"بسم الله والحمد لله! وإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، ابنوا على بركة الله!".. هذا ما قاله الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عام 762م/150هـ عندما وضع الحجر الأساس لبناء عاصمته الجديدة "بغداد" أو "دار السلام"؛ بحضور جمع غفير من الأمراء والوزراء والعلماء والأعيان.
وكان محل إقامة الخليفة العباسي المنصور وأخيه أبي العباس السفاح قبل ذلك في عاصمتهما التي أسمياها "الهاشمية". وكانت تعرف قبلها بـ"قصر ابن هبيرة"، قبل أن يعمرها الخليفتان. وتقع أطلالها اليوم بالقرب من ناحية "الصقلاوية" في محافظة الأنبار.
بغداد قبل البناء
اختلف المؤرخون في التاريخ الدقيق لما قبل بناء بغداد، وما كانت عليه تلك الأرض المختارة قبل اتخاذها عاصمة للدولة الجديدة، حيث يذكر المؤرخ والجغرافي أحمد اليعقوبي في "كتاب البلدان" أنه "لم تكن بغداد مدينة في الأيام المتقدمة وإنما قرية".
وجاء في "دائرة المعارف الإسلامية" أنه "في العصر الأخير من دولة الساسانيين؛ كانت بغداد الواقعة في الجانب الغربي من دجلة أرضا خصبة جداً وزاهية بأنواع الورد والرياحين، وكان الملوك يتخذونها متنزهاً، يقضون فيها الصيف لاعتدال هوائها وكثرة بساتينها وجودة أرضها".
ويذكر المؤلف راسم الجميلي في كتابه "البغداديون" أن "من أهم القرى في هذه المنطقة التي تناقل المؤرخون أسماءها من العهد القديم قرية الكرخ، وهي القرية التي نسبت إليها محلة الكرخ في بغداد".
اختيار المكان
في أواسط القرن الثاني للهجرة، وفي موضع بغداد اليوم؛ لم تحتو الضفة الغربية لنهر دجلة سوى على قرية صغيرة وسط بساتين مترامية الأطراف.
ويذكر أبو علي ابن رسته؛ وهو جغرافي فارسي توفي سنة 300هـ أن المنصور وجه ابنه محمد المهدي لغزو الصقالبة سنة 140هـ، ورافقه في الطريق إلى أن وصل موضع بغداد اليوم؛ فأعجبه موقعها وحسن منظرها، وصفاء مائها وهوائها؛ فصمم أن ينشئ هناك مدينة يجعلها عاصمة لملكه.
إضافة إلى ذلك، زادت ظروف سياسية وأمنية من قناعة الخليفة المنصور ببناء مدينة كاملة لتكون مركزا لإدارة الحكم وبسط السلطة وتثبيت ركائز الدولة العباسية. يقول المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني في كتابه "العراق قديما وحديثا" أن المنصور "أقام في الهاشمية بعد وفاة أخيه أبي العباس لمدة، ثار عليه خلالها جماعة الراوندية انتقاما لمقتل أبي مسلم الخراساني؛ فكَرِه سكناها، كما كره أهل الكوفة؛ لأنهم أفسدوا جنده، فتجافى عن جوارهم، وراح يبحث عن محل يبني فيه مدينة محصنة، حتى استقر رأيه على اتخاذ قرية بغداد في الضفة الغربية لنهر دجلة".
تأسيس المدينة
لم يكن تصميم مدينة بغداد أو دار السلام اعتباطيا، ولم تُبن على أساس تجمعات سكانية كانت موجودة قبلها، بل إن الحكم كان قائما في مدينة أخرى؛ مما أتاح للمنصور الأريحية والوقت الكافي لبناء مدينة عصرية تراعي التطور الهندسي والطُّرُز المعمارية، ونظم الحماية المتمثلة بالأسوار.
وأفسح ذلك أيضا المجالَ للمنصور لجمع البناة والعمال وأصحاب الخبرة من المعماريين من جميع أنحاء الدولة، حيث أرسل لأعلامها ووجهائها ليشاركوا في تحديد المكان بالضبط والمساهمة في التأسيس. يذكر المؤرخ العراقي عبد الرزاق الهلالي في كتابه "معجم العراق" أن المنصور أرسل في عام 145هـ كلا من الحجاج بن أرطأة وأبا حنيفة النعمان ليختطا المدينة الجديدة.
ويذكر المؤرخ عبد الرزاق الحسني في هذا الموضوع أن المنصور "أمر أن تخط المدينة بالرماد؛ فدخل من أبوابها وطاف بها وهي مخطوطة بالرماد، ثم أمر أن يجعل فوق الرماد حب القطن فيشعل بالنار، ففعلوها ونظر إليها وهي تشتعل؛ ففهمها وعرف رسمها، وأمر أن يحفر الأساس على ذلك الرسم!".
وينقل لنا محمد بن إسحاق البغوي أن "رباح البنّاء الذي تولى بناء سور مدينة المنصور؛ قال: كان بين كل باب من أبواب المدينة إلى الآخر ميل، وفي كل ساف من أسواف البناء 162 ألف لبنة من اللبن الجعفري".
ويذكر ابن الشروي أن "زنة اللبنة الجعفرية المستخدمة في بناء السور هي 117 رطلا" أي حوالي 53 كيلوغراما اليوم.
وكان السبق لبغداد في الانفراد بشكل التصميم المدور؛ حيث اختاره أبو جعفر المنصور، ووضع قصره وسط الدائرة وجواره المسجد الجامع. واختارها مدورة كي يكون جميع الناس سواسية في البعد ولا يتمايزون بالمقربة من بيت الخليفة!، وكان للمدينة سوران؛ الداخلي أعلى من الخارجي، وبينهما أشبه بالخندق. وعند السور الأول باب ثم دهليز إلى باب السور الثاني المطل مباشرة على المدينة.
وينقل الكاتب العراقي جمال أبو طبيخ في كتابه "مذكرات بغداد" أن طرقات الأحياء السكنية صممت بصورة شعاعية حول السور الداخلي، موزعة على أربعة وأربعين زقاقاً أو "سكة" متساوية الأبعاد، مبلطة بالآجر وجميعها متجهة نحو المركز، حيث دواوين الحكومة والمسجد ودار الخلافة.
وصمم للمدينة أربعة أبواب محمية بأبراج مراقبة على طول السور، وعلى كل باب قائد وألف عسكري، وكل باب يؤدي إلى طريق سفر.
وفي هذا يقول أبو بكر محمد بن خلف الملقب بـ"وكيع": "بنى المنصور مدينته وبنى لها أربعة أبواب، فإذا جاء أحد من الحجاز دخل من باب الكوفة، وإذا جاء من الأهواز والبصرة دخل من باب البصرة، وإذا جاء من المغرب دخل من باب الشام، وإذا جاء من المشرق دخل من باب خراسان، وجعل المنصور كل باب مقابل القصر وفوق كل باب قبة، وبين كل بابين ثمانية وعشرين برجا".
وقد كان لبعض رجال التاريخ آراء مختلفة في تاريخ تأسيس بغداد. ينقل الرحالة والجغرافي محمد بن أحمد المقدسي في كتابه "أحسن التقاسيم" أن "أبا العباس السفاح هو من اختط بغداد ثم بنى المنصور مدينة السلام"، ويتفق مع هذا القول صنيع الدولة محمد حسن خان في كتابه "درر التيجان".
بناء الرصافة
كل ما ذكرناه سابقا كان حول مدينة أبي جعفر الأولى، بغداد أو دار السلام، التي أنشأها في جانب الكرخ. أما في جانب الرصافة فبنى قصرا لولده وولي عهده المهدي؛ والذي كان نواة لبناء المدينة التي شرع بها سنة 151هـ وانتهت عام 159هـ، وكانت هذه المدينة أكثر تطورا عمرانيا وهندسيا، حيث الطرق المستقيمة التي انتشرت فيها الأسواق والحمامات، وعند تقاطع شوارعها الخانات والجوامع.
وبني للمدينة أربعة أبواب أيضا، هي: "باب السلطان" أو الباب المعظم، و"باب الظفرية" أو الباب الوسطاني، و"باب البصلية" أو الباب الشرقي، و"باب الحلبة" أو "باب الطلسم"؛ والأخير نسفته القوات العثمانية ليلة انسحابها من بغداد أمام القوات البريطانية سنة 1917م. هذا عدا عن الأبواب المطلة على نهر دجلة.
واختلف المؤرخون في سبب بنائها فيرى البعض أن المنصور بناها كإجراء أمني احترازي في حال انقلب عليه "الراوندية" في مدينته، فيلجأ إلى الرصافة أو يضربهم بمؤيديه منها.
ويذكر الخطيب البغدادي في كتابه "تاريخ بغداد" أن المهدي عندما قدم مع عسكره من منطقة المحمدية (الري) -وهي ضمن طهران الآن- وفدت له الوفود فبنى المنصور له الرصافة، وعمل لها سوراً وخندقاً وميداناً وبستاناً، وأجرى لها الماء، كما ينقل آخرون أن المنصور أخذ الأجَراء وأمر المهدي وجنده أن يعسكروا في الرصافة حفاظا على مدينته الكرخ من الزحام، وقد عرفت بداية الأمر بمعسكر المهدي، ومن ثم بغداد المهدي؛ فالرصافة.
اسم بغداد
ظل الاختلاف في أصل تسمية ومعنى بغداد قائما بين المؤرخين واللغويين قديما وحديثا، فيرى اللغوي ابن الأنباري أن أصل بغداد أعجمي، والعرب تختلف في لفظها، إذ لم يكن أصلها من كلامهم، ولا اشتقاقها من لغاتهم. أما حمزة بن الحسن الأصفهاني فيقول إن بغداد اسم فارسي معرب من باغ داذويه، وهو اسم شخص فارسي، على حد قوله.
ويرى بعض المؤرخين أن الاسم آرامي؛ بدلالة أن الفرس لم يدخلوا بغداد إلا في القرن الرابع قبل الميلاد، وأن بغداد معروفة بهذا الاسم قبل ذلك بمئات السنين.
وينقل لنا المؤرخ الجغرافي أبو الحسن المسعودي عن بغداد؛ أن اسمي الزوراء والروحاء كانا رائجين بين الناس في زمانه، وسميت كذلك بمدينة المنصور ودار السلام، وعرفت كذلك ببرج الأولياء؛ لاحتوائها على العشرات من قبور الأولياء.
ويقول بعض الفقهاء إن الخليفة المنصور أبدل اسمها الفارسي "باغ داد" إلى اسم عربي، حيث أسماها دار السلام؛ وهو الاسم الرسمي للمدينة.
وقد نُقل رسم كلمة بغداد في أمهات الكتب بعدة أوجه هي: "بغداد، بغذاذ، بغدان، بغدين، مغذان"؛ كما جاء في كتاب "العراق قديما وحديثا".
الكرخي والرصافي
الكرخ والرصافة هم جانبا بغداد اليوم وقلباها النابضان. وقد حمل اسم الكرخي والرصافي العديد من الشخصيات الشهيرة على مدار التاريخ العراقي. وتطلق هذه الكنية إما بالسكنى القديمة في المدينة، أو من خلال الإقامة فيها؛ اعتزازا ومباهاة بالنسبة إلى بغداد.
ومن أشهر من حمل لقب الكرخي أو الرصافي؛ الشيخ معروف الكرخي، وهو أحد أبرز رموز المتصوفة في العالم الإسلامي، وقد عاش ودفن سنة 200هـ في جانب الكرخ، والشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي؛ الذي يتوسط تمثاله اليوم جانب الرصافة، والشاعر الملا عبود الكرخي، وهو شاعر شعبي عراقي توفي عام 1946م.
وعند سؤالنا للمؤرخ العراقي محمود بشار عواد عن أسماء أخرى تكنت باسم ضفتي النهر، أجاب أن من بينهم أبو البركات القاسم الرصافي؛ وهو شاعر جيد حسن الارتجال، وعبيد الله الكرخي (260 – 340 هـ) وهو فقيه انتهت إليه رئاسة الحنفية في العراق، ومحمد بن منصور الكرخي البغدادي؛ وهو فقيه شافعي (توفي 482 هـ)، وغيرهم الكثير.
وقد قيل الكثير في جمال بغداد ومكانتها. ولعل من أجمل ما قيل فيها ممن شاهدها، هي كلمات الجاحظ حيث يقول: "قد رأيت المدن العظام، والمذكورة بالإتقان والإحكام، بالشامات وبلاد الروم، وفي غيرها من البلدان، فلم أرَ مدينة قط أرفع سمكاً، ولا أجود استدارة، ولا أنبل نبلا، ولا أوسع أبواباً، ولا أجود فصيلا، من الزوراء، وهي مدينة أبو جعفر المنصور، كأنما صُبّت في قالب وكأنما أفرغت إفراغاً".