في عام 1993، كان العراق يعيش واحداً من أسوأ أوضاعه تحت حُكم صدام حسين، بعدما تلقّى هزيمة موجعة أجبرته على الانسحاب من الكويت ثم فُرض عليه حصار اقتصاديّ وضعه في مأزق لم يمر به من قبل.
في أحد الاجتماعات، سأل صدام الحضور فجأة عن طبيعة حزب البعث، هل هو علماني أم إيماني؟ وكعادة صدام فإنه لم ينتظر الرد من أحد وأجاب على نفسه بنفسه قائلاً إنه اختار أن يكون إيمانياً.
كان هذا الاختيار مباغتاً للحضور ولطبيعة الحزب نفسه الذي أخلص للعلمانية، وخاصم المذهبية الدينية منذ تأسيسه. ففي مؤتمره القطري التاسع عام 1982 مثلا، انتقد حزب البعث الظاهرة الدينية واعتبر أنها تؤدي إلى "التمايز بين الحزبيين على أساس طائفي، في الوقت الذي شكّل فيه الحزب وعاءً موحداً لكل المنتسبين له بصرف النظر عن مناشئهم الدينية والمذهبية، وهذه (الظاهرة الدينية) ظاهرة خطيرة جداً تمسُّ جوهر العلاقة الحزبية وتؤدي إلى زرع الانقسامات اللاموضوعية في الحزب".
وهو ما يعلّق عليه فالح عبد الجبار في كتابه "دولة الخلافة: التقدّم إلى الماضي": "وكأن هذا الانقلاب الأيدولوجي كان ناجماً عن الهزيمة، وإعلان إفلاس أيديولوجي لكل أطروحات الحزب في الفترة الماضية".
مثّلت هذه الأطروحات إعلاناً رسميّاً بانهيار الأيدولوجيات العروبية السياسية، بعدما نكص عنها حزب البعث ذاته، وأهم تجربة عروبية سياسية عرفها الشرق الأوسط، واستعان بدلاً منها بأيدولوجيا السلفية المحاربة، وأصبح "السلفي المحارب" هو الأمل الوحيد في الانتصار على الغرب مُزيحاً في طريقه كل النُخب والقناعات السياسية المحلية الأخرى.
يقول الباحث العراقي المتخصص في مجال الأنثروبولوجيا علاء حميد في بحثه "نظرة على الدولة والقومية العربية في العراق"، إن الأزمات التي مرَّ بها المجتمع العراقي بعد حربيْ إيران والكويت كشفت أن القومية البعثية لم تعد قادرة أن تكون مصدر طاقة للنظام بشكلٍ يجعله يهيمن على الدولة وعلى حركة المجتمع.
ويضيف: "باتت القومية بحاجة إلى مضمون جديد يمنحها صلاحية البقاء والهيمنة، وهو ما تحقق بالحملة الإيمانية".
بذور الحملة الإيمانية
بحسب رشيد الخيُون في كتابه "100 عامٍ من الإسلام السياسي بالعراق"، فإن ظهور إيران الخمينية فجّر موجة كبرى من التدين في العالم بأسره. وكان محتماً أن ينال العراق جانبا منها.
ضاعَف ذلك اندلاعُ الحرب العراقية الإيرانية، التي ارتدت زياً مذهبياً وعرقيا، بعدما صُوّرت على أنها إعادة للصراع القديم بين السنة والشيعة وبين العرب والفرس على زعامة المنطقة. خلال هذه الحرب، أظهر البعث العراقي اهتماماً كبيراً بوزارة الأوقاف، وعيّن أحد كوادره (هو عبد الغني عبد الغفور) وزيراً للأوقاف خلافاً لما كان معروفاً من الاكتفاء بتنصيب أحد رجال الدين على تلك الوزارة.
تتالى استقبال بغداد للوفود الإسلامية من كافة الأصقاع لإعلان دعمها للعراق في حربه، مثلما جرى عام 1982 حين استقبلت وزارة الأوقاف العراقية وفداً إسلامياً من موزمبيق صرّح قائده الشيخ أبو بكر إسماعيل بأنه "على الشعوب الإيرانية إرغام حكامها على الاعتراف بحقوق العراق العادلة".
وخلال أزمة الخليج أيضا، بدأت مساعي صدام حسين لإظهار نفسه كحامٍ للأمة العربية والإسلامية، فقصف إسرائيل بصواريخ إسكود في يناير 1991. وفي خطبة شهيرة له دعَا المواطنين الخليجيين للثورة على أنظمتهم، فقال "أيها العرب، أيها المسلمون، المؤمنون في كل مكان، هذا يومكم للنهوض والدفاع عن مكة، التي يحتلّها حلفاء الأميركيين والصهاينة، ثوروا ضد القمع والفساد والخيانة والغدر".
سنوات الحملة
يقول المؤرخ أماتزيا بارام، مؤلّف كتابه "صدام حسين والإسلام"، إن صدام حرص ألا يعتمد على كلمة "إسلام" في تسمية تلك المبادرة حتى لا يربطها البعض بالنسخة الوهابية من الإسلام، التي تبنّها السعودية، وإنما سعى صدام لتقديم نسخته الجديدة والعراقية من الإسلام السياسي الممزوج بتقاليد حزب البعث.
اشتملت حملة صدام الإيمانية الجديدة في العراق على مزيجٍ معقد من دروس التربية الدينية، واشتراطات تحديد أشكال السلوك والملابس، ووضع قائمة عقوبات شديدة القسوة. وشملت الحملة حتى أسلحة الدولة الفتّاكة بعدما جرت تسمية صواريخ الدولة بمسميات دينية مثل "صاروخ الحسين" و"صاروخ العباس".
على الفور، بدأت ملامح تلك الحملة في الظهور علناً؛ تحجّبت زوجات وبنات العديد من قادة حزب البحث، كما جرى تصميم حجاب خاص للنساء المتطوعات في قوة "جيش القدس"، التي جرى تدشينها لاحقاً لتدريب الفلسطينيين على الأعمال العسكرية.
ومن ضمن العقوبات الجديدة التي بدأ العراق في تنفيذها، بدء قطع يد اللصوص في أماكنٍ مخصصة لذلك، وإلقاء المثليين من فوق أسطح البيوت، مثلما حدث مع 3 من "فدائيي صدام" ألقي بهم من فوق سطح بناية عالية في البصرة بعدما أدينوا بـ"اللواط". وصدر كذلك قرار بسجن أي قيادي بعثي يلعب القمار، لمدة 3 سنوات، واعتادت الصحف نشر أخبار قطع رؤوس نساء بالسيف بعدما اتُّهمن بالدعارة، كما أُقرّتْ عقوبة "صلم" (استئصال) آذان الهاربين من الخدمة العسكرية.

أنشأ النظام جامعة صدام للعلوم الإسلامية، وجعل لها فروعاً في مناطق مختلفة لتدريب كافة رجال الدين. ومن المفارقة أن أبا بكر البغدادي زعيم تنظيم داعش تلقّى دروساً فيها. أصبحت دراسة القرآن إلزامية في المدارس كافةً، وخُصصت محطة إذاعية لبثِّ تلاوات القرآن لمدة 16 ساعة يومياً.
قرّرت الدولة أيضاً تخفيف عقوبة أي سجين حفظ أجزاءً من القرآن، وربما الإفراج عنه تماماً إذا حفظ القرآن كاملا، معتبرة أن حفظ هذا المقدار الكبير من الآيات سيكون بمثابة توبة مقبولة.
وجرى تنظيم دورات دينية مكثفة لأعضاء حزب البعث ثم لعموم الطلاب، وأُلزم شباب حزب البعث بحضور الدروس الدينية التي كانت تقام في الجوامع.
سريعاً، اتّسع هذا "التعليم الديني" ليشمل القادة الحزبيين ورجال الأمن والمخابرات الذين بات عليهم حضور "دورات شرعية" مدتها 6 أشهر. أما كبار القادة فخضعوا لدورة امتدّت لعامين كان عليهم خلالها حِفظ ثلاثة أرباع القرآن ودراسة الكثير من الكتب السلفية.
اشتملت تلك الدورات على دراسة كتب دينية أساسية تتضمّن تفاصيل العقوبات الإسلامية مثل قطع يد السارق ومعاقبة الزناة والبغايا، وكذلك تتخذ موقفاً معادياً للشيعة ولكل الطوائف الدينية الأخرى باعتبارهم كفاراً أو مرتدّين يجب قتلهم.
افتُتح مسجد أو مصلّى صغير في كل مدرسة. وكان كل شخص يبني مسجداً يُعفى من الضرائب وتمنحه الدولة مواد البناء بنصف سعرها، كما قرّر صدام بناء مسجد كبير في كل محافظة سنويا. منها مسجد "أم المعارك" (اللقب الذي منحه صدام لمعركته مع قوات التحالف خلال حرب الخليج) في بغداد، الذي تكلّف إنشاؤه قرابة 7.5 مليون دولار وقتها، و"مسجد الرحمن"، الذي كان مُخططاً له أن يكون أكبر جامع في العالم الإسلامي ويتّسع لمليون مصلٍ لكن أعمال بنائه لم تُستكمل بسبب سقوط النظام في 2003.
بدوره، نال صدام نصيبه من تلك الحملة بعدما انهالت عليه الفتاوى التي تدعمه وتؤيد خطواته لإحياء المد الديني في البلاد. خرجت تلك الفتاوى من بعض رجال الدين الذين عارضوا صدام كثيراً واعتبروا أن صدام "تاب وعاد إلى الله".
كانت تلك الفتاوى غيضاً من فيض المساعي الحميمة لتلميع صورة صدام، باعتباره القائد المؤمن لعهد العراق الجديد تحت الأيدولوجيا "البعثية الدينية". اعتادت جريدة "الثورة" (جريدة الحزب الرسمية) نشر صور لصدام حسين وهو يستقبل رجال الدين العراقيين من السُنة والشيعة. كثيرٌ من هذه الصور كانت تُنشر بدون تعليق أو شرح لبعض محتوى تلك اللقاءات، وهو ما يؤكد أن الغرض منها دعائي بحت.
أضاف صدام بيده عبارة "الله أكبر" على العلم العراقي كرد رمزي على خصميه السعودية وإيران اللتين توجد على علميهما شعارات دينية أيضاً، كما أمر بكتابة نسخة من القرآن بدمه بدلاً من الحبر، وتعدّدت صوره وهو يزور العتبات الشيعية المقدّسة ليصلّي فيها، كما كثر استشهاده بالقرآن والأحاديث النبوية خلال خُطبه.
تماهَى عددٌ من كبار رجال الدين مع تلك الحملة –التي سترفع كثيراً من مكانتهم في المجتمع- فدأبوا على الظهور في التلفاز وإعلان تأييدهم لها علناً، منهم الفقيه الكبير جلال الحنفي الذي ألّف كتاباً بعنوان "شخصية الرسول الأعظم قرآنياً"، أهداه إلى صدام حسين بعبارة قال فيها "إلى راعي الحملة الإيمانية الرائدة في العراق".
أُفرج أيضا عن رجال دين سلفيين من السجن، وسُمح لهم بالعمل العلني خلال الحملة الإيمانية، وسريعاً ظهرت آثارهم، وتحديداً على المناطق الغربية الأكثر محافظة وتديناً. وفي منتصف التسعينات انتشرت اللحية والدشداشة القصيرة بين الشباب، وشاع استخدام المسواك في تنظيف الأسنان، وانتشرت أشرطة الكاسيت التي تحرّم الغناء وحفلات الأعراس والاحتفالات الشعبية.
يقول عبد الجبار: "باتت الدشداشة القصيرة لباساً عاماً لذكور مدينة الرمادي، وسيطرت العناصر السلفية على فضائها الاجتماعي؛ يخطبون في الجوامع ويقدمون المساعدة، وسُمح لبعضهم بحمل السلاح".
اللعب بنار التطرف أحرق العراق
في أواخر 1995، بدأت مظاهر التجلّي الأكثر خطورة لحملة التدين التي رعاها صدام. في مدينة الفلوجة، هاجم شاب سلفي يُدعى محمد الكبيسي دار السينما الوحيدة في المدينة، وفجّر معها محلين لبيع أشرطة الفيديو وأشرطة كاسيت الأغاني، قبل أن يقتل خلال مُطاردة الأمن له.
وبدلاً من أن تشنَّ السُلطات حملة موسّعة على المجموعة التي ينتمي إليها الكبيسي وتضيّق عليها النطاق، أُرسلت آليات استكملت مهمة محمد! فهدمت ما تبقى من السينما وبُني جامع بدلاً منها، كما أُغلقت محلات الكاسيت أو أجبر أصحابها على بيع المحاضرات والأناشيد الدينية بدلاً منها، كما ينقل فالح عبد الجبار في كتابه "دولة الخلافة: التقدّم إلى الماضي".
في بحثه، يرد علاء حميد على مَن قارَن بين "حملة صدام الإيمانية" وبين أطروحات ميشيل عفلق (مؤسس حزب البعث) الفكرية التي دعا فيها إلى استحضار روح الإسلام وبعثها في الأمة العربية من جديد في محاولة لاستعادة "النموذج النبوي" في بعث الأمة العربية وتحويلها من مجموعة قبائل متشرذمة إلى تكوين إمبراطورية كُبرى.

يقول حميد إن الاستعادة في نموذج الحملة الإيمانية كانت محصورة في النموذج المذهبي المُصاغ سياسياً، وليس تاريخياً ولا اجتماعياً. وفي النهاية أدّت "حملة صدام" إلى عكس الغرض المشار إليه، بعدما مهّدت الطريق لإحياء الصراع المذهبي في العراق، وأعطته مشروعية جديدة قائمة على فرض نسخة منقّحة من التطرف الديني مقبولة سياسياً، نسخة ذات طبعة سلفية تحتكر النقاء الإسلامي تزاوجت مع القومية البعثية التي كانت تحتكر النقاء القومي العربي.
ويضيف وضّاح العنبكي في كتابه "إشكاليات الهوية وبناء الدولة والمجتمع" أن هذه الحملة خلقت حالة توتر اجتماعي وثقافي داخل الدولة العراقية، وجعلت المجتمع بأسره يعيش حالة من الفراغ والغُربة الذاتية حتى بداية الألفية الثالثة. لهذه الأسباب سادت مظاهر "التدين الشعبي" وثقافة التنجيم والروح القبلية والخرافات والنزوع إلى التطرف بين الناس. هذه التراكمات استمرّت آثارها السلبية على العراقيين حتى بعد انقضاء مرحلة صدام بأسرها.
فعقب سقوط نظام صدام حسين عام 2003، انجذب قياديوه بسهولة إلى التنظيمات الجهادية، كما انضمَّ الكثير من القادة العسكريين البعثيين السابقين إلى تنظيم القاعدة. يقول سمير الحسن في بحثه "جماعات العنف الجهادي: البنى العسكرية وأساليب القتال": "ضمّت النسخة الثانية من تنظيم القاعدة بقيادة الزرقاوي أخلاطاً جهادية شتى، ومنهم من أتى من كادر الجيش والأمن العراقيين اللذين نقلتهما الحملة الإيمانية من أجواء البعث إلى الأصولية".
وفي كتابه "الدولة الإسلامية"، أكد الصحفي عبد الباري عطوان أن ضباطا شغلوا مناصب قيادية في جيش العراق إبان حقبة صدام حسين لعبوا دوراً بارزاً في استيلاء "داعش على الموصل". في كتابه، منحهم عطوان لقب "الإسلاميون الجُدد"، وهم عسكريو صدام حسين الذين تدفقوا على التنظيمات المتطرفة كافةً، واستغلوا خبراتهم العسكرية في تدريب المتطوعين على استخدام الأسلحة وتجهيز المفخخات وغيرها من فنون القتال، أشهرهم ضابط المخابرات أحمد العلواني، وأبو مسلم التركماني (يُعتقد أنه كان نائباً لأبي بكر البغدادي)، وإياد حامد الجميلي، وجميعهم صاروا كوادر رئيسية في صفوف "داعش" بعدما كانوا من كبار ضباط "جيش صدام".
وضعٌ لخّصته إيما سكاي المستشارة السابقة بالجيش الأميركي بقولها: "الضباط ذوو الشوارب المنمقة أطلقوا لحاهم"، كما أكد مسؤول أمني في محافظة صلاح الدين إن عدداً من أقارب صدام انضّموا إلى داعش، مثل أيمن السبعاوي ابن أخيه، ورعد حسن أحد أبناء عمومته.
وليس أدل على مدى نجاح تلك الحملة في تغييب الأذهان، هو ما جرى صبيحة إعلان إعدام صدام حسين في أواخر عام 2006، خرجت مظاهرات في بعض المدن الغربية تحتفي بمعجزة ظهور وجه صدام حسين على القمر، كإشارة على أن السماء لا تزال تؤيده حتى بعد وفاته.