صورة التقطت عام 2010، تظهر معبد مرن الهلنستي في قلعة مدينة الحضر القديمة التي يعود تاريخها إلى أكثر من 2000 عام.
صورة التقطت عام 2010، تظهر معبد مرن الهلنستي في قلعة مدينة الحضر القديمة التي يعود تاريخها إلى أكثر من 2000 عام.

تحتاج آثار منطقة الجزيرة الفراتية، المتوزعة بين العراق وسوريا، إلى سنوات من الترميم وإعادة التأهيل، بعد التدمير الممنهج الذي تعرضت له على يد تنظيم "داعش" قبل أكثر من سبع سنوات.

وأقيم، قبل أيام قليلة، في العاصمة الإيطالية روما، معرض يصور المرحلة الأولى من ترميم الآثار المدمَّرة في مدينة الحضر التاريخية الواقعة إلى الجنوب الغربي من مدينة الموصل على مسافة 110 كيلومترات.

اضطلعت بترميم وإعادة تأهيل هذه المدينة المسجلة كواحدة من مواقع التراث العالمي لدى منظمة "اليونيسكو "الرابطة الدولية للدراسات المتوسطية والشرقية"، و"التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع "، بدعم من الحكومة العراقية.

وكان التنظيم الإرهابي قد دمر واجهات المعابد، وحطم التماثيل الموجودة في المكان بدعوى أنها "أصنام شركية"، وقام بحفريات عشوائية بحثاً عن دفائن وكنوز، مستعيناً بمهربي آثار محترفين كانوا يحصلون على امتياز تنقيب مما سمي بـ"ديوان الركاز"، الأمر الذي ترك خراباً واسعاً يحتاج مواسم عدة من الترميم والإصلاح.

 

شقيقة تدمر

 

ومدينة الحضر شقيقة لمدينة تدمر في البادية السورية، فقد اشتركتا في اللغة والمعتقدات، وازدهرتا في الفترة الزمنية ذاتها، ومارستا تجارة القوافل، وكون مواطنوهما ثروات كبيرة مكنتهم من بناء صروح خالدة، زاوجت بين فنون العمارة الإغريقية والشرقية، ونشأت فيهما سلالتان ملكيتان عربيتان تشتركان بالاسم نفسه وهو "بنو نصر".

اشتهرت مدينة الحضر في كتب التاريخ اللاتينية بتصديها لحملة الإمبراطور الروماني تراجان (53- 117م) حين هاجم الإمبراطورية البارثية بدءاً من العام 114م. ووثق المؤرخ وعضو مجلس الشيوخ كاسيوس ديو (163 – 229 م) قصة الحصار الفاشل الذي نصبه الجيش الروماني حول المدينة بقوله: "بعد ذلك؛ غادر الإمبراطور إلى العربية، (المقصود عربية الجزيرة الفراتية)، وهاجم مدينة الحضر التي انشقت هي أيضاً. وهي مدينة ليست بالكبيرة، وغير غنية، تحيط بها صحراء شاسعة من جميع الجهات. ماؤها شحيح، فقيرة بالمراعي، وكل هذا جعل الحصار شبه مستحيل، إضافة إلى حماية إله الشمس لها".

ويضيف ديو: "خلع تراجان حلته الإمبراطورية، وركب حصانه متقدماً الفرسان، وكاد أن يصاب، ولكن البرابرة تعرفوا عليه من شعره الأبيض وهيبة ملامحه، فأطلقوا السهام نحوه، وقتلوا أحد الفرسان المرافقين له. وبالإضافة إلى ذلك، قصفت الرعود واشتعل البرق، وهبت الزوابع، وظهر قوس قزح، في اللحظة التي حاول الرومان فيها الهجوم". ويضيف: "كان الذباب يقع في طعامهم وشرابهم، ما دعا الإمبراطور لأن ينسحب، وليمرض بعد فترة ويموت".

المعلومات التاريخية حول مملكة الحضر جدُّ شحيحة. فبالإضافة إلى بعض التواريخ الرومانية، نقرأ معلومات مبثوثة في التواريخ السريانية، وإشارات في برديات مدينة دورا أوروبس قرب دير الزور على نهر الفرات، ولذلك فإن الغالبية الساحقة من المعلومات عن هذه المملكة مستقاة من نقوشها التي تزيد على 500 نقش تكريسي وجنائزي وقانوني، كتبت بأبجدية مشتقة من الأبجدية المربعة (الآرامية)، وقام البروفيسور العراقي فؤاد سفر بفك رموزها في أواخر ستينات القرن الماضي.

 

إحساس بالخطر

 

يحيط بمدينة الحضر سور مزدوج شبه دائري محصَّن بمئة وثلاث وستين برجاً. وهو السور الذي حمى المدينة من اجتياح امبراطورين رومانيين هما تراجان وسبتيموس سفيروس ذو الأصول الشمال إفريقية (146- 211 م).

ومن غير الواضح طبيعة العلاقة التي كانت تربط الحضر بالإمبراطورية البارثية، نظراً لأن نقوش الأباطرة الرومان التي تتحدث عن الحملات على هذه المنطقة تميز بين الشعبين البارثي والحضري العربي، وهي على الأرجح مملكة فيدرالية ضمن اتحاد فيدرالي فارسي، ومع ذلك فإن تأثيرات هذه المدينة تصل إلى الخليج العربي، وتحديداً إلى مملكة عمانا، حيث عثر في مدينة أم القيوين (الإمارات حاليا) على معبد مبني وفق طراز معابد الحضر، ونقش تكريسي بالأبجدية الحضرية.

 

سلالة حاكمة

 

تبين النقوش تطور مدينة الحضر من مدينة يحكمها وجيه يدعى نشر يهب عام 134 م، يرثه ابنه نصر الذي يحمل لقباً دينيا هو "أفكل ربا شمش"، أي كاهن إله الشمس العظيم، إلى مملكة يحكمها ملك يحمل اللقبين الديني والزمني. ويُعد ولجش بن نصر هو أول حاكم للحضر يحمل لقب "ملك العرب"، (ملكا د عرب)، وفي هذه المرحلة بنيت أهم مشيدات المدينة وتماثيلها.

ومن ملوك هذه المرحلة سنطروق الأول، وعبد سميا، وسنطروق الثاني. ويبدو أن هؤلاء الملوك قد عقدوا اتفاقيات تحالف مع الرومان، حيث أرسل الملك عبد سميا، أو بارسمياس بحسب المؤرخ الروماني هيروديان (17- 250 م)، فرقة من الرماة لدعم المندوب الروماني في سوريا، بيسكينيوس نيجر الذي نافس سفيروس على عرش الإمبراطورية الرومانية. وكان من نتيجة ذلك أن حاصر سفيروس الحضر بعد هزيمة نيجر من دون أن يتمكن من فتحها. وبعد هذه المرحلة، يبدو أن استقلال الحضر قد تعزز أكثر فأكثر وخصوصاً في عهد الملك سنطروق الثاني نجل عبد سميا.

 في العام 223، سقطت الإمبراطورية البارثية بيد أردشير الأول مؤسس السلالة الساسانية، وقد استعانت الحضر بالرومان في هذه المرحلة للوقوف ضد الساسانيين الذين لم يخفوا رغبتهم في تدمير المدينة وجعلها أثراً بعد عين. وثمة نقش مؤرخ في العام 235 يؤكد وجود حامية رومانية في المدينة. ولكن ذلك لم يشفع لها، فقد تعرضت لحصار ملك الساسانيين شابور الأول عام 240م، وسقطت بأيدهم بعد حوالي عام من الحصار.

ومن اللافت أن كتب التاريخ العربية المكتوبة بعد ذلك بستة قرون وأكثر؛ حفظت قصة سقوط الحضر، وذكرت أنها سقطت نتيجة مؤامرة داخلية شاركت فيها ابنة الساطرون، وهو الملك سنطروق، حيث أعطت مفاتيح المدينة للملك شابور على أمل زواجها به، ولكنه حين دخل عليها وسألها عن سر هذا التنعم الذي كانت تعيش فيه، وأجابته إنه من هدايا أبيها، قال قولته الشهيرة: "من تخون أباها تخون زوجها"، فكان عقابها القتل على يديه.

 

التخطيط العمراني

 

تنتمي الحضر من حيث التخطيط العمراني لأسلوب المدن المدورة الذي كان سائداً في بلاد الجزيرة الفراتية منذ أقدم العصور، وفي وسطها أقيم مبعد إله الشمس، بما يوحي أنه كان مكانا للحج، وعثرت بعثات التنقيب الإيطالية والبولندية على بقايا سور الحرم المقدس المبني بالطين المشوي، وهو سور داخلي يعتقد بأنه كان سوراً للمدينة قبل فترتها الملكية.

وتبلغ استدارة سور الحضر حوالي ستة كيلومترات، وداخل السور تنتظم المعالم الرئيسية للمدينة، وهي مبنية بالحجر الجيري، حيث تصطف المباني الرئيسية في الجانب الغربي من سياج الحرم المقدس، والتي تشتمل على مخازن للمؤن.

"خاراكس".. مملكة ميسان التي تؤجل الفيضانات والحروب اكتشافها
شغل موقع مدينة "خاراكس" كما تسمى باليونانية، و"كرك سباسينو" كما تسمى بالتدمرية، علماء الآثار منذ القرن التاسع عشر، نظراً لأهمية هذه المدينة في التاريخ الكلاسيكي للعراق وإيران، ولأنها كانت واحدة من أهم المراكز التجارية العالمية خلال أكثر من خمسة قرون.

وفي الجانب الغربي من الساحة المركزية، هناك معبد بني بتأثيرات هلنستية يدعى معبد مار مرين، أي رب الأرباب، وهو إله غامض غير محدد، ربما يشير إلى شكل من أشكال التوحيد. وفي الجاب الشرقي من الساحة مبان أخرى منها مبنى بثلاث إيوانات تفضي إلى غرف كبيرة، وهذا المبنى شيد في عهد سنطروق الأول، وتم تكريسه للإلهة العربية اللات.

وفي الجزء الغربي من سياج الحرم المقدس؛ ثمة نصب هو الأكبر في المدينة إذ يمتد على طول 115 متراً، فيه ثمانية صفوف من الأقواس، وإيوانان كبيران بارتفاع 25 متراً، يوصلان إلى غرفتين مقببتين. ومن المرجح أن هذه الأبنية هي أبنية للاحتفالات الدينية وغير الدينية. وفي المكان مزارات وأنصاب دينية وتكريمية معظمها أنشئ في عهد الملكية.

وتحتل المنطقة السكنية الحيز الواقع خلف سور الحرم المقدس، باتجاه السور الدفاعي، وهذه المنطقة لم تثر شهية علماء الآثار بقدر ما أثارتها المشيدات العامة داخل سور الحرم المقدس، وخاصة المعابد. ومن المتوقع، في حال التنقيب فيها، العثور على الكثير من اللقى والنقوش التي تضيف المزيد من المعلومات حول هذه المملكة العربية المهمة.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.