قبل توليه عرش العراق، كان الملك فيصل الثاني محطَّ أنظار الكثيرين حول العالم بأسره. فبعدما توفي أبوه، وهو لا يزال صغيرًا في الرابعة من عُمره، تربّى فيصل في القصر العراقي حتى وصل إلى السن القانونية التي تسمح له بتولّي الحُكم.
خلال تلك السنوات كان "الطفل الملكي" موضع اهتمام الجميع داخل العراق وخارجه، حتى إن عددًا من الصحف العالمية أفردت مساحات كبيرة للحديث عن فيصل وعن حياته داخل القصر وعن العرش الذي ينتظره عندما يكبر. من ضمن تلك المساحات الصحفية كانت إحدى مغامرات البطل الكارتوني "تان تان"، والذي حقّق شهرة كبيرة بفضل مغامراته المشوقة التي جابت العالم شرقًا وغربًا.
ودفع الرسّام جورج ريمي بطله تان تان إلى التجوّل في أنحاء العالم العربي فزار مصر ولبنان وأخيرًا ذهب إلى العراق. لم يذكر جورج ريمي اسم العراق مباشرة وإنما اكتفى بالحديث عن دولة خليجية ثرية لم يُسمّها بِاسمها وإنما منحها لقبًا خياليًا وهو "خيميد".
الأمير عبد الله
أثارت الحكايات المتناثرة عن الأمير العربي الذي يعيش حياة أسطورية داخل قصره الشغف في نفس الرسام البلجيكي الكاتب البلجيكي جورج ريمي (المعروف بِاسم هيرجيه)، فقرّر أن يجعله أحد الأبطال الذي سيُشاركون تان تان مغامراته في بلاد الرافدين، والتي أفسح لها ريمي مجالاً مرتين في مطبوعاته؛ الأولى بعنوان "أرض الذهب الأسود" (1950)، والثانية "أسماك قرش البحر الأحمر" (1958).
#إقرأ معنا على #رفي إحدة المغامرات المصورة ل #تان_تان في أرض الذهب الأسود http://t.co/Z8laJxFInJ pic.twitter.com/d9KKUxem0d
— رفي لمتعة القراءة (@raffybooks) July 8, 2014
البداية كانت مع تقرير نشرته مجلة ناشيونال جيوجرافيك عن العراق تحدّثت عن الملك ذي الـ6 أعوام، الذي ينتظره ملايين العراقيين ليكبر ويبلغ السن القانونية حتى يحكم بلادهم.
اعتمد ريمي على صورة نشرتها المجلة للملك حتى يجعلها وجها لشخصية افتراضية خلقها؛ هي الأمير عبد الله نجل الأمير أحمد حاكم مملكة خيميد الخيالية، والذي ظهر خلال الأحداث طفلاً مدللاً لا يكف عن المشاغبة، يُحبه والده ولا يتردد في التضحية بأي شيءٍ لحمايته.
كيف ظهر الملك فيصل؟
على صفحات المغامرات المصوّرة ظهر الأمير عبدالله كطفلٍ مُدلل، مفرط في النشاط والحركات الصبيانية، لا يكفُّ عن ارتكاب المقالب بحقِّ ضيوف أبيه.
في العدد الأول، "أرض الذهب الأسود"، تبدأ المغامرة بانفجار عدة سيارات في أوروبا بسبب تزويدها ببنزين فاسد. يقرّر الصحفي تان تان التحقيق في الأمر، فيصطحب كلبه الأبيض "ميلو" ورفيقه القبطان هادوك إلى إمارة "خيميد"، التي يكتشف أنها تعاني من صراعٍ بين شركات البترول نتج عنه صراع آخر بين الأمير محمد بن كاليش وبين عدوه الشيخ "باب الإحر".
“The Red Sea Sharks” is the nineteenth volume of The Adventures of Tintin, the comic series by Belgian cartoonist Hergé. pic.twitter.com/M9RC5rFl3p
— LOOP GARMS (@loopgarms) September 13, 2021
وخلال المغامرة يكتشف تان تان مؤامرة خبيثة تقودها ألمانيا تسعى من خلالها إلى السيطرة على آبار النفط وحرمان فرنسا وبلجيكا منها. وبسبب هذا الصراع يُختطف ابن الأمير، الذي يطلب من تان تان العمل على تحريره، وهي المهمة التي ينجح فيها فيكتسب ثقة حاكم البلاد.
وفي مغامرة "أسماك قرش البحر الأحمر"، فإن أمير "خيميد" يُطاح به من منصبه عقب انقلابٍ قاده مُنافسه "باب الإحر" Bab El Ehr))، وهو ما دفعه لتكليف تان تان باقتياد حاشيته -وعلى رأسهم ولده عبد الله- إلى بلجيكا حيث عاش في أمانٍ هناك بعيدًا عن صراعات الشرق الأوسط.
الانتقادات الموجهة لجورج ريمي
لم يشتهر جورج أبدًا بحبّه في السفر. لذا كان يعتمد على ما يقرأه في الصحافة العالمية ويرسمه في مغامرات أبطاله وعلى ما طالعه سابقًا من كتابات المستشرقين، لذا وقع في فخ النمطية. فهو لا يعرف عن العرب والخليج إلا الجمال والصحراء والبشر الغاضبين الذين يتصارعون على الثروة ويُطاردون النساء الأوروبيات، كما أنه لم يزر الشرق الأوسط إلا في مرحلة متأخرة من حياته.
الناقد الفرنسي بينوا بيترز، الذي ألّف كتابًا عن السيرة الذاتية لجورج ريمي، اعتبر أن مغامرات تان تان تعكس "الخيال السياسي للأوروبيين بحق الشعوب الأخرى"، وهو ما يتجلّى في مغامراته حول العالم. فحينما زار تان تان الكونغو أظهر شعبها بأنهم ممتنّون لاستعمار البلجيكيين لبلادهم، وحينما زار الاتحاد السوفييتي أظهر سكّانه بأنهم أشخاص عدوانيون متجهمون دائمًا، وهو ما تكرّر خلال المغامرات العربية، والتي اعتمد فيها ريمي على أسماء غير عربية لكنها ستبدو كذلك في أعين القارئ الغربي.
وبشكلٍ عام، اعتمدت تلك المغامرات على مفهوم واحد، وهو مكافحة الفتى -الأوروبي- الطيب، الأشرارَ غير الأوروبيين حول العالم.
هنا، يجب ألا ننسى بأن تلك المغامرات كُتبت ونُشرت في أجواء اندلاع الحرب العالمية الثانية، والتي كان العالم يعيش فيها استقطابًا حادًّا بين دول الحلفاء والمحور، والتي خلّفت آثارًا كُبرى حتى بعد انقضاء الحرب، كما أن مجلة Le petit Vingtième التي كانت تنشر المغامرات على صفحاتها، كانت ذات هوى "يميني" متحفظ من الأجانب.
تان تان يعود إلى العراق
لسنواتٍ طويلة، ظلَّ الشريف علي بن الحسين رأس حربة التيار المُنادي بإعادة تدشين المملكة الهامشية في العراق. الشريف علي هو ابن خالة الملك فيصل الثاني الذي قُتل في أعقاب اندلاع ثورة 1958م، إثر المجزرة التي قضت على أغلب أركان الأسرة الهاشمية. بعد سقوط نظام صدام، اعتبر الشريف علي نفسه الوريث الشرعي لمنصب ملك العراق.

مات الشريف الهاشمي عام 2022م بعد أعوامٍ طويلة قضاها في معارضة نظام صدام حسين. حينما سُئِلَ الشريف علي عن ظهور الملك فيصل ضمن أحداث مغامرات تان تان، ضحك ونفى علمه بهذا الأمر، وصرّح قائلاً: "اعتدتُ قراءة مغامرات تان تان في الطفولة، لكني لم أطالع ذلك العدد مُطلقًا".
وأكد الشريف علي أن الملك فيصل لم يكن ليغضب إذا طالع تلك الأعداد لأنه كان يحب النكات. يقول علي: "ما أعرفه من حديث الأسرة عنه، أنه كان يمتلك روحًا تحبُّ المرح".
وعقب ظهور تنظيم "داعش" في العراق، ونجاحه في السيطرة على مساحاتٍ كبيرة من أراضيه، عاد الحديث عن "تان تان" والعراق مُجددًا، من باب السخرية المريرة هذه المرة، بعدما عبّر عددٌ من الرسّامين عن تخيّلهم لزيارة جديدة للمغامر البلجيكي إلى بلاد الرافدين، لكنه هذه المرة لم يخرج منها سالمًا وأُلقي القبض عليه وأُعدم مرتديًا بذلة الإعدام البرتقالية التي اشتهر إرهابيو داعش بإلباسها لضحاياهم.