عرف العراق العديد من المفكرين اللامعين الذين أسهموا بحظ وافر في إثراء الثقافة العربية المعاصرة. يُعدّ علي الوردي واحدًا من هؤلاء المفكرين. لعب الوردي دورًا رائدًا في حقل الدراسات الاجتماعية والتجديد الديني بما قدمه من كتب ودراسات معمقة. نلقي الضوء في هذا المقال على شخصية علي الوردي. ونبيّن أهم ما ورد في أشهر كتبه من آراء وأفكار.
من محل العطور إلى جامعة تكساس
ولد المفكر العراقي علي الوردي في مدينة الكاظمية ببغداد سنة 1913م. ترك التعليم الابتدائي في سن مبكرة ليعمل في محل لصناعة العطور. عاد للسلك الدراسي مرة أخرى والتحق بالصف السادس الابتدائي سنة 1931م. وتابع دراسته بتفوق محققًا المركز الأول في المرحلة الثانوية، ليتم اختياره لبعثة دراسية بالجامعة الأميركية ببيروت، وهناك حصل على درجة البكالوريوس. رجع الوردي إلى بغداد واشتغل مدرسًا في إحدى المدارس الإعدادية. وبعدها اُختير لبعثة علمية بجامعة تكساس حيث نال درجتي الماجيستير والدكتوراه.
توفي عالم الاجتماع العراقي الكبير د.علي الوردي في مثل هذا اليوم12-7-1995,له مؤلفات ذائعة مثل,وعاظ السلاطين,مهزلة العقل البشري,دراسة في طبيعة المجتمع العراقي,وكتابه الاهم والذي يقع في اجزاء لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث pic.twitter.com/STtEKiL9wF
— muqdad madlom (@muqdadmadlom) July 11, 2020
عاد الوردي إلى العراق، والتحق بالعمل في جامعة بغداد. شغل منصب مدرس لعلم الاجتماع بكلية الآداب بالجامعة. وتدرج في المناصب الجامعية حتى أحيل إلى التقاعد سنة 1970م بعد أن منحته الجامعة درجة أستاذ متمرس وهي أعلى الدرجات الأكاديمية في العراق.
دخل الوردي في صراع فكري مع العديد من التيارات السياسية المتواجدة على الساحة العراقية في عصره. انتقده القوميون لميله للتركيز على الهوية العراقية. وانتقده الشيوعيون لرفضه الاعتماد على منهج التفسير المادي للتاريخ. وهوجم من رجال الدين مرارًا بسبب نقده اللاذع لهم.
تعرض الوردي خلال حياته لبعض المضايقات التي فرضتها عليه السلطة. وفي 1995م توفي بعد صراع مع مرض السرطان. خلف الوردي ثمانية عشر كتابًا، فضلًا عن عشرات المقالات والأبحاث التي ناقشت مباحث متنوعة في علم الاجتماع. من أهم كتبه كل من "مهزلة العقل البشري،" و"وعاظ السلاطين"، و"لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث"، و"خوارق اللاشعور"، و"دراسة في طبيعة المجتمع العراقي".
وعاظ السلاطين
يُعد كتاب "وعاظ السلاطين" أشهر كتب علي الوردي على الإطلاق. صدرت الطبعة الأولى منه سنة 1954م. وعمل الوردي فيه على إعادة قراءة الفترة المبكرة من التاريخ الإسلامي وفق النظريات الحديثة في علم الاجتماع. افتتح الوردي كتابه بمقدمة صادمة إلى حد بعيد. أعلن فيها عن نقده الصريح لرجال الدين ولأساليبهم الدعوية. يقول الوردي: "...ابتلينا بطائفة من المفكرين الأفلاطونيين لهم أسلوب في التفكير يحاكي أسلوب الواعظين الذين لا يجيدون إلا إعلان الويل والثبور على الإنسان لانحرافه عما يتخيلون من مثل عليا، دون أن يقفوا لحظة ليتبينوا المقدار الذي يلائم الطبيعة البشرية من تلك المثل. فقد اعتاد هؤلاء المفكرون أن يعزوا علة ما نعاني من تفسخ اجتماعي إلى سوء أخلاقنا، وهم بذلك يعتبرون الإصلاح أمرًا میسورًا. فبمجرد أن نصلح أخلاقنا، ونغسل من قلوبنا أدران الحسد والأنانية والشهوة، نصبح على زعمهم سعداء مرفهين ونعيد مجد الأجداد... وإني لأعتقد بأن هذا أسخف رأي وأخبثه من ناحية الإصلاح الاجتماعي. فنحن لو بقينا مئات السنين نفعل كما فعل أجدادنا من قبل، نصرخ بالناس ونهيب بهم أن يغيروا من طبائعهم، لما وصلنا إلى نتيجة مجدية. ولعلنا بهذا نسيء إلى مجتمعنا من حيث لا ندري... إن الطبيعة البشرية لا يمكن إصلاحها بالوعظ المجرد وحده. فهي كغيرها من ظواهر الكون تجري حسب نواميس معينة. ولا يمكن التأثير في شيء، قبل دراسة ما جبل عليه ذلك الشيء من صفات أصيلة...".
يربط الوردي في كتابه بين الخطاب الدعوي الذي اعتاد الوعاظ ترديده عبر القرون من جهة واستبداد السلطة السياسية من جهة أخرى. ويوضح أن الواعظ والسلطان لم يكونا إلا وجهين لعملة واحدة. يقول الوردي موضحًا رأيه في تلك المسألة: "...الواعظون لا يهتمون لو كان المغني يغني للخليفة فتهتز على صوته بطون الجواري، ولكنهم يهتمون كل الاهتمام إذا رأوا صعلوكاً يغني لنفسه أو لأهل قريته من الفقراء والمساكين. ويبدو لي أن هذا هو دأب الواعظين عندنا اليوم، فهم يتركون الطغاة والمترفين يفعلون ما يشاؤون، ويصبون جل اهتمامهم على الفقراء من الناس، فيبحثون عن زلاتهم وينغصون عليهم عيشتهم وينذرونهم بالويل والثبور في الدنيا والاخرة. وسبب هذا التحيز في الوعظ، فيما أعتقده، راجع الى أن الواعظين كانوا ولا يزالون يعيشون على فضلات موائد الأغنياء والطغاة، فكانت معائشهم متوقفة على رضا أولياء الأمر، وتراهم لذلك يغضون الطرف عما يقوم به هؤلاء من التعسف والنهب والترف، ثم يدعون الله لهم فوق ذلك بطول العمر. ويخيل لي أن الطغاة وجدوا في الواعظين خير معوان لهم على إلهاء رعاياهم وتخديرهم. فقد انشغل الناس بوعظ بعضهم بعضًا، فنسوا بذلك ما حل بهم على أيدي الطغاة من ظلم...".
كانت قضية عبد الله بن سبأ ودوره في الحرب الأهلية بين المسلمين من بين النقاط المثيرة للجدل التي طرحها الوردي في الكتاب. أبدى المفكر العراقي تعجبه واندهاشه من الأعمال العظيمة التي نسبها المؤرخون إلى شخصية ابن سبأ، والتي لا يمكن أن يقوم بها سوى "عبقري أو ساحر أو منوم مغناطيسي من طراز فذّ" بحسب تعبير الوردي.
أكد الوردي أن المؤرخين المسلمين الذين أوردوا تفاصيل شخصية ابن سبأ انطلقوا في تصوراتهم من الاعتقاد بمثالية المجتمع المسلم في مرحلة صدر الإسلام، ومن هنا أنكروا طبيعة الحركة الإنسانية وتغافلوا عن حقيقة تعارض المصالح بين الطبقات المختلفة. ذكر الوردي أن الصدام وقع بين الطبقة الأرستقراطية القرشية صاحبة الأملاك العظيمة، والطبقة المحرومة المُشكلة من العوام. كانت الثورة التي قام بها أهل الأمصار الإسلامية على الخليفة الثالث عثمان بن عفان نتيجة طبيعة لحالة الصراع الطبقي. لمّا كان المؤرخون الذين دونوا أحداث تلك الفترة القلقة من المؤيدين للسلطة الحاكمة فقد شوهوا تفاصيل وأحداث تلك الثورة من خلال نسبتها إلى عنصر أجنبي دخيل -ابن سبأ- وذلك بهدف تهميشها وتشويه صورتها.
بناء على ذلك الطرح، يلخّص الوردي رأيه في ابن سبأ بقوله: "إن ابن سبأ في كل زمان ومكان، فكل حركة جديدة يكمن وراءها ابن سبأ، فإن هي نجحت اختفى اسم ابن سبأ من تاريخها وأصبحت حركة فُضلى، أما إذا فشلت فالبلاء نازل على رأس ابن سبأ، وانهالت الصفعات عليه من كل جانب".
أيضًا عقد الوردي في كتابه مقارنة بين ابن سبأ وعمار بن ياسر، وخلص إلى احتمالية أن تكون قصة ابن سبأ مُقتبسة من قصة عمار. من الأدلة التي استند إليها الوردي في هذا الرأي أن عمار كان من أصول يمنية، وأن أمه -سمية- كانت ذات بشرة سوداء، وكان يُنادى في بعض الأحيان بابن السوداء. كذلك، كان عمار معروفًا بإخلاصه لعلي بن أبي طالب وبرفضه لسياسات عثمان ومن تبعه من بني أمية. في السياق نفسه، يتساءل الوردي عن السبب الذي منع المؤرخين من ذكر أي دور لابن سبأ في معركة صفين، رغم حضوره في مقتل عثمان، ومعركة الجمل. يجيب المفكر العراقي على هذا السؤال، بأن السبب في غياب ابن سبأ هو مقتل عمار بن ياسر في تلك المعركة.
تسبب كتاب "وعاظ السلاطين" في اندلاع موجة عاتية من الجدل والصخب في الأوساط العراقية.
أثارت الأفكار التي وردت في الكتاب غضب رجال الدين العراقيين. وقام الكثيرون منهم بتوجيه السباب والشتائم للوردي. بل ودعا بعضهم لقتله وإراقة دمه.
على النقيض من ذلك، نال الكتاب استحسان العديد من المفكرين والمثقفين المعروفين. عمل نوري السعيد، رئيس الوزراء العراقي في تلك الفترة على تهدئة الرأي العام. أمر بسحب نسخ الكتاب من السوق وحجز الوردي لمدة ثلاثة أيام في مركز شرطة الكاظمية بهدف حمايته من تهديد أعدائه. على الجهة المقابلة. لم تنجح تلك الإجراءات في الحد من الجدل الفكري المُثار حول الكتاب. قام العديد من رجال الدين العراقيين بتأليف الكتب للرد على كتاب الوردي. من أشهر تلك الكتب كل من "الموعظة الحسنة" لمحمد صالح القزويني، "مع الدكتور الوردي" لمرتضى العسكري، "من كنت مولاه" لعبد المنعم الكاظمي، "حكم المقسطين على كتاب وعاظ السلاطين" لسهيل حبيب العاني.
مهزلة العقل البشري
صدرت الطبعة الأولى من كتاب "مهزلة العقل البشري" سنة 1959م. ألف الوردي هذا الكتاب من مجموعة من المقالات والأبحاث التي لا يربط بينها رابط واحد. كان هدفه الأول من الكتاب هو الرد على بعض الانتقادات التي وجهت لكتاب وعاظ السلاطين.
أكد الوردي في كتابه على ضرورة التخلي عن الأيديولوجيات والمذهبيات. وأن يكون الحق وحده هو الهدف المنشود للباحث والمفكر. يقول الوردي مبينًا دور العوامل الاجتماعية والبيئية في تحديد التوجهات الشخصية: "حين يدافع الإنسان عن عقيدة مذهبية يظن أنه إنما يريد بذلك وجه الله أو حب الحق والحقيقة، وما درى بهذا أنه يخدع نفسه. إنه في الواقع قد أخذ عقيدته من بيئته التي نشأ فيها. وهو لو كان قد نشأ في بيئة أخرى لوجدناه يؤمن بغير عقائد تلك البيئة من غير تردد ثم يظن أنه يسعى وراء الحق والحقيقة".
كتاب مهزلة العقل البشري من الكتب الفلسفية الجميلة التي انصح بتأمل كلماته و التروي في قرأته pic.twitter.com/0l0SmyIpha
— Rahaf🇸🇦 (@rhfs___) October 12, 2022
يحكي الوردي في الكتاب عن أحد المواقف الصعبة التي مر بها في حياته، والتي تعرض بسببها للتكفير من جانب بعض المتشددين. يقول: "ألقيت في مساء الثامن والعشرين من شهر شباط الماضي محاضرة عامة في قاعة الآداب... وقد أشرت أثناء المحاضرة إلى مدى التشابه بين التفسّخ الذي كانت عليه قريش وهذا التفسخ الذي عليه المترفون من قومنا في هذا العصر. ولم يكن يخطر ببالي أن هناك بين المستمعين من يقدّس قريشًا أو يقدّس المترفين في عصر من العصور. سئلت أثناء المحاضرة عن النبي محمد... ورأيي في هذا النبي معروف، يعرفه جميع الطلّاب اللذين يحضرون صفوفي وجميع القراء الذين يقرأون كتبي وليس عندي ما أكتمه في هذا الصدد". أثارت تلك الحادثة الجدل من جديد. يحكي الوردي في كتابه أن أحد رجال الدين ذكره بالاسم في خطبة الجمعة، فقال: "هناك ثلاثة أمور تؤدي إلى فساد البلاد، هي القمار والبغاء والدكتور علي الوردي!!".
كاد النقاش الفكري الدائر حول كتابات الوردي أن يصل إلى حد الاعتداء الجسدي عليه. يحكي الوردي في خاتمة الكتاب: "جاء إلى بيتي، بعد تلك الموعظة الشعواء، ثلاثة رجال وهم يلفون رؤوسهم بالأغطية البيضاء. وصاروا يحومون حوله ويتهامسون، فخرج إليهم أحد الجيران فهربوا. وكنت لسوء الحظ غائبًا عن البيت. وإني أعتقد بأن هؤلاء الرجال الثلاثة هم من الذين يرتكبون في حياتهم رذيلة القمار والبغاء. وهم إنما أرادوا الاعتداء عليّ بعد أن سمعوا الواعظ يضعني في مرتبة القمار والبغاء. أتراهم وجدوني منافسًا لهم في هاتين الرذيلتين؟ إنهم يرتكبون فعلًا ما نهى عنه الدين. ولكنهم يصبحون من أشدّ الناس غيرة على الدين حين يجدون فيه وسيلة للاعتداء. ونحن نأسف أن نرى الوعاظ يستخدمون مثل هؤلاء السفلة في دعايتهم الدينية...".