شغل موقع مدينة "خاراكس" كما تسمى باليونانية، و"كرك سباسينو" كما تسمى بالتدمرية، علماء الآثار منذ القرن التاسع عشر، نظراً لأهمية هذه المدينة في التاريخ الكلاسيكي للعراق وإيران، ولأنها كانت واحدة من أهم المراكز التجارية العالمية خلال أكثر من خمسة قرون.
وكان من سوء طالع هذه المدينة أنها تقع في مناطق فيضانات الأنهار الإقليمية الكبرى، كدجلة والفرات وكارون. وفي العصر الحديث ضمن مناطق نفطية حدودية متنازع عليها بين العراق وإيران، وهو ما منع التنقيب الأثري، وزاد في حالة الغموض التي تلف موقعها.
ويبدو أن اقتراح عالم الآثار البريطاني جون هانسمان، عام 1967، هو الأجدر في البحث عن موقع المدينة التاريخية، فقد قارن بين اسم قرية نيسان المجاورة لحقل مجنون النفطي، قرب "تل خيابر" في ناحية النشوة، التابعة إدارياً لقضاء شط العرب ضمن محافظة البصرة، وبين اسم ميسان، وربط بينهما. وسار على منواله عدد من علماء الآثار العراقيين في السنوات الأخيرة، ولكن رغم العثور على آثار مدينة كبيرة في الموقع، إلا أنه لم يعثر حتى الآن على ما يؤكد أن هذه المدينة هي كرك ميسان التاريخية.
أما الآثار التي دلت على وجود هذه المدينة تاريخيا، فقد عثر عليها في المواقع المجاورة، مثل مدينة بابل في جنوبي العراق، وتدمر في سوريا، وتيلوس القديمة في جزيرة البحرين، وموقعي مليحة وميناء الدور، (مملكة عمانا القديمة) في الإمارات العربية المتحدة.
من مدن الإسكندر
تأسست "خاراكس" على يد الإسكندر الأكبر قبل العام 324، إلا أنها لم تتحول إلى مركز تجاري، وعاصمة لدولة كبيرة تدعى مملكة ميسان إلا في عهد ملكها المؤسس الفعلي سباسينوس عام 149 قبل الميلاد. حيث سيطرت منذ ذلك التاريخ على حركة التجارة مع الهند والصين، واستطاعت أن تبسط سيطرتها على موانئ الخليج العربي، وأقامت علاقة خاصة مع مدينة تدمر التي كان تجارها ينقلون البضائع الثمينة من مينائها إلى جزر المتوسط وروما.

ويشوب الغموض أوصاف المدينة، كما وردت في كتب مؤرخي الحقبة الرومانية. ففي حين تشير بعض المصادر إلى وقوعها عند مصب نهر كارون في موقع مدينة المحمرة الحالية، تتحدث مصادر أخرى عن وقوعها بعيداً عن شاطئ المياه باتجاه الشمال.
اختلاف على الموقع
يقول المؤرخ الروماني بليني، الذي عاش في القرن الأول الميلادي، إن المدينة القائمة على تل طبيعي لحمايتها من الفيضانات، تمتد على مسافة أربع كيلومترات تقريبًا، وبعرض أقل قليلاً. ويقول إنها كانت في البداية على بعد كيلومتر ونصف من الشاطئ، وكان لها ميناء خاص بها. لكن وفقا لملك موريتانيا جوبا، صاحب الرحلة الشهيرة، فهي تبعد 75 كيلومترا عن البحر. وفي القرن الأول الميلادي، يقول السفراء الذين زاروا الجزيرة العربية والتجار إنها تقع على مسافة 180 كيلومترًا من شاطئ البحر. ويعزو بليني هذا الابتعاد عن شاطئ البحر إلى ترسب الطمي بسبب الفيضانات.
ومن المعروف أن عاصمة مملكة ميسان تغيرت أكثر من مرة، ومن هنا هذا الخلط في موقعها، فربما انتقلت إلى موقع مدينة فرات أو فولوغيسيا أو أفاميا دجلة. وكل هذا بحاجة إلى دراسات معمقة تعتمد على الآثار وليس على الحدس والتخمين.
إجماع قديم على عروبتها
يحدد بليني، وكذلك المؤرخ جوزيفوس فلافيوس أن مؤسس هذه المملكة سباسينوس هو نجل ملك العرب ساغدودوناكوس، وأنه حظي بدعم من الملك السلوقي أنطيوخس الرابع. ولكن خلفاء سباسينوس لم يكونوا بكفاءة المؤسس، فوقعت المملكة في فترات لاحقة للسيطرة المباشرة من بعض الملوك البارثيين، رغم أن معظم أسماء الملوك الذين سكوا عملات تبدو عربية متهلينة، كما هو حال أغلب الشعوب العربية في ذلك الوقت والتي تبنت الثقافة الهلنستية واتخذت أسماء مختلطة أو محورة إلى صيغ إغريقية.
خريطة الممالك التي اسسها وحكمها العرب في بلاد العراق القديم قبل الإسلام.
— ArcheoAnthro|الآثاري (@Archeoanthropo) July 24, 2022
مملكة عربة 101-241م.
مملكة ميسان 141 ق.م - 222م.
بنو لخم 300م- الى البعثة. pic.twitter.com/SXGWbD1poO
ويصف المؤرخ الروماني سترابون بلاد البابليين بأنها محاطة من الشرق بالسوسانيين والعيلاميين والبارثيين، وفي الجنوب يحدها الخليج الفارسي وبلاد الكلدانيين والميسانيين العرب.
والحق أن النصوص التاريخية الشحيحة حول هذه المملكة لا تعطي فكرة عن مدى نفوذها، ولا عن طبيعة الحكم فيها، وهي أمور توصل إليها علماء الآثار من خلال النقوش الأكادية المتأخرة، واليونانية، والتدمرية، والمسكوكات، وقد زودتنا ببعض التفاصيل المهمة.
الملك سباسينو وزوجته
ورد اسم الملك سباسينو في المفكرات الفلكية البابلية، وهي نصوص مسمارية تحتوي على سجلات منتظمة من الملاحظات الفلكية والأحداث السياسية، وتشمل أيضا معلومات أخرى، مثل أسعار السلع الأساسية وتقارير الطقس. وهي مخزنة في المتحف البريطاني. وتشمل قرونا طويلة حتى بعد سقوط بابل بخمسة قرون.
في هذه السجلات، ترد أخبار عن ملك ميسان اسباسين. منها هذا الخبر المؤرخ في العام 138 قبل الميلاد عن انتصاراته في البحر الأسفل، وهو الاسم البابلي للخليج العربي، وخبر وفاته: "من أسفل أرض البحر، ومدن وقبائل الخليج جعلهم يطيعون أمره؛ فرض الجزية عليهم، وسباسين، ابن (؟) هذا أسباسين بحث عن... وأغار ضدّ أعدائه العيلاميين، وحوّل مدنَ وقبائل أرض البحر إلى جانبه، وجعلَهم تحت قيادته... من أجل استكمال... أما القلة من أرض البحر الذين لم يطيعوا أمره فقد استولى على المتمردين، أخذ أسرى منهم، نهبهم. كان هناك 124 قبل الميلاد".

وعن وفاته يقول الخبر: "أسباسين، ملك ميسان في اليوم الخامس من هذا الشهر أصبح مريضاً، وتوفي في العقد التاسع من عمره (10 يونيو/ حزيران 124 قبل الميلاد). أصبح الأمر بيد تالاسي أوسو زوجته والنبلاء بعد ذلك، جعلت ابنه الصغير، على العرش الملكي خلفا لأبيه أسباسين".
وعثر أيضا على نقش يوناني في جزيرة البحرين يذكر الملك سباسينو وزوجته. هذه ترجمته للعربية: "بسم الملك سباسينوس، والملكة تالاسيا، والوالي في تيلوس وجزرها كيفيسودوروس، كرس هذا المعبد للتوأم الإلهي ديوسقيرس"، والمعروف أن هذا التوأم الإلهي مختص برعاية المسافرين والبحارة على وجه الخصوص، حيث يُتضرع بهم للحصول على الرياح مواتية.
المصادر الصينية
ويرد في المصادر الصينية أن القائد بان جاو أرسل في عام 97 ق.م رسولاً إلى سوريا كان اسمه كان ينك، فوصل إلى تياو تشي (بلاد الكلدانيين) على ساحل البحر الكبير (الخليج العربي) وترك وصفاً مهماً لمدينة كرخ ميسان، التي ستصبح خلال عقود، الموقع البحري الأهم في طريق الحرير البحري، ومنها ستنطلق شبكة من العلاقات التجارية الهامة، بقيادة التدمريين واصلة برباريكوم في شبه القارة الهندية؛ مع روما عاصمة حوض البحر الأبيض المتوسط.
وثمة معطيات مهمة تشير إلى احتمال عقد الصينيين اتفاقات ذات طبيعة احتكارية مع التدمريين وكلتهم بموجبها بهذه التجارة عبر هذا الطريق تحديدا. ويبدو أن الرومان بدؤوا باكتشاف أهمية تجارة الحرير في مطلع القرن الأول الميلادي، ولا ندري من الذي سوّقه في روما وأقنع الرومان بمزاياه؟ ولكن مسار الأحداث يشير إلى أن التدمريين هم أصحاب الفكرة، والتي، ربما، حفزت القيصر جرمانيكوس، ولي عهد الإمبراطور طيباريوس، على أن يزور تدمر في العام 18 ميلادي، ويرسل مبعوثاً تدمرياً إلى الخليج اسمه ألكسندروس، فيلتقي ملك كرك ميسان (ابنرجالوس على الأرجح)، وحاكماً آخر اسمه أورابازيس.
وثمة اتفاق على أن جرمانيكوس هذا هو الذي ألحق واحة تدمر بالإمبراطورية الرومانية، ولعله هو الذي أخذ المبادرة لتأسيس معبد بل الجديد. فكل هذه التطورات، والاهتمام الروماني المفاجئ بتدمر؛ يشيران إلى أن تغيراً طارئاً جعل روما تهتم كل هذا الاهتمام بالطريق الواصل بين تدمر وخاراكس، خصوصاً أن الطريق الذي يصل تدمر بالمتوسط كان معروفاً تماماً، ومسيطراً عليه بالكامل.
وبالإضافة إلى كل ذلك، لابد من ملاحظة وجود وكالات تجارية تدمرية معنية بتجارة الحرير وغيره من البضائع الثمينة في روما، وقد ترك تجارها التدامرة المقيمون هناك نقوشاً ومذابح وتذكارات تحتفظ بها متاحف إيطاليا وأوروبا حتى اللحظة الراهنة.
النقوش التدمرية
تشير النقوش التدمرية في هذه المرحلة، أي من مطلع القرن الأول وحتى أوسط القرن الميلادي الثالث، إلى وجود مجموعة من المستوطنات التجارية والحاميات العسكرية التدمرية في ودورا أوروبس على نهر الفرات (في موقع الصالحية قرب دير الزور حاليا)، وحامية عسكرية أخرى في عانة، إلى الجنوب من الأولى، ومستوطنة تجارية في فولوغيسيا قرب سلوقية على نهر الفرات، إضافة إلى المستوطنة التجارية الكبرى، خاراكس (كرك سباسينو) التي كان لها قوانينها وأنظمتها الخاصة ضمن قوانين مملكة.
وبلغ أمر نفوذ التدمريين خلال القرن الثاني الميلادي في الخليج العربي مبلغاً كبيراً لا يدانيه أمر قوم آخرين. فتجار ميسان، كرَّموا في العام 131 للميلاد يرحاي بن نبوزبد بن سلام اللات التدمري والي ثلوان أو تيلون (جزيرة تيلوس، البحرين)، المعين من قبل ملك خاراكس (ميسان) مهردات.
وثمة نقش يتحدث عن تكريم ماركوس أولبيوس يرحاي، الذي أقيم له اثنا عشر تمثالاً في تدمر، يؤكد بأن يرحاي المذكور ساعد التجار الذين ذهبوا إلى سكيثيا (التي كانت تضم أجزاء من الهند وباكستان الحاليتين) ومرفؤها الرئيسي برباريكوم الواقع على مصب نهر الهندوس (السند)، وأن هؤلاء التجار قد استقلوا سفينة حُنين بن حدودان أو حرودان. وكان هذا البحار الجريء يعود محملاً بالبضائع الثمينة التي كان من بينها الأقمشة القطنية والحجارة الكريمة مثل اللازورد والفيروز، ولكن بالأخص حرير الصين.
العملات
ولعل الملاحظة اللافتة هنا هي أن مجموعة نقود خاراكس التي عثر عليها في ميناء الدور في أم القيوين الحالية، هي المجموعة الثانية من حيث الوفرة بعد مجموعة نقود مليحة ذاتها، وهذا يدل دلالة قوية على العلاقات الوثيقة بين تجار ميسان وعمانا.
استمرت مملكة ميسان تسك النقود بأسماء ملوكها حتى العام 226 ميلادي حيث احتلت على يد الملك أردشير بن بابك مؤسس الأسرة الساسانية، وأصبح ملك ميسان يرد ضمن لوائح الملوك الذين كانوا يقدمون الطاعة للإمبراطور الفارسي في مسلاته التي تخلد انتصاراته ومنجزاته.