، توضح بتول.

وبدافع الشعور بمعاناة الآخرين، اصطحبتني بتول إلى منزل تحيطه النفايات من كل جانب، بينما بُنيت جدرانه من الطين وصفائح "الجينكو"، ومضت مسرعة إلى باب مهترئ في آخر باحة ترابية. تسأل عن زينة، فنادت عليها أمها من دون أن تعرف السبب! 

كان زينة بعمر 16 سنة، تمسك حجابها من طرفيه وهي تحاول ارتداءه مسرعة قبل وصولها إلينا. 

تقول زينة التي تعمل في بيع المناديل الورقية في شوارع العاصمة: "محصول المناديل أقل بكثير من أن أشتري ما أحلم به كما غيري من الفتيات".

كان ثوبها الرثّ متسخاً تملؤه البقع الداكنة، وآثار التعرّق على نسيجه، تضيف "لكن هذا العمل الوسيلة الوحيدة للعيش".  

في المقابل، تقوم والدة زينة بأخذ أي مال تحصل عليه الفتاة المراهقة من عملها طيلة النهار، ويتراوح عادة بين خمسة آلاف دينار عراقي و15 ألف دينار (3-7) دولارات في اليوم. 

"لم أدخل المدرسة ليوم واحد في حياتي.. كان علي أن أترك كل أحلامي لأشارك في إعالة أمي وأخي الصغير"، تقول زينة بحسرة. 

وتتعرض زينة التي تتجول بين السيارات في تقاطعات الإشارات المرورية يومياً لشتى أنواع التعنيف اللفظي والتحرشات الجنسية من المارة أو السائقين، فضلا عن خطر الدهس، كما تؤكد لنا.

وتشير الفتاة التي لم تر أباها منذ سنوات بعد انفصاله عن أمها، بأنها "اعتادت على ما تتعرض له من تحرشات جنسية" مردفةً "لا يعني الأمر شيئاً لي، فكل ما يهمني بيع ما لديّ من مناديل والعودة للمنزل".

المشاهد السابقة بعض من حياة يومية صعبة يعيشها الكثيرون في عشوائيات بغداد، ولكن هذا لا يعني أنها حياة الجميع! لا تستغرب إن مرت بك سيارة حديثة مركونة قرب منزل متهالك. 

تقول أم خليل، التي تعمل في خدمة المنازل في العاصمة بغداد: "نحن لا نعرف بالضبط ماذا يعمل أولئك الذين يمتلكون السيارات الفارهة. إنهم يتحفظون على إعلام أحد أو الاختلاط بنا، لذا فإن وجودهم بيننا يضعهم في دائرة الشبهات".

وتضيف: "الناس على مدى الأعوام الماضية عندما يعرفون أنني من سكان العشوائيات، يبدو عليهم القلق والخشية، لأن ما يشاع عنّا كله مرتبط بالجريمة أو محط الشبهات".

قبيل الخروج عبر نقطة التفتيش الرئيسة، والعودة لمنازلنا، توجه نحونا بعض الأطفال يركضون خلف السيارة ويطلبون منا التوقف. 

لحظتها أخبرني السائق بأنهم يبحثون عن مساعدات ظناً منهم أننا من المنظمات الإنسانية المانحة، لكنني لم أقتنع وطلبت التوقف للحديث معهم. 

 أخبرني أحد الأطفال، الذي يبدو أنه أكبرهم سناً: "أمي هناك تنتظرك وهي بحاجة للحديث معك". 

عدت للمكان بعد أن سبقنا الأطفال إليه، لأجد مجموعة نساء يرتدين السواد، وقد أخفين وجوههن.

قالت إحداهن إنهن "بحاجة ماسّة للمال" شارحة معاناتهن في العيش داخل المنزل المتداعي.

وما إن عرفن أنني مراسلة صحافية، حتى تراجعن إلى الخلف، معتذرات لي، لأنهن توقعن أنني أعمل مع منظمة إنسانية، تقدم المساعدات، وهو ما قاله السائق سابقاً.

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.