يستهلك المواطن العراقي الواحد 0.5 كيلو غرام في العام، وهو رقم يفوق بالضعف المعدل العالمي لاستهلاك الفرد الذي يناهز 0.2 كيلوغرام.
يستهلك المواطن العراقي الواحد 0.5 كيلو غرام في العام، وهو رقم يفوق بالضعف المعدل العالمي لاستهلاك الفرد الذي يناهز 0.2 كيلوغرام.

في مناسباتهم السعيدة والحزينة، وفي مضايفهم ودواوينهم، وجلساتهم الرسمية وغير الرسمية، وفي المفاوضات، لا يكاد يخلو مجلس للعراقيين من مشروبهم الساخن المفضل: الشاي.

بين العراقيين والشاي، قصة حب لا تنتهي حتى في ظل درجات حرارة الغليان في صيف العراق اللاهب.

بدأت قصة الحب من خارج الحدود، فالشاي مشروب صيني عريق. وفق منظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة، فقد تم اكتشافه بالخطأ في عام 2727 قبل الميلاد، عندما كان الإمبراطور شين نونغ يغلي الماء في ظل شجرة الشاي وسقطت ورقة جافة في الوعاء. أعجب الإمبراطور بطعم الشاي وأصبح شائعا في الثقافة الصينية!

يُقدم الشاي في العراق بأوعية صغيرة توضع في صحن صغير، تعرف باسم "الإستِكان"، وأصله كما يُروى  من الهند حيث يطلق عليه اسم "بيالة". وكان الجنود البريطانيون المتواجدون في الهند خلال فترة الاستعمار يأخذون تلك الأوعية معهم كهدايا إلى بلدهم الأم. وللتمييز بين البيالة الهندية و كوب الشاي الإنجليزي التقليدي، أُطِلق على وعاء الشاي الهندي اسم "East tea can"، وهي تسمية من ثلاثة مقاطع تشرح أصل القدح: (شرق= East) و (شاي= (Tea و( إناء= (can، أو وعاء الشاي الشرقي.

وحين دخل الاستعمار البريطاني إلى العراق، أدخل معه الجنود الهنود والشاي ووعاءه الشرقي أو الـ" East tea can"، حيث دمج العراقيون الكلمات الثلاث في كلمة واحدة للسهولة فصارت "إستكان"، لينتشر في المقاهي والأحياء والبيوت بسرعة كبيرة ساعده على ذلك رخص ثمنه وعدم وجود خلاف فقهي حوله. 

العراقيون مستهلكون كبار للشاي. تصدر البلد قائمة مستوردي الشاي السيلاني العام 2021. وتضم اللجنة الدولية للشاي (International Tea Committee) العراق الى قائمة الشعوب الأكثر تناولاً للشاي في العالم حيث يستهلك المواطن العراقي الواحد 0.5 كيلو غرام في العام بحسب إحصائيات اللجنة، وهو رقم يفوق بالضعف المعدل العالمي لاستهلاك الفرد الذي يناهز 0.2 كيلوغرام.

 

طرق تحضير الشاي وتقديمه

 

يشرب العراقيون الشاي الساخن في الصيف كما في الشتاء، ولا تمنع درجات الحرارة العالية التي تصل إلى خمسين مئوية في شهر أغسطس من شرب الشاي ساخناً، ولا تقلل من الطلب عليه. أما في الشتاء فلا يخلو بيت من مدفئة نفطية يتربع عليها إبريقان، أحدهما أكبر حجماً من الآخر يطلق عليه اسم "الكيتلي" يحتوي على ماء ساخن يحافظ على حرارة الشاي في الإبريق الأصغر المثبت فوقه والذي يطلق عليه اسم "القوري". وكلاهما إبريقان متشابهان في الشكل ومختلفان في الحجم و الوظيفة.

يُفضل العراقيون شرب الشاي الغامق، ويطلقون عليه اسم "سنكين"، وفي اللهجة العامية العراقية يطلق على الشاي "چاي"، بالجيم ذات النقاط الثلاث كما تلفظ في روسيا وأوكرانيا وتركيا.

ويحضر الـ "چاي" العراقي إما بوضع الماء وأوراق الشاي الأسود في إبريق الشاي "القوري"، تضاف له حبات الهال، أو عبر تسخين الماء حد الغليان ثم وضع أوراق الشاي فيه وإطفاء النار بعد ثوان قليلة، ويترك الشاي لـ" يتهدر"، أو يتخمر قبل شربه.

أما الشاي الأكثر شهرة في العراق فهو الشاي "المتخمر" على الفحم، أو كما يدعوه العراقيون "الشاي الرئاسي" حيث يتم طبخه عبر وضع أوراق الشاي والكثير من حبات الهال في إبريق مصنوع من الألمنيوم، ويوضع إلى جانب منقلة شوي اللحوم وخصوصا السمك المسقوف.

لا يوجد زمان ومكان لشرب الشاي بالنسبة للعراقيين، فهو يُشرب صباحا مع الفطور، ويتم تناوله بعد وجبة الغداء والعشاء. ويُشرب وحده أو مع الكعك أو المعمول (يطلق عليها اسم الكليجة في العراق).

ومن شدة حب العراقيين للشاي وتعلقهم به، تم اعتباره من المواد الغذائية الضرورية خلال فترة الحصار الاقتصادي في التسعينات عند تنفيذ مذكرة التفاهم: النفط مقابل الغذاء. ورغم رداءة النوعية ومرارتها الشديدة وقلة كميتها، إلا أن العراقيين كانوا يشربونه رغم ذلك، ويضيفون له التمر في محاولة يائسة لتحسين طعمه.

يُشرب الشاي في العراق مع السكر، لكن في بعض مناطق إقليم كردستان يُشرب بطريقة تسمى "الدشلمة"، تتلخص بشرب الشاي مراً، ويضع مرتشفه مكعبا من السكر تحت لسانه.

 

وسيط للصلح وطلبات الزواج

 

في المضايف، يحتل الشاي موقعاً مهماً من المجلس، ليس كمشروب ضيافة فحسب، بل كوسيط اجتماعي تدور حوله مناقشات تتعلق بأمور اجتماعية هامة، مثل عقد الصلح في قضية خلافية أو سداد ديون أو تقديم طلبات الزواج.

ففي حالة التوجه لطلب رضا صاحب القرار في قضية ما، فإن صاحب الحاجة "يُمَشي" رجالا من أقاربه، بصحبة سيد أو شيخ أو وجهاء معروفين، بحسب أهمية الموضوع وحساسيته وقدرة الأشخاص على التأثير.

بعد استقرار "المشاية" في منزل أو مضيف الشخص المعني بالطلب، يبدأ توزيع أقداح الشاي على الضيوف، يمتنع الجميع عن شرب الشاي إلا بعد حصولهم على تعهد من الشخص المعني بالرضا والاستجابة لطلبهم. ومن النادر أن يتم رفض الطلب في حال الإعداد الجيد من قبل صاحب الحاجة من حيث اختيار أشخاص لهم مكانة اجتماعية مهمة أو لهم حظوة لدى صاحب الشأن.

وللمضايف والدواوين تقاليد عند تقديم الشاي، يمكن أن تسبب مشاكل كبيرة لصاحب المضيف إذا لم يكن من يقدم الشاي على دراية بها، فصينية الشاي عند التقديم يجب أن تبدأ من الشخص الأكبر سناً أو الأعلى مكانة، ثم يدار التقديم من اليمين إلى أن يتم وضع أقداح الشاي للجميع.

أما أقداح التقديم والتي تقتصر في المضايف على "الإستِكان"، فيجب أن تكون ممتلئة غير منقوصة، وإلا اعتُبر الأمر ذماً للشخص. وللملعقة أهمية خاصة عند تقديم الشاي فيجب وضعها على الصحن، ويمنع وضعها داخل قدح التقديم وإلا تم اعتبارها إساءة بالغة للضيف يمكن أن تؤدي إلى خلاف كبير خصوصاً إذا كانت هناك مشكلة عشائرية يراد إيجاد حل لها.

أحيانا، يترتب على نسيان شيء من هذه التقاليد أو التغاضي عنها إجراءات ترضية واعتذار تقدم من صاحب المضيف إلى ضيوفه.

 

طقوس خاصة ومعتقدات شعبية!

 

للشاي أدوات تتسابق ربات البيوت على اقتنائها،  ولا يخلو منها أي بيت من بيوت العراقيين كل حسب تفضيله وإمكانياته. فالبعض يقتني السماور لصنع الشاي، والبعض الآخر أباريق الالمنيوم أو "الستاينلس ستيل"، وهناك أباريق خزفية تتوارثها النساء عن أمهاتهن وجداتهن.

جميع المقتنيات المتعلقة بصناعة الشاي تطورت في الوقت الحالي وتنوعت أشكالها وهندستها، على رأسها "الإستكان التقليدي"، الذي يفضله كبار السن بشكل خاص في البيوت. أما الشباب فيفضلون تناول الشاي في الأكواب. بعض المقتنيات يتم توارثها جيلا بعد جيل، وبشكل خاص الأنتيكات من الأقداح والاباريق والملاعق وأوعية حفظ السكر ("الشكردان")، المطلية بالذهب أو المصنوعة من الزجاج والفضة.

ولا تخلو ثقافة الشاي في العراق من المعتقدات الشعبية، فتتجنب النساء وضع ملعقتين بالصدفة في أقداح الشاي المقدمة للرجال، والذي يعني أن الشخص سيتزوج بثانية إذا كان متزوجا أو إذا كان عازبا فيقال إنه سيتزوج باثنتين. أما إذا تم صب الشاي وظهرت الفقاعات في القدح، فتعني أن ثمة رزقا جديدا في الطريق، وتحرص ربات البيوت على إبعاد وجه إبريق الشاي عن صاحباتها، وإلا كان معناه الدخول في مشاكل عائلية.

وللمرأة العراقية طقوسها الخاصة في تناول الشاي، وخصوصا طقس يومي متوارث يسمى "شاي العصاري"، تتناوب فيه النساء على استضافة بعضهن وقت العصر، لاحتساء الشاي وتبادل الأحاديث والحكايات.

ويعتبر " چاي العباس" واحداً من أشهَر الطقوس النسائية في العراق، وهو دعوة لشرب الشاي تقدمها النساء عندما يحقق الله لهن أمنياتهن التي غالبا ما تكون متعلقة بالأبناء. تتضمن الدعوة تقديم الكعك الشعبي المعروف بـ"كعك السادة" وهو خليط من الطحين والسكر والسمن البلدي دون إضافات، ويكون صلبا يتم تذويبه عبر وضعه في قدح الشاي ثم أكله.

 

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.