في سبتمبر عام 1980، تفجّرت الحرب بين العراق وإيران بعد سنواتٍ طويلة من الخلافات حول ترسيم الحدود بين الطرفين، وخاصةً في منطقة "شط العرب" التي تنازعت الدولتان للسيطرة عليها.
العلاقة المعقدة بين البلدين لم تنشأ فقط بسبب الخلاف على نقطةٍ حدودية هنا أو هناك، ولكن الأمر أعقد من ذلك بكثير، فهو يعود إلى مئات السنوات التي قضتها الجارتان في التنافس والتصارع فيما بينهما حتى اتخذ الأمر شكله الأكثر تطرفًا في حرب الخليج الأولى.
الخلاف التاريخي حول "شط العرب"
لطالما أثارت النزاعات الحدودية خلافات بين العراق وإيران. ظهر هذا الأمر قبل تشكيل الدولتين في العصر الحديث، حيث شغلت تلك الأراضي الإمبراطوريتان العثمانية السُنية والصفوية الشيعية ودارت بينهما العديد من الحروب على نقاط التماس بين البلدين، وعلى رأسها شط العرب.
شط العرب يتكون من التقاء نهري دجلة والفرات، ويبلغ طوله قرابة 180 كم، ويبلغ عرض مجراه بين كليومتر واحد وكليومترين. نصف هذه المسافة تقريبًا يجري داخل التراب العراقي، والنصف الثاني يُعتبر بمثابة حدّ بحري فاصل بين العراق وإيران.
ومن خلال الواقع الجغرافي، فإن ذلك النهر يمثّل أهمية استراتيجية كُبرى للعراق لكونه منفذه الرئيسي إلى البحر، الذي يعتمد عليه في الاستيراد والتصدير، بينما تمتلك إيران ألفي كيلومتر من الأراضي التي تطلُّ على سواحل الخليج تمنحها خيارات متعددة في التجارة والتواصل بحريًا مع العالم.
في عام 1847، وقّع الطرفان معاهدة سمح فيها العثمانيون للصفويين بحق الملاحة في شط العرب دون إعاقة، وهو ما كان بداية أول تنازل عراقي في هذه القضية.
وعقب نشأة الملكية الهاشمية في العراق ودولة الشاه في إيران تحسّنت العلاقات بين الطرفين نسبيًا حتى أن الملك فيصل فكّر في الزواج بابنة الشاه لكنه تراجع لاحقًا. وبحسب علي جودة المالكي في كتابه "العراق وإيران: دراسة في العلاقات السياسية"، فإن هذا التحسّن النسبي في العلاقات لم يعنِ أن تكون خالية من المشاكل، فإيران لم تعترف بالمملكة العراقية إلا عام 1929، وظلّت مشاكل الحدود قائمة بين البلدين حتى أن طهران كانت تقيم مخافر لجيشها داخل عددٍ من القرى العراقية الحدودية.
أيضًا، داومت إيران على تسيير 3 دوريات مسلّحة في شط العرب يوميًا لتفتيش الزوارق ومصادرة عتاد الصيادين العراقيين إمعانًا في إثبات سيادتها على النهر. لم تحل هذه المشكلة إلا عام 1937م حين وقّعت إيران معاهدة حدودية مع العراق أمّنت لها نصيبًا من الإشراف على مياه شط العرب، وهو المغنم الإضافي الذي ظفرت به طهران بفضل الاضطرابات السياسية التي عاشها العراق عقب انقلاب بكر صدقي عام 1936م.
قُوبلت تلك المعاهدة برفضٍ شعبي واسع في أنحاء العراق، ونُظمت مظاهرات حاشدة في بغداد والبصرة ضد التصديق عليها، ورغم ذلك الاعتراض على بنودها، فإن إيران أعربت مرارًا عن رغبتها في نيل المزيد من المكاسب في مناسباتٍ لاحقة، وذلك عبر طلب تشكيل إدارة مشتركة للملاحة في شط العرب وتقسيم النهر بين البلدين وفقًا لمبدأ التالوك (أي من أعمق نقطة في مسار المياه). وعقب نجاح حزب البعث في الوصول إلى السُلطة عام 1968، أعلنت إيران إلغاء معاهدة 1937 من طرفٍ واحد، وبهذا عاد الخلاف بين الطرفين إلى نقطة الصفر.
في السنوات اللاحقة، لم تكن إيران تخفي رغبتها الواضحة في التعمّق داخل منطقة الخليج، فظلّت حتى عام 1970 تعتبر دولة البحرين تابعة لها حتى حُسم الأمر باستفتاءٍ شعبي، كما احتلت 3 جزر إماراتية عام 1971 ولا تزال خاضعة لها حتى الآن.
في هذه الأجواء، استمرّت المناوشات بين البلدين حتى قامت الجزائر بجهودٍ للوساطة بين البلدين انتهت بتوقيع صدام حسين، نائب الرئيس العراقي أحمد البكر آنذاك، اتفاقًا مع الشاه بهلوي عام 1975م قضى بتقسيم النهر بين الطرفين وفقًا لخط التالوك. وبهذا تحقّق لإيران مطلبها القديم.
تغيّرت قواعد اللعبة بعد أربع سنوات، حيث وقعتْ "الثورة الإسلامية" في إيران، وأتت بالخميني إلى سُدة الحكم، وهو الذي تمتّع بعلاقة بالغة السوء بالنظام العراقي إثر قرار بغداد طرده منها كجزءٍ من التزامها باتفاقية الجزائر مع الشاه.
في المقابل، اعتبر صدام حسين أن إيران تعيش حالة من الفوضى عقب وقوع الثورة، وهو ما سيمنعها من الردّ على أي قرارٍ يتّخذه، فأعلن إلغاء اتفاقية الجزائر وفرض سيادة بلاده الكاملة على شط العرب.
في سبتمبر 1980، شنَّ العراق هجومًا عسكريًا تجاه إيران. وفي 28 من ذات الشهر، أعلنت بغداد أنها مستعدة لإيقاف القتال إذا اعترفت إيران رسميًا بحقوق العراق في شط العرب، وتخلت عن سياستها في تصدير ثورتها إلى العالم، وبالأخص جارها ذي الأغلبية الشيعية العراق.
كان رد الخميني إعلان الاستنفار العام، وأفرجت السُلطات عن كل القادة العسكريين الإيرانيين الذين جرى اعتقالهم بسبب صِلتهم بالشاه، وانخرطت القوات الفارسية في معركتها بكل قوة.
وبهذا، اشتعلت حرب الخليج بين الطرفين، ودامت قرابة 8 سنوات.
العرب والحرب
تباينت مواقف الدول العربية تجاه الحرب. وقف أغلبها في صفِّ العراق، في حين دعمت بعض الدول إيران، مثل سوريا التي جمعت بين رئيسها حافظ الأسد وبين صدام حسين علاقة سيئة. فأقام علاقة متينة بإيران طيلة فترة الحرب شملت التعاون الاقتصادي والسياسي إلا أنها لم تمتدُّ إلى تقديم معوناتٍ عسكرية.
تلقت إيران الدعم من دولة عربية أخرى هي ليبيا، التي أيّدت طهران علنًا, وتوسطت مع البرازيل والنمسا لتزويد الجيش الإيراني بأسلحة قيمتها 500 مليون دولار.
وبحسب ما ورد في مذكرات نزار الخزرجي، رئيس أركان الجيش العراقي خلال الحرب مع إيران، فإن ليبيا زودت إيران بصواريخ سكود استخدمتها في قصف المدن العراقية.
ووفقًا للخزرجي، فإن اليمن أرسل 8 ألوية عسكرية لدعم العراق، أما مصر، فتطوّع الكثير من أهلها القاطنين في العراق دخل صفوف الجيش العراقي، كما زودت القاهرة بغداد بـ100 دبابة سوفييتية.
وقدمت دول الخليج، التي لا تمتلك قوة عسكرية، بعض المساعدات اللوجستية؛ فسمحت السعودية للعراق باستخدام مطاراتها كملاجئ لطائراته خلال معاركها مع نظيراتها الإيرانية. أما باقي دول الخليج فدعّمت بغداد بقروضٍ سخية تجاوزت قيمتها 90 مليار دولار، كان نصيب الكويت منها 14 مليار دولار تقريبًا.
لاحقًا، مثّلت مشكلة الديون أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت صدام للمغامرة باحتلال الكويت.
المفارقة أنه بعد نهاية الحرب وبسبب تداعيات احتلال الكويت على العراق، فكّر صدام حسين في ضرورة تأمين جانب إيران فعرض عليها إعادة اعتراف العراق باتفاقية الجزائر مقابل استئناف العلاقات بين البلدين، وهو التحوّل الذي لم يحقق السلام التام مع طهران، بل أثار المزيد من الريبة في نفوس حكام إيران. وهو ما علّقت عليه صحيفة إيرانية بقولها إن "رجلا يستدير فجأة بزاوية 180 درجة يُمكنه أن يتغيّر فجأة في الاتجاه المعاكس، فإن المضطربين عقليًا وحدهم هم الذين يتصرّفون على هذه الشاكلة".
أميركا وأوروبا.. مَن ضد من؟
يقول أستاذ التاريخ حسين فليح في دراسته "أثر السياسة الأميركية في الحرب العراقية الإيرانية"، إن الموقف الأوّلي للولايات المتحدة من الحرب كان إعلان الحياد. فكلا الدولتين لم تربطها بهما علاقات دبلوماسية، كما أنها اعتبرت أن تلك الحرب لن تؤثر على حلفائها ولن تغيّر من موازين القوى، طالما لم تتسع رقعتها إلى مناطقٍ أخرى ولم تؤثر على إمدادات النفط.
ارتبط هذا الحياد بحالة التفوّق التي حققها العراق في أيام القتال الأولى، وهي النتيجة التي كانت مناسبة لواشنطن، التي لم تكن ترغب في أن تحقق إيران انتصارًا لأن نظامها يشكل تهديدًا خطيرًا لاستقرار المنطقة، وفق الرؤية الأميركية، كما أنه قد يضرُّ بمصالحها في الخليج، وعلى رأسها إمدادات النفط وأمن إسرائيل.
سريعًا، انهار التفوّق العراقي ونفّذت إيران ضربات عسكرية قوية نجحت بموجبها في استعادة أراضيها واخترقت التراب العراقي ذاته. هنا، تغيّر الموقف الأميركي؛ ورُفع مستوى التمثيل الدبلوماسي مع العراق. وبدأت بغداد في تلقّي مساعدات سرية من أميركا.
يحكى دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي السابق خلال لقاء إذاعي أن أصدقاء الولايات المتحدة كانوا قلقين من انتصار إيران. لذا، طُلب منه الذهاب إلى بغداد لمقابلة صدام حسين، وهناك وجده في وضع غاية الصعوبة، وكان مهتمًا بالحصول على المساعدات الأميركية.
ووفقًا لرواية رامسفيلد، فإن الرئيس ريجان استجاب لرغبة صدام، فأمر بإزالة اسم العراق من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، كما بدأت المخابرات الأميركية في تزويد العراق بمعلومات استخباراتية عالية الأهمية.
وحينما تطوّر القتال بين البلدين إلى قصف ناقلات البترول، تدخلت الولايات المتحدة بشكلٍ مباشر ووفّرت حماية علنية لتلك الناقلات، مثلما جرى مع الكويت مثلاً، التي وضعت سُفنها البترولية الأعلام الأميركية لتجنُّب صواريخ طهران.
وفي مذكراته، عرض وزير التخطيط العراقي جواد هشام وثيقة أميركية مؤرَّخة في 6 أكتوبر عام 1989 لخصت لقاءً بين وزير خارجية العراق طارق عزيز ونظيره الأميركي جيمس بيكر.
خلال اللقاء، وجّه طارق عزيز الشكر لنظيره الأميركي بسبب مساعدة "السي آي إيه" للعراق بالمعلومات التعبوية والصور الفضائية طوال حربه مع إيران.
وفي لقاء آخر جمع بين الرجلين في 26 نوفمبر عام 1984م، عقب إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، جدّد فيه طارق عزيز شكره للولايات المتحدة بسبب جهودها لإيقاف بيع الأسلحة إلى إيران.
الملفت أن الولايات المتحدة، ورغم وقوفها إلى جانب العراق، وافقت على تزويد إيران بالأسلحة، وهي القضية التي فجّرتها الصحافة الأميركية وعُرفت بِاسم "فضيحة إيران – جيت"، وكشفت عن موافقة واشنطن تزويد الإيرانيين بأسلحة حديثة استخدمتها في حربها ضد العراق.
عقب هذه القضية، توجّه ريغان بخطاب للأميركيين كشف فيه بعض ملابسات الأمر:
كانت أوروبا بدورها ترغب في إطالة أمد الحرب، خاصة فرنسا وبريطانيا التي كان العراق وإيران معا يتزودان بالأسلحة منهما. في العام 1984م، أنفق العراق 14 مليار دولار على شراء الأسلحة أي ما يوازي نصف إنتاجه الوطني الخام.
بهذا الصدد، يقول جاك أتالي مستشار الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران في مذكراته: "تخشى كل جماعات الضغط الفرنسية الدبلوماسية والعسكرية والصناعية انتصار إيران، وتتحالف لصالح العراق ولتأييده، ومهما يكن فهي تتمنّى ظاهريًا أن تدوم الحرب أطول مدة ممكنة لبيع مزيدٍ من الأسلحة".
حرب لا رابح فيها
استمرت الحرب بين العراق ثماني سنوات، أسفرت عن خسائر فادحة، حيث قتل فيها مليون شخص، فضلا عن خسائر مالية وصلت إلى 350 مليار دولار، وفق ورد في تقرير نشرته قناة الحرة عن مجلة "ناشيونال إنترست" الأميركية.
يقول التقرير إنه بحلول عام 1988، كان الطرفان يعانيان خاصة إيران، بعد تعرضها لخسائر عسكرية كبيرة، وإفلاس البلاد، ما دفع الخميني إلى قبول محادثات وقف إطلاق النار. وفي 8 أغسطس كانت الحرب وضعت أوزارها بالفعل.
ورغم عدم انتصار أي طرف في الحرب والخسائر الفادحة التي تكبدها البلدان، إلا أن الجانب الإيراني عانى خسائر بمقدار 3 إلى 6 مرات مقارنة بالعراق، حيث تخطت الخسارة البشرية الإيرانية مليون قتيل فضلا عن 2 مليون إيراني دون مأوى.
على الجانب الآخر، انهار الاقتصاد العراقي وأصبحت مدينة البصرة في أقصى جنوب البلاد شبه مهجورة، فيما أصبح عدد كبير من العراقيين دون مأوى أيضا.
وانهارت قيمة الدينار العراقي. فمع بداية الحرب مع إيران كان الدينار العراقي يساوي 3.3 دولارات. ومع نهايتها أصبح الدولار يساوي أربعة دنانير عراقية.
وخلص تقرير "ناشيونال إنترست" إلى أن الجانبين لم يستطيعا تحقيق أكثر أهداف الحرب تواضعا، فالحدود لم تتغير، والجيشان انتهى بهما الحال بعد الحرب دون تغيير باستثناء الخسائر التي تعرضا لها، فضلا عن أن الطرفين قد أنفقا نحو 350 مليار دولار في حرب لا طائل منها.