مغامرات تان تان في "أرض الذهب الأسود" التي صدرت سنة 1950.
مغامرات تان تان في "أرض الذهب الأسود" التي صدرت سنة 1950.

قبل توليه عرش العراق، كان الملك فيصل الثاني محطَّ أنظار الكثيرين حول العالم بأسره. فبعدما توفي أبوه، وهو لا يزال صغيرًا في الرابعة من عُمره، تربّى فيصل في القصر العراقي حتى وصل إلى السن القانونية التي تسمح له بتولّي الحُكم.

خلال تلك السنوات كان "الطفل الملكي" موضع اهتمام الجميع داخل العراق وخارجه، حتى إن عددًا من الصحف العالمية أفردت مساحات كبيرة للحديث عن فيصل وعن حياته داخل القصر وعن العرش الذي ينتظره عندما يكبر. من ضمن تلك المساحات الصحفية كانت إحدى مغامرات البطل الكارتوني "تان تان"، والذي حقّق شهرة كبيرة بفضل مغامراته المشوقة التي جابت العالم شرقًا وغربًا.

ودفع الرسّام جورج ريمي بطله تان تان إلى التجوّل في أنحاء العالم العربي فزار مصر ولبنان وأخيرًا ذهب إلى العراق. لم يذكر جورج ريمي اسم العراق مباشرة وإنما اكتفى بالحديث عن دولة خليجية ثرية لم يُسمّها بِاسمها وإنما منحها لقبًا خياليًا وهو "خيميد".

 

الأمير عبد الله

 

أثارت الحكايات المتناثرة عن الأمير العربي الذي يعيش حياة أسطورية داخل قصره الشغف في نفس الرسام البلجيكي الكاتب البلجيكي جورج ريمي (المعروف بِاسم هيرجيه)، فقرّر أن يجعله أحد الأبطال الذي سيُشاركون تان تان مغامراته في بلاد الرافدين، والتي أفسح لها ريمي مجالاً مرتين في مطبوعاته؛ الأولى بعنوان "أرض الذهب الأسود" (1950)، والثانية "أسماك قرش البحر الأحمر" (1958).

البداية كانت مع تقرير نشرته مجلة ناشيونال جيوجرافيك عن العراق تحدّثت عن الملك ذي الـ6 أعوام، الذي ينتظره ملايين العراقيين ليكبر ويبلغ السن القانونية حتى يحكم بلادهم.

اعتمد ريمي على صورة نشرتها المجلة للملك حتى يجعلها وجها لشخصية افتراضية خلقها؛ هي الأمير عبد الله نجل الأمير أحمد حاكم مملكة خيميد الخيالية، والذي ظهر خلال الأحداث طفلاً مدللاً لا يكف عن المشاغبة، يُحبه والده ولا يتردد في التضحية بأي شيءٍ لحمايته.

 

كيف ظهر الملك فيصل؟

 

على صفحات المغامرات المصوّرة ظهر الأمير عبدالله كطفلٍ مُدلل، مفرط في النشاط والحركات الصبيانية، لا يكفُّ عن ارتكاب المقالب بحقِّ ضيوف أبيه.

في العدد الأول، "أرض الذهب الأسود"، تبدأ المغامرة بانفجار عدة سيارات في أوروبا بسبب تزويدها ببنزين فاسد. يقرّر الصحفي تان تان التحقيق في الأمر، فيصطحب كلبه الأبيض "ميلو" ورفيقه القبطان هادوك إلى إمارة "خيميد"، التي يكتشف أنها تعاني من صراعٍ بين شركات البترول نتج عنه صراع آخر بين الأمير محمد بن كاليش وبين عدوه الشيخ "باب الإحر".

وخلال المغامرة يكتشف تان تان مؤامرة خبيثة تقودها ألمانيا تسعى من خلالها إلى السيطرة على آبار النفط وحرمان فرنسا وبلجيكا منها. وبسبب هذا الصراع يُختطف ابن الأمير، الذي يطلب من تان تان العمل على تحريره، وهي المهمة التي ينجح فيها فيكتسب ثقة حاكم البلاد.

وفي مغامرة "أسماك قرش البحر الأحمر"، فإن أمير "خيميد" يُطاح به من منصبه عقب انقلابٍ قاده مُنافسه "باب الإحر" Bab El Ehr))، وهو ما دفعه لتكليف تان تان باقتياد حاشيته -وعلى رأسهم ولده عبد الله- إلى بلجيكا حيث عاش في أمانٍ هناك بعيدًا عن صراعات الشرق الأوسط.

 

الانتقادات الموجهة لجورج ريمي

 

لم يشتهر جورج أبدًا بحبّه في السفر. لذا كان يعتمد على ما يقرأه في الصحافة العالمية ويرسمه في مغامرات أبطاله وعلى ما طالعه سابقًا من كتابات المستشرقين، لذا وقع في فخ النمطية. فهو لا يعرف عن العرب والخليج إلا الجمال والصحراء والبشر الغاضبين الذين يتصارعون على الثروة ويُطاردون النساء الأوروبيات، كما أنه لم يزر الشرق الأوسط إلا في مرحلة متأخرة من حياته.

الناقد الفرنسي بينوا بيترز، الذي ألّف كتابًا عن السيرة الذاتية لجورج ريمي، اعتبر أن مغامرات تان تان تعكس "الخيال السياسي للأوروبيين بحق الشعوب الأخرى"، وهو ما يتجلّى في مغامراته حول العالم. فحينما زار تان تان الكونغو أظهر شعبها بأنهم ممتنّون لاستعمار البلجيكيين لبلادهم، وحينما زار الاتحاد السوفييتي أظهر سكّانه بأنهم أشخاص عدوانيون متجهمون دائمًا، وهو ما تكرّر خلال المغامرات العربية، والتي اعتمد فيها ريمي على أسماء غير عربية لكنها ستبدو كذلك في أعين القارئ الغربي.

وبشكلٍ عام، اعتمدت تلك المغامرات على مفهوم واحد، وهو مكافحة الفتى -الأوروبي- الطيب، الأشرارَ غير الأوروبيين حول العالم.

هنا، يجب ألا ننسى بأن تلك المغامرات كُتبت ونُشرت في أجواء اندلاع الحرب العالمية الثانية، والتي كان العالم يعيش فيها استقطابًا حادًّا بين دول الحلفاء والمحور، والتي خلّفت آثارًا كُبرى حتى بعد انقضاء الحرب، كما أن مجلة Le petit Vingtième التي كانت تنشر المغامرات على صفحاتها، كانت ذات هوى "يميني" متحفظ من الأجانب.

 

تان تان يعود إلى العراق

 

لسنواتٍ طويلة، ظلَّ الشريف علي بن الحسين رأس حربة التيار المُنادي بإعادة تدشين المملكة الهامشية في العراق. الشريف علي هو ابن خالة الملك فيصل الثاني الذي قُتل في أعقاب اندلاع ثورة 1958م، إثر المجزرة التي قضت على أغلب أركان الأسرة الهاشمية. بعد سقوط نظام صدام، اعتبر الشريف علي نفسه الوريث الشرعي لمنصب ملك العراق.

قتل الملك فيصل الثاني ولم يكن تجاوز من العمر 23 عاما.
مجزرة قصر الرحاب.. نهاية دموية لحُكم الهاشميين في العراق
كان عبد الستار العبوسي في القصر لحظة خروج العائلة المالكة. ما إن رآهم حتى هرع نحوهم قفزًا.. وتأكد من الضابط المرافق لهم أنه اصطحب كافة العائلة الهاشمية، ثم رفع رشاشه وراح يُطلق الرصاص يمينًا ويسارًا حتى سقطوا جميعًا مضرجين بدمائهم.

مات الشريف الهاشمي عام 2022م بعد أعوامٍ طويلة قضاها في معارضة نظام صدام حسين. حينما سُئِلَ الشريف علي عن ظهور الملك فيصل ضمن أحداث مغامرات تان تان، ضحك ونفى علمه بهذا الأمر، وصرّح قائلاً: "اعتدتُ قراءة مغامرات تان تان في الطفولة، لكني لم أطالع ذلك العدد مُطلقًا".

وأكد الشريف علي أن الملك فيصل لم يكن ليغضب إذا طالع تلك الأعداد لأنه كان يحب النكات. يقول علي: "ما أعرفه من حديث الأسرة عنه، أنه كان يمتلك روحًا تحبُّ المرح".

وعقب ظهور تنظيم "داعش" في العراق، ونجاحه في السيطرة على مساحاتٍ كبيرة من أراضيه، عاد الحديث عن "تان تان" والعراق مُجددًا، من باب السخرية المريرة هذه المرة، بعدما عبّر عددٌ من الرسّامين عن تخيّلهم لزيارة جديدة للمغامر البلجيكي إلى بلاد الرافدين، لكنه هذه المرة لم يخرج منها سالمًا وأُلقي القبض عليه وأُعدم مرتديًا بذلة الإعدام البرتقالية التي اشتهر إرهابيو داعش بإلباسها لضحاياهم.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.