للموروث العشائري جذر تأصل مع قيام الدولة العراقية، واستطاعت القبيلة أن تؤدي أدواراً مهمة على الصعيدي السياسي وليس الاجتماعي فحسب، حيث كانت لها الصدارة في إطلاق ثورة العشرين وتوجيه أحداثها إبان الانتداب البريطاني.
وفي العهد الملكي كانت القبيلة تحظى بدور كبير في فرض سلطة النظام واستتباب الأمن وملاحقة الجناة والنزاعات، بعد أن أقرت الدولة العراقية قانوناً خاصاً بها بعنوان "دعاوى العشائر"، مما أعطى لبعض الشيوخ سطوة تشبه لحد كبير الحكومات المحلية.
وظل ذلك القانون ساري المفعول قرابة 40 عاماً حتى قيام الحكم الجمهوري عام 1958، الذي قرر إلغاء القانون وإعلان جملة من التشريعات أضعفت سطوة رئيس العشيرة، بينها قانون استصلاح الأراضي.
وفي أواخر السبعينيات، انحسر دور العشيرة بشكل أكبر، وتراجعت قدرات القبيلة عن فرض الأحكام العرفية والفصل في النزاعات وبات أغلبها يسير تحت غطاء الدولة.
وفي االتسعينيات، صنع النظام السابق زعامات سياسية موالية له حتى أطلق عليها شعبيا (شيوخ التسعين) نسبة للحقبة الزمنية ، إلا أن العشيرة ومفردات "الشيخ" و"العطوة" و"الفصل" و"الدكة العشائرية"، عادت للظهور بقوة بعد سقوط نظام البعث 2003، في خضم ضعف القانون وفوضى الأوضاع التي رافقت عملية التحول الديمقراطي.
وعزز تجذر تلك المفردات في واجهة المجتمع العراقي، وبحسب مراقبين الاستثمار السياسي لبعض القوى والأحزاب التي عمدت على استخدام العشيرة وتجيير أفرادها لكسب أصواتهم خلال مواسم الانتخابات التشريعية أو المحلية.
وعمدت السلطات العراقية إزاء ذلك المد المتصاعد، وخلال قيام الجمعية الوطنية عام 2005، إلى تقديم مشروع لإقرار قانون للعشائر ينظم عملها ويبت في مجالات الاشتغال وطبيعة السلطات الممنوحة لها، إلا انه لم يبصر النور حتى الآن.
"استتباب الأمن"
يقول رئيس لجنة العشائر البرلمانية، النائب محمد الصيهود، لـ"ارفع صوتك"، إن "ذلك القانون جاء بمسمى المجلس الوطني للقبائل والعشائر العراقية، وهو تشريع مهم من شأنه الإسهام في استتباب الأمن وضبط النزاعات والسيطرة عليها".
القانون الذي عرض في البرلمان وقدم للقراءة الأولى في الأول من ديسمبر 2016، عاد إلى أدراج النسيان والتعطيل بسبب ما أحدثه من خلافات وجدل كبيرين بين الأوساط السياسية والنيابية، ومخاوف أن يسهم في ضعف مدنية الدولة و"عشرنة" السلطة.
ونصت المادة (45) من الدستور العراقي عام 2005: "تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون، ويعزز قيمها الإنسانية النبيلة بما يساهم في تطوير المجتمع ويمنع الأعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الإنسان".
ويشير الصيهود إلى أن "المجتمع العراقي ذو طبيعة عشائرية تفرض أن يكون لها قانون في ظل تنامي القبيلة ودورها والحاجة لإعادة تشكيل قدراتها في ظل التحديات الآنية التي تعيشها البلاد، من شيوع المخدرات والسلاح المنفلت وتصاعد النزاعات المسلحة التي عادة ما يذهب جراءها العشرات بينهم العديد من الأبرياء".
وينظم ذلك التشريع المعطل عمل العشائر عبر إدارة مركزية في العاصمة بغداد ومجالس محلية في بقية المحافظات، ويتم بموجب الإدارة تحقيق لقاءت دورية للتباحث في مجرى النشاطات والتطورات التي تعتري المشهد الاجتماعي.
"صراعات وفتنة"
من جهته، يعارض رئيس لجنة حل النزاعات في محافظة البصرة، يَعرُب المحمداوي، إقرار ذلك القانون ويعتبره "نسفاً للسلم الأهلي"، لأنه "يبرز الفتنة بين العشيرة الواحدة ويقوي من سطوة القبيلة على حساب الدولة وقانونها"، حسب قوله.
ويوضح المحمداوي لـ"ارفع صوتك"، أن "الهدف من القانون تحقيق مكاسب سياسية باستثمار القبيلة نحو الصراعات والخلافات التي تعمق الهوّة بين أفراد المجتمع، فضلاً عن كونه محاولة لتقويض مرتكزات الدولة وتحويل سلطتها نحو العشيرة".
ويتابع: "ذلك القانون وبحسب اطلاع شخصي، حاولت أطراف سياسية بالضغط على رئيس الجمهورية السابق فؤاد معصوم لتمريره في البرلمان، إلا أن الاعتراضات التي لاقاها أسهمت في إيقافه عند القراءة الأولى".
ويؤكد المحمداوي: "إذا ما كان هنالك أي تحرك للمضيّ بإقراره مجدداً سنحشد جميع الجهود لاعتراضه والحيلولة دون تمريره"، مردفاً أن القانون "حدد في مسودته نحو 60 عنواناً لرؤساء عشائر وترك أسماء وشخصيات أخرى".
"وهو ما يدفع نحو الصراعات والخلافات القبيلة، فضلاً عن أن بعض القبائل لها مواقف متباينة من الحكومة والعملية السياسية وبسنّ ذلك التشريع سنكون أمام كانتونات قبليّة"، يقول المحمداوي.
"سبب" تزايد النزاعات
وكانت لجنة الأوقاف والعشائر في مجلس النواب، حددت الاثنين الماضي، أسباب ارتفاع النزاعات العشائرية، فيما أوضحت أبرز فقرات مشروع قانون مجلس قبائل وعشائر العراق.
وقال عضو اللجنة النائب محمد الصيهود، لوكالة الأنباء العراقية الرسمية، إن "النزاعات العشائرية كثرت حالياً في بعض مناطق العراق، لأسباب كثيرة نتيجة تعقيدات الحياة وكثرة المشاكل خصوصاً الاقتصادية والثقافية".
وأضاف أن "ذلك جاء بسبب ضعف تطبيق القانون وامتلاك بعض العشائر أسلحة ثقيلة، فضلاً عن إضعاف دور رؤساء العشائر، وتدخل السياسة والسياسيين بالعشائر".
وأوضح الصيهود: "منذ الدورة الأولى في الجمعية الوطنية وحتى الآن نحاول تشريع قانون للعشائر والقبائل العراقية لدعم رئيس العشيرة لما يمكنه الحد من النزاعات العشائرية وحلَّها، فضلاً عن إعطائه دوراً في دعم الحكومة المركزية والمحلية والتعاون مع القضاء العراقي، وكذلك تشكيل مجلس مركزي ومجالس في المحافظات وعقد لقاءات دورية للنقاش وحلّ النزاعات العشائرية".
وأكد أن "تشريع هذه القوانين اصطدم بعدم الموافقة والدعم من قبل بعض الكتل السياسية تحت عناوين شتى من بينها أنه يتعارض مع المجتمع المدني".