تحتاج آثار منطقة الجزيرة الفراتية، المتوزعة بين العراق وسوريا، إلى سنوات من الترميم وإعادة التأهيل، بعد التدمير الممنهج الذي تعرضت له على يد تنظيم "داعش" قبل أكثر من سبع سنوات.
وأقيم، قبل أيام قليلة، في العاصمة الإيطالية روما، معرض يصور المرحلة الأولى من ترميم الآثار المدمَّرة في مدينة الحضر التاريخية الواقعة إلى الجنوب الغربي من مدينة الموصل على مسافة 110 كيلومترات.
اضطلعت بترميم وإعادة تأهيل هذه المدينة المسجلة كواحدة من مواقع التراث العالمي لدى منظمة "اليونيسكو "الرابطة الدولية للدراسات المتوسطية والشرقية"، و"التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع "، بدعم من الحكومة العراقية.
وكان التنظيم الإرهابي قد دمر واجهات المعابد، وحطم التماثيل الموجودة في المكان بدعوى أنها "أصنام شركية"، وقام بحفريات عشوائية بحثاً عن دفائن وكنوز، مستعيناً بمهربي آثار محترفين كانوا يحصلون على امتياز تنقيب مما سمي بـ"ديوان الركاز"، الأمر الذي ترك خراباً واسعاً يحتاج مواسم عدة من الترميم والإصلاح.
شقيقة تدمر
ومدينة الحضر شقيقة لمدينة تدمر في البادية السورية، فقد اشتركتا في اللغة والمعتقدات، وازدهرتا في الفترة الزمنية ذاتها، ومارستا تجارة القوافل، وكون مواطنوهما ثروات كبيرة مكنتهم من بناء صروح خالدة، زاوجت بين فنون العمارة الإغريقية والشرقية، ونشأت فيهما سلالتان ملكيتان عربيتان تشتركان بالاسم نفسه وهو "بنو نصر".
مملكة #الحضر هي واحدة من أقدم الممالك العربية في #العراق. تبعد 110 كم جنوب غرب مدينة #الموصل. ظهرت في القرن الثالث الميلادي وحكمها أربعة ملوك استمر حكمهم قرابة المائة عام. كان أشهرهم سنطروق الذي لقب بملك العرب. تم اكتشاف المدينة من قبل بعثة ألمانية عام 1915، pic.twitter.com/eLupRjXUXf
— IrfaaSawtak ارفع صوتك (@IrfaaSawtak) August 2, 2022
اشتهرت مدينة الحضر في كتب التاريخ اللاتينية بتصديها لحملة الإمبراطور الروماني تراجان (53- 117م) حين هاجم الإمبراطورية البارثية بدءاً من العام 114م. ووثق المؤرخ وعضو مجلس الشيوخ كاسيوس ديو (163 – 229 م) قصة الحصار الفاشل الذي نصبه الجيش الروماني حول المدينة بقوله: "بعد ذلك؛ غادر الإمبراطور إلى العربية، (المقصود عربية الجزيرة الفراتية)، وهاجم مدينة الحضر التي انشقت هي أيضاً. وهي مدينة ليست بالكبيرة، وغير غنية، تحيط بها صحراء شاسعة من جميع الجهات. ماؤها شحيح، فقيرة بالمراعي، وكل هذا جعل الحصار شبه مستحيل، إضافة إلى حماية إله الشمس لها".
ويضيف ديو: "خلع تراجان حلته الإمبراطورية، وركب حصانه متقدماً الفرسان، وكاد أن يصاب، ولكن البرابرة تعرفوا عليه من شعره الأبيض وهيبة ملامحه، فأطلقوا السهام نحوه، وقتلوا أحد الفرسان المرافقين له. وبالإضافة إلى ذلك، قصفت الرعود واشتعل البرق، وهبت الزوابع، وظهر قوس قزح، في اللحظة التي حاول الرومان فيها الهجوم". ويضيف: "كان الذباب يقع في طعامهم وشرابهم، ما دعا الإمبراطور لأن ينسحب، وليمرض بعد فترة ويموت".
المعلومات التاريخية حول مملكة الحضر جدُّ شحيحة. فبالإضافة إلى بعض التواريخ الرومانية، نقرأ معلومات مبثوثة في التواريخ السريانية، وإشارات في برديات مدينة دورا أوروبس قرب دير الزور على نهر الفرات، ولذلك فإن الغالبية الساحقة من المعلومات عن هذه المملكة مستقاة من نقوشها التي تزيد على 500 نقش تكريسي وجنائزي وقانوني، كتبت بأبجدية مشتقة من الأبجدية المربعة (الآرامية)، وقام البروفيسور العراقي فؤاد سفر بفك رموزها في أواخر ستينات القرن الماضي.
إحساس بالخطر
يحيط بمدينة الحضر سور مزدوج شبه دائري محصَّن بمئة وثلاث وستين برجاً. وهو السور الذي حمى المدينة من اجتياح امبراطورين رومانيين هما تراجان وسبتيموس سفيروس ذو الأصول الشمال إفريقية (146- 211 م).
ومن غير الواضح طبيعة العلاقة التي كانت تربط الحضر بالإمبراطورية البارثية، نظراً لأن نقوش الأباطرة الرومان التي تتحدث عن الحملات على هذه المنطقة تميز بين الشعبين البارثي والحضري العربي، وهي على الأرجح مملكة فيدرالية ضمن اتحاد فيدرالي فارسي، ومع ذلك فإن تأثيرات هذه المدينة تصل إلى الخليج العربي، وتحديداً إلى مملكة عمانا، حيث عثر في مدينة أم القيوين (الإمارات حاليا) على معبد مبني وفق طراز معابد الحضر، ونقش تكريسي بالأبجدية الحضرية.
سلالة حاكمة
تبين النقوش تطور مدينة الحضر من مدينة يحكمها وجيه يدعى نشر يهب عام 134 م، يرثه ابنه نصر الذي يحمل لقباً دينيا هو "أفكل ربا شمش"، أي كاهن إله الشمس العظيم، إلى مملكة يحكمها ملك يحمل اللقبين الديني والزمني. ويُعد ولجش بن نصر هو أول حاكم للحضر يحمل لقب "ملك العرب"، (ملكا د عرب)، وفي هذه المرحلة بنيت أهم مشيدات المدينة وتماثيلها.
ومن ملوك هذه المرحلة سنطروق الأول، وعبد سميا، وسنطروق الثاني. ويبدو أن هؤلاء الملوك قد عقدوا اتفاقيات تحالف مع الرومان، حيث أرسل الملك عبد سميا، أو بارسمياس بحسب المؤرخ الروماني هيروديان (17- 250 م)، فرقة من الرماة لدعم المندوب الروماني في سوريا، بيسكينيوس نيجر الذي نافس سفيروس على عرش الإمبراطورية الرومانية. وكان من نتيجة ذلك أن حاصر سفيروس الحضر بعد هزيمة نيجر من دون أن يتمكن من فتحها. وبعد هذه المرحلة، يبدو أن استقلال الحضر قد تعزز أكثر فأكثر وخصوصاً في عهد الملك سنطروق الثاني نجل عبد سميا.
مجموعة من السياح تزور مدينة الحضر الأثرية في شمال العراق، حيث تسعى السلطات لتشجيع السياحة وطي صفحة سنوات تنظيم داعش. اليوم وبعد خمس سنوات من هزيمة التنظيم المتطرف، تستعيد مدينة الموصل وأطرافها بعض مظاهر الحياة الطبيعية، رغم معاناة السكان المستمرة وضعف وثيرة إعادة الإعمار. pic.twitter.com/gWAA63s9G5
— IrfaaSawtak ارفع صوتك (@IrfaaSawtak) September 11, 2022
في العام 223، سقطت الإمبراطورية البارثية بيد أردشير الأول مؤسس السلالة الساسانية، وقد استعانت الحضر بالرومان في هذه المرحلة للوقوف ضد الساسانيين الذين لم يخفوا رغبتهم في تدمير المدينة وجعلها أثراً بعد عين. وثمة نقش مؤرخ في العام 235 يؤكد وجود حامية رومانية في المدينة. ولكن ذلك لم يشفع لها، فقد تعرضت لحصار ملك الساسانيين شابور الأول عام 240م، وسقطت بأيدهم بعد حوالي عام من الحصار.
ومن اللافت أن كتب التاريخ العربية المكتوبة بعد ذلك بستة قرون وأكثر؛ حفظت قصة سقوط الحضر، وذكرت أنها سقطت نتيجة مؤامرة داخلية شاركت فيها ابنة الساطرون، وهو الملك سنطروق، حيث أعطت مفاتيح المدينة للملك شابور على أمل زواجها به، ولكنه حين دخل عليها وسألها عن سر هذا التنعم الذي كانت تعيش فيه، وأجابته إنه من هدايا أبيها، قال قولته الشهيرة: "من تخون أباها تخون زوجها"، فكان عقابها القتل على يديه.
التخطيط العمراني
تنتمي الحضر من حيث التخطيط العمراني لأسلوب المدن المدورة الذي كان سائداً في بلاد الجزيرة الفراتية منذ أقدم العصور، وفي وسطها أقيم مبعد إله الشمس، بما يوحي أنه كان مكانا للحج، وعثرت بعثات التنقيب الإيطالية والبولندية على بقايا سور الحرم المقدس المبني بالطين المشوي، وهو سور داخلي يعتقد بأنه كان سوراً للمدينة قبل فترتها الملكية.
وتبلغ استدارة سور الحضر حوالي ستة كيلومترات، وداخل السور تنتظم المعالم الرئيسية للمدينة، وهي مبنية بالحجر الجيري، حيث تصطف المباني الرئيسية في الجانب الغربي من سياج الحرم المقدس، والتي تشتمل على مخازن للمؤن.
وفي الجانب الغربي من الساحة المركزية، هناك معبد بني بتأثيرات هلنستية يدعى معبد مار مرين، أي رب الأرباب، وهو إله غامض غير محدد، ربما يشير إلى شكل من أشكال التوحيد. وفي الجاب الشرقي من الساحة مبان أخرى منها مبنى بثلاث إيوانات تفضي إلى غرف كبيرة، وهذا المبنى شيد في عهد سنطروق الأول، وتم تكريسه للإلهة العربية اللات.
وفي الجزء الغربي من سياج الحرم المقدس؛ ثمة نصب هو الأكبر في المدينة إذ يمتد على طول 115 متراً، فيه ثمانية صفوف من الأقواس، وإيوانان كبيران بارتفاع 25 متراً، يوصلان إلى غرفتين مقببتين. ومن المرجح أن هذه الأبنية هي أبنية للاحتفالات الدينية وغير الدينية. وفي المكان مزارات وأنصاب دينية وتكريمية معظمها أنشئ في عهد الملكية.
وتحتل المنطقة السكنية الحيز الواقع خلف سور الحرم المقدس، باتجاه السور الدفاعي، وهذه المنطقة لم تثر شهية علماء الآثار بقدر ما أثارتها المشيدات العامة داخل سور الحرم المقدس، وخاصة المعابد. ومن المتوقع، في حال التنقيب فيها، العثور على الكثير من اللقى والنقوش التي تضيف المزيد من المعلومات حول هذه المملكة العربية المهمة.