صدرت أول عملة وطنية للعراق عام 1932.
صدرت أول عملة وطنية للعراق عام 1932.

مثل العراق نفسه، خاض الدينار العراقي حروبا كثيرة. ومثل موازنة بلده، يعتمد على النفط في توفير غطائه من العملة الأجنبية، فينتعش مع ارتفاع أسعار البترول ويتراجع إذا ما هوت.

مرت العملة العراقية بمراحل مختلفة. فحين حكمت الدولة العثمانية الأراضي العراقية، تداول العراقيون عملتها لأربعة قرون. ومع عشرينات القرن الماضي ومجيء الاحتلال البريطاني، استبدلت العملة العثمانية بالعملات الهندية مثل الآنة والروبية، التي حملت على وجهها صورة الملك البريطاني جورج الخامس لتكون العملات الوحيدة المتداولة في العراق.

 

الصعود إلى القمة

 

مع إعلان الاستقلال، ظهرت أول عملة وطنية في البلاد تحت اسم "الدينار" العراقي أصدرها مجلس عملة العراق في لندن، وحملت صورة الملك فيصل الأول.

انتهج مجلس عملة العراق في لندن سياسة نقدية صارمة تقول على الاحتفاظ باحتياطات نقدية عالية كغطاء لسعر صرف الدينار، وعزز قوة الدينار من خلال ربطه بالسعر التعادلي مع الباوند البريطاني.

في عام 1947، تأسس المصرف الوطني العراقي (تحول اسمه إلى البنك المركزي العراقي بعد نحو عشر سنوات)، ليكون له وحده حق إصدار العملة، وتحديد فئاتها ومقاييسها وتصاميمها وإعدام التالف منها.

مع إسقاط الملكية وإعلان الجمهورية في العراق، عام 1958، أصدرت بغداد عملة جديدة. هذه المرة بصورة شعار الجمهورية ورموز تاريخية مثل القيثارة السومرية وملوية سامراء والثور المجنح.

في هذه الفترة، تخلت بغداد عن الباوند البريطاني واتجهت إلى دولة عظمى أُخرى هي الولايات المتحدة الأميركية، ليعادل فيها الدينار العراقي الواحد 2.8 دولار أميركي. ومع تولي أحمد حسن البكر رئاسة العراق، (1968-1979) انتعش الدينار بفضل سياسات تأميم المصارف وشركات التأمين.

وبين عامي 1971 و1973، استفاد الدينار العراقي من سلسلة من الأزمات الاقتصادية الدولية (خاصة أزمة النفط) ليرتفع سعر صرفه.

حافظ الدينار العراقي على كامل قوته طيلة عقد السبعينات، مدفوعا بوفرة الاحتياطي النقدي والاستقرار الأمني عقب اتفاقية الجزائر بين بغداد وطهران عام 1975.

 

رحلة الانهيار

 

بدأت رحلة الدينار العراقي بالانهيار مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية.

يقول الباحث الاقتصادي بارق شبر: "كان العراق في بداية الحرب يملك احتياطيا كبيرا من العملة الصعبة. لكنه بدأ بالتأكل لتمويل الحرب".

لسد النقص، "بدأت الحكومة بالاقتراض دون صعوبات كبيرة، بسبب دعم العالم الغربي ودول الخليج للعراق في حربها ضد إيران"، يضيف شبر.

تسببت الحرب في انهيار حاد للدينار العراقي. مع بدايتها، كان دينار واحد يعادل 3.3 دولارات. ومع نهايتها سنة 1988، أصبح الدولار الواحد يساوي أربعة دنانير عراقية.

مع بداية الحرب مع إيران كان الدينار العراقي يساوي 3.3 دولارات. ومع نهايتها أصبح الدولار يساوي أربعة دنانير عراقية.

مع حلول التسعينات دخل العراق حربا جديدة عمقت من أزمة الدينار العراقي. كان ذلك "بعد اجتياح نظام صدام حسين للكويت، حيث تغير موقف الدول العربية والمجتمع الدولي.. وتم فرض حصار شامل على صادرات العراق النفطية". يقول بارق شبر. كانت تلك الصادرات المصدر الوحيد للعملة الصعبة في البلاد.

أدخلت الحرب العراق تحت العقوبات الاقتصادية، فتوقف تصدير النفط، وجمدت الاحتياطات الخارجية، ولم تعد العملة الأجنبية متوفرة في بلد يعتمد تماما على النفط.

أدى كل هذا إلى عجز كبير في الميزانية العراقية، فلجأت الدولة إلى "تمويل عجز الموازنة الحكومية من خلال الإصدار النقدي الكبير وغير المسؤول والذي تسبب بانهيار الدينار العراقي"، يوضح شبر.

تسببت هذه الخطوة في تضخم جامح وانخفاض في القوة الشرائية. يقول بارق شبر: "تراجعت قيمة راتب الأستاذ الجامعي إلى ما يعادل 3 إلى 10 دولارات شهريا".

تحت وقع الضغوط السياسية، غير البنك المركزي العراقي سياساته من سعر الصرف الثابت إلى العائم، ما يعني خضوعه لمعادلة العرض والطلب. شجع هذا الإجراء المواطنين على بيع عملتهم واستبدالها بالدولار، فارتفع سعر الأخير مقابل تهاوي الدينار العراقي أكثر.

استمرت سلسلة التراجعات طيلة التسعينات تقريبا وارتفع سعر الصرف إلى عشرة دنانير للدولار الواحد مع فرض مجلس الأمن لعقوبات اقتصادية صارمة. وفي منتصف التسعينات، وصلت قيمة الدولار الواحد إلى ثلاثة آلاف دينار عراقي.

استمر التردي في جميع مفاصل الحياة العراقية حتى بدأ تطبيق مذكرة برنامج النفط مقابل الغذاء عام 1996، الذي كان متنفس العراق الوحيد. خلال هذه الفترة، توقف تراجع الدينار العراقي مؤقتا وبدأ سعر صرفه بالتحسن نسبيا، حتى وصل إلى نحو ألفي دينار للدولار مع بداية القرن الحادي والعشرين.

 في سنة 2003، دقت طبول الحرب من جديد، واستعد الشعب المنهك وعملته الرديئة لتلقي الضربات. سقط النظام السياسي بسرعة غير متوقعة. وقرر مجلس الأمن رفع العقوبات عن العراق مع منح الولايات المتحدة سلطات واسعة مؤقتة لإدارة العراق الذي سُمِح له بتصدير النفط لتتدفق العملة الأجنبية من جديد.

في منتصف التسعينات، وصلت قيمة الدولار الواحد إلى ثلاثة آلاف دينار عراقي.

طُبعت عملات جديدة، وتبنى البنك المركزي العراقي نظام سعر الصرف المُعوم المُدار وفَتح نافذة بيع العملة الأجنبية ليسجل سعر الصرف 1690 ديناراً لكل دولار بنهاية العام 2003.

 

عملة احتيال عالمية

 

بات الدينار العراقي، منذ 2003، موضوعا لقصص نصب واحتيال دولية تثار إعلاميا وقانونياً كل بضع سنوات.

بعد سقوط صدام، وبالتزامن مع إصدار طبعة جديدة العملة العراقية، انتشرت شائعات تتوقع تعافي الدينار العراقي بشكل مماثل لما حدث مع الدينار الكويتي في أعقاب حرب الخليج الأولى، والمارك الألماني بعد الحرب العالمية الثانية.

شجعت هذه التوقعات الكثير من الأميركيين على شراء الدينار العراقي بكميات كبيرة. وهي العملية التي استمرت لسنوات طويلة، مدفوعة بتكرار الشائعات وبانتشار شبكات احتيال تغري الأميركين بشراء المزيد من العملة العراقية. وبلغ الأمر بإحدى هذه الشائعات إلى الادعاء بأن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب نفسه يستثمر في الدينار العراقي.

حتى الآن، لا توجد بيانات دقيقة حول حجم عمليات النصب تلك. لكن في قضية واحدة فقط، رفعت ضد شركة وساطة أميركية، تبين أن "عملاءها" أنفقوا عام 2015 وحده أكثر من 24 مليون دولار على شراء دينار عراقي غير قابل للتداول عالمياً. كان كل هؤلاء المشترين يتوقعون ارتفاع سعر الدينار العراقي، وعودته إلى سابق عهده. وهو ما يبدو مستبعدا جدا، على الأقل في الوقت الحالي.

يقول الخبير الاقتصادي قاسم جبار لـ"ارفع صوتك" إنه من غير المتوقع "ارتفاع سعر صرف الدينار العراقي ليعود إلى مستوياته السابقة قبل حرب الخليج الثانية.. فالاقتصاد العراقي لم يتعاف حتى الآن من آثار الحروب المتعاقبة".

وبحسب جبار، فإن أسعار الصرف "ترتبط بالتنمية التي تعاني من تراجع حاد في العراق. فالتعليم والصحة والطرق في أدنى مستوياتها، تضاف إليها معاناة جديدة سببها الجفاف الذي أدى إلى هجرة آلاف الفلاحين غير القادرين على زراعة أراضيهم".

ويوضح المحلل الاقتصادي العراقي أن "ما يمنع الدينار العراقي من الانهيار هو توفر العملة الأجنبية بفضل بيع النفط، الذي يغذي نافذة بيع العملات في البنك المركزي العراقي. وفي حالة تراجع أسعار البترول سوف يعاني الدينار العراقي من جديد وربما يتم تخفيض سعره مرة أخرى".

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.