تشتهر مدينة النجف في شتى أنحاء العالم الإسلامي باعتبارها المدينة الشيعية المقدسة التي يواري ثراها جثمان الإمام علي بن أبي طالب، أول الأئمة المعصومين عند الشيعة الاثني عشرية. بدأت أهمية النجف قبل ظهور الإسلام بأربعة قرون كاملة. شهدت أرضها قيام مملكة الحيرة القديمة التي ارتبطت بعلاقات وثيقة مع الفرس الساسانيين. وأسهم ملوكها بشكل مؤثر في نشر المسيحية النسطورية في بعض أنحاء شبه الجزيرة العربية.
نتناول في هذا المقال قصة مملكة الحيرة وأهم ملوكها. ونلقي الضوء على انتشار المسيحية النسطورية بين أهل تلك المملكة، لنرى كيف ظهرت آثار تلك العقيدة -بشكل واضح- في مقابر الحيرة التي ما تزال قائمة إلى اليوم.
مملكة الحيرة
في نهايات القرن الثاني الميلادي، نشأت مملكة الحيرة العربية القديمة في العراق بالتزامن مع تأسيس الدولة الساسانية في بلاد فارس. يتحدث المؤرخ المصري محمد مبروك نافع في كتابه "عصر ما قبل الإسلام" عن الظروف التي ظهرت فيها تلك المملكة. يقول نافع إن القبائل العربية المهاجرة من شبه الجزيرة العربية عاشت على الأطراف الغربية من بلاد فارس، وأكثرت من الإغارة والنهب. ولمّا تمكن أردشير بن بابك، من تأسيس الدولة الساسانية سنة 224م تقريبًا عمل على التخلص من تهديدات تلك القبائل "ورأى من السياسة أن يبيح لهم السكنى في منطقة الحيرة، ومنحهم شبه استقلال لغرضين: الأول أن يتخذ منهم درءًا يقي بلاده شر غارات البدو، وهم أقدر الناس على ذلك، فكانوا بذلك يكونون ما يُعرف في الاصطلاح التاريخي باسم مملكة حاجزة، والثاني ليستعين بهم على الرومان، الذين كانوا في حروب مستمرة مع فارس...".
عُرفت تلك المملكة باسم مملكة الحيرة نسبةً إلى عاصمتها. ويختلف الباحثون حول أصل الكلمة. يرى البعض أن أصلها عربي بمعنى الضلال، فيما يرى أخرون أن أصلها هو الكلمة السريانية حرتا بمعنى الحصن أو الدير.
اُطلق اسم المناذرة على ملوك تلك المملكة لأن العديد منهم سُمي باسم المنذر. يرى العديد من المؤرخين أن المناذرة انحدروا من بني لخم التنوخيين الذين تعود أصولهم إلى بعض القبائل اليمنية التي كانت تعيش حياة زراعية مستقرة في جنوب شبه الجزيرة العربية. لمّا انهار سد مأرب اُضطرت تلك القبائل للهجرة إلى أرض جديدة بعدما تعرضت أراضيهم للجفاف والقحط.
يتفق الكثير من الباحثين على أسماء الملوك الأقوياء الذين تعاقبوا على اعتلاء عرش مملكة الحيرة. من هؤلاء الملوك عمرو بن عدي الذي حارب مملكة تدمر وكان أول ملك حقيقي للحيرة. وابنه امرؤ القيس بن عمرو الذي ورد اسمه في نقش النمارة الشهير باعتباره ملكًا قويًا أخضع القبائل العربية لنفوذه، ووقف أمام التوسعات الفارسية والبيزنطية في المنطقة. أيضًا اشتهر اسم الملك النعمان الأول باني القصر المعروف باسم الخورنق، والذي تذكره القصص العربية في الحكاية المعروفة عن جزاء سنمار. والمنذر الأول الذي تدخل بشكل مؤثر في توجيه السياسة الفارسية في زمنه عندما ساعد صديقه بهرام للوصول إلى الحكم. كذلك، تحدثت المصادر التاريخية عن الملك عمرو بن هند الذي ذاعت قصة صراعه مع عمرو بن كلثوم في كتابات الإخباريين العرب في الجاهلية والإسلام.
تمددت دولة المناذرة على مساحة واسعة في شرق وجنوب العراق القديم. فرض المناذرة سلطانهم على جميع الأراضي الواقعة ما بين هيت والأنبار شمالًا إلى الخليج العربي جنوبًا، وما بين نهر الفرات شرقًا وحافات الصحراء غربًا. وبنوا جيشًا نظاميًا قويًا تألف من كتيبتي الشهباء الفارسية ودوسر العربية، فضلًا عن القوات التي كان يتم استدعاؤها عند اندلاع الحرب.
ألقى الباحث توفيق برو الضوء على التنوع السكاني الذي عرفته مملكة الحيرة عبر تاريخها. يقول برو في كتابه تاريخ العرب القديم "...وقد وجد في الحيرة بعد أن قدم إليها المناذرة ثلاثة عناصر من السكان: رجال القبائل العربية من تنوخ، ثم سكان الحيرة الأصليون "العباد" وكانوا نصارى على المذهب النسطوري، يزاولون التجارة ويعرفون القراءة والكتابة، ثم الأحلاف وهم بعض العرب الذين نزلوا على القوم، وارتبطوا معهم بحلف، وكانت السيادة والسيطرة للعنصر العربي".
المسيحية في مملكة الحيرة
تمتعت مملكة الحيرة بقدر كبير من الحرية الدينية. لم ير أكاسرة فارس بأسًا من انتشار المسيحية في بلاد الحيرة المتاخمة لهم. يفسر الباحث العراقي جواد علي هذا الأمر في كتابه "المُفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" بكون المجوسية -التي اعتنقها الفرس- لم تكن دينًا تبشيريًا. من هنا لم يقع الصدام بين الفرس والمناذرة. على النقيض من ذلك، حدث في الكثير من الأحيان أن توافق الطرفان دينيًا وسياسيًا. اعتنق العديد من ملوك المناذرة المسيحية وفق المذهب النسطوري. ولمّا كان هذا المذهب معاديًا للمذهب الملكاني الذي أقرته الإمبراطورية البيزنطي فقد أيده العديد من ملوك فارس نكايةً في عدوهم اللدود.
يشرح محمد مبروك نافع تلك النقطة في كتابه، فيقول: "...كان معظم النصارى في الحيرة من النسطوريين، وطبيعي أن النصرانية انتقلت إليهم من الشام، حيث كان أصحاب المذهب النسطوري مضطهدين، وكان المذهب النسطوري «مذهب شرق الشام» أقل مذهب يلقى اعتراضًا في الفرس، وإلى نصارى الحيرة... يرجع الفضل في نشر المسيحية في بعض الأجزاء التي انتشرت فيها في بلاد العرب...".
يشرح جواد علي الدور المهم الذي لعبته مملكة الحيرة في نشر المسيحية النسطورية بين القبائل العربية. يقول: "تسربت النسطورية إلى العربية الشرقية من العراق وإيران، فدخلت إلى "قطر" وإلى جزر البحرين وعمان واليمامة ومواضع أخرى... ومن الحيرة انتقلت النسطوربة إلى اليمامة فالأفلاج فوادي الدواسر إلى نجران واليمن، وصلت إليها بالتبشير وبواسطة القوافل التجارية، فقد كانت بين اليمن والحيرة علاقات تجارية وثيقة، وكانت القوافل التجارية تسلك جملة طرق في تنمية هذه العلاقات وتوثيقها. وقد قوي هذا المذهب ولا شك بعد دخول الفرس إلى اليمن...".
احتفظت المسيحية بمكانتها المعظمة في مملكة الحيرة لقرون رغم أن الكثير من أهلها -أي الحيرة- بقوا على دياناتهم الوثنية. تؤكد العديد من المصادر أن القائد المسلم خالدًا بن الوليد لمّا استولى على الحيرة سنة 633ه فإنه توجه إلى مدينة عين التمر القريبة منها. وجد خالد في كنيسة عين التمر أربعين صبيًا يتعلمون الإنجيل والكتاب المقدس. من هؤلاء الصبية سيرين أبو المحدث محمد بن سيرين، ونصير أبو موسى بن نصير والي المغرب الأندلس، ويسار جد المؤرخ ابن إسحاق صاحب السيرة النبوية المشهورة.
مقبرة المسيحيين في الحيرة
حظيت مملكة الحيرة القديمة باهتمام كبير من جانب الكثير من الأثريين والباحثين في علم التاريخ. بدأت بعثات التنقيب الأثري عملها في الجزء الجنوبي من وسط العراق في ثلاثينات القرن الماضي. في سنة 1932م، تمكنت بعثة ألمانية من العثور على بقايا وأطلال بعض الأديرة والكنائس التي بناها المناذرة قبل الإسلام. وفي خمسينات القرن العشرين تم الكشف عن بقايا بعض القصور التي بُنيت في الحيرة.
في الثمانينات، استؤنف العمل البحثي من جديد في تلك المنطقة. وعُثر على أًكبر مقبرة مسيحية في العراق. تصل مساحة تلك المقبرة إلى 1416 دونمً / 3.54 كيلومتر مربع. وسُميت بأم خشم، وذلك بسبب شكلها المشابه لأنف الإنسان.
يحيط نهر الفرات بتلك المقبرة الواسعة التي تضم مئات الآلاف من القبور. وتتميز المقبرة بمجموعة من السمات الفريدة. والتي تشي بالخصوصية الثقافية والدينية لسكان مملكة الحيرة القديمة. من تلك السمات أن الموتى دُفنوا باتجاه بيت المقدس. وأن علامة الصليب وضعت في مقدمات التوابيت، كما أن بعض التوابيت دونت عليها آيات مقتبسة من الكتاب المقدس.
في بعض الأحيان، ظهرت المكانة الاجتماعية لبعض الموتى من خلال تدوين الألقاب التفخيمية التي عُرفوا بها في حياتهم على توابيتهم. وتختلف أشكال القبور في أم خشم اختلافًا واسعًا. على سبيل المثال، تكونت بعض القبور من سراديب دُفن فيها مجموعة من الموتى مع بعضهم البعض. غُطيت بعض القبور بالجرار الفخارية، وبعضها غُطى بالحجر، وهناك نوع ثالث مُغطى بالطين. وفي بعض الأحيان وضعت الجثامين في توابيت فخارية.
تحدث مدير مفتشية آثار محافظة النجف في وقت سابق عن أهم العلامات المميزة لمقابر أم خشم. يقول: "عثرنا على دلالات موجودة على القبور المسيحية متمثلة بعلامة الصليب، كما عثرنا على قطعة حجرية كتبت عليها "عبد المسيح" وهو شخصية مسيحية معروفة ما قبل الاسلام في مدينة الحيرة. وعثرنا على لقى أثرية تعود الى الفترة الفرثية والفترة الساسانية وفترة ما قبل الإسلام". من الأمور اللافتة للنظر، أن الكثير من قبور أم خشم احتفظت بمتعلقات تخص الموتى. يقول مدير مفتشية آثار محافظة النجف موضحًا تلك النقطة: "تم اكتشاف قناني زجاجية تستخدم لحفظ العطور وتختلف أنواعها من حيث صنعها ففيها أنواع نادرة وبعضها كؤوس، إذ تشتهر الحيرة بصناعة الزجاج في تلك الفترة، وتنفرد بهذه الصناعة، وتختلف اللقى الأثرية في القبور من ميت إلى آخر، حسب منزلة الميت الاجتماعية والاقتصادية فضلاً عن مهنته، فاللقى المكتشفة في القبر تدل على أن الميت رجل او امرأة، من خلال الحلي وأنواعها، وأغلب المكتشفات هي القناني الزجاجية والقلائد من خرز العقيق وجرار فخارية صغيرة الحجم وكبيرة، وأختام عليها رسوم حيوانية، وأواني عليها كتابات قديمة، وأن أغلب الجرار عليها علامة الصليب، وهذا دليل على اعتناقهم الديانة المسيحية...". مما يؤسف له، أن مقابر أم خشم تعرضت للكثير من أعمال النهب والنبش والسرقة في الفترة التي تلت سنة 2003م. الأمر الذي يدعو لسرعة الاهتمام بتلك المنطقة الأثرية الفريدة من نوعها.