تجدّد الحديث حول المفاعل النووي العراقي والمساعي الكبيرة التي قامت بها إسرائيل لإحباط هذا المشروع بعدما قطع خطوات متقدمة اعتبرتها تل أبيب أكبر خطر واجهها منذ نشأتها.
نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية تقريراً جديدا كشف بعض تفاصيل حملة "العصر الجديد"، التي نفّذها الموساد لإحباط الحلم العراقي عبر تجنيد جواسيس يعملون في قلب المشروع النووي العراقي وإرغام الخبراء الأجانب على عدم التعاون مع العراقيين عبر تهديدهم بقنابل متفجرة.
وعقب فشل كافة الجهود الدبلوماسية الإسرائيلية لإقناع فرنسا بالكفِّ عن مساعدة بغداد، بذل رجال الموساد جهوداً مكثفة لاختراق المشروع أمنياً ومعرفة تفاصيله عن كثب، حسبما صرّح عددٌ من رجال الموساد لـ"هآرتس".
جنّد الإسرائيليون مهندساً إيطالياً قدّم خدماتٍ استشارية للمفاعل العراقي زوّدهم بمعلومات تقنية هامة عن درجة التقدم التي بلغها البرنامج النووي العراقي.
وبحسب أهارون شيرف، رئيس شعبة تجنيد العملاء بالموساد في فرنسا وقتها، فإن كل هذه الجهود لم تفلح في إعاقة بناء المفاعل العراقي، فاضطر معها مناحم بيجن رئيس الوزراء لأن يأمر بشنِّ غارة جوية على المفاعل في يونيو 1981.
بداية أميركية ودعم سوفييتي
خلال الحقبة الملكية، اهتمَّ العراق بالتكنولوجيا النووية فأنشأ لجنة الطاقة الذرية عام 1956، واتّفق مع الولايات المتحدة على تزويده بأول مفاعل نووي للأبحاث قدرته 5 ميجاوات كأحد أشكال الاستفادة من المشروع الذي أعلنه الرئيس الأميركي آيزنهاور، والمعروف بِاسم "الذرة من أجل السلام"، والذي شمل دعم الدول الحليفة للولايات المتحدة بتكنولوجيا نووية.
شُحن المفاعل النووي بالفعل من أميريكا إلى العراق. لكن، خلال طريقه، قامت ثورة 1958 في العراق بقيادة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف.
لم تأمن أمريكا نوايا الحُكام الجدد، واعتبرت العراق بلدا "غير مستقر" لا يستطيع التعامل مع منشآت نووية بهذه الخطورة، فأمرت بتغيير مسار المفاعل إلى طهران، وكانت بداية نشأة البرنامج النووي الإيراني.
أظهر قادة الثورة الجدد مُبكراً اهتماماً بالطاقة النووية، فعقدوا اتفاقاً مع الاتحاد السوفييتي في 1959، للتعاون في المجال النووي. بمُوجب هذه الاتفاقية، أُرسل 375 طالباً عراقياً، كدفعة أولى، لتلقّي العلوم النووية، وأُنشئ مركز البحوث النووية العراقي تحت إشراف سوفييتي.
أخيراً، وهوالأهم، أنشئ مفاعل "14 تموز" في موقع التويثة قرب بغداد بطاقة 2 ميجاوات زادت لاحقاً إلى 5 ميجاوات.
فرنسا تدخل على الخط
منذ تدبير أعضاء حزب البعث انقلابهم عام 1968، أبدى قادة الانقلاب اهتماماً خاصاً بالتعاون مع فرنسا. يقول جواد هاشم وزير التخطيط العراقي السابق إن صدام حسين كان يعتقد أن فرنسا ستكون بوابة العراق الرئيسية للحصول على تكنولوجيا الغرب.
وبحسب هاشم، فإنه حينما صدرت قرارات تأميم قطاع النفط في يونيو 1972، وأصبح بموجبها العراق مالكاً لكافة شركات البترول الأجنبية، استثنت بغداد فرنسا من هذا القرار ومنحتها "موقعاً متميزاً"، وفقاً للبيان الرسمي الذي أعلنه الراديو.
وفي ديسمبر 1972، زار صدام حسين فرنسا، وهناك عقد عشرات الاتفاقات التي مهّدت لتلقي الكثير من التكنولوجيا الغربية، وعلى رأسها طائرات ميراج والمفاعلات النووية.
بعد 4 سنوات، باعت فرنسا للعراق مفاعلاً نووياً قُدرته 40 ميجاوات حمل اسم "تموز"، مع تزويده بـ12 كيلوغراما من اليورانيوم المخصب. رغم الاعتراضات الأميركية والإسرائيلية، أكدت فرنسا أن البرنامج النووي العراقي "لأغراض سلمية فقط"، معتمدة على توقيع العراق على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية عام 1969.
وفي 1979، جرى الإعلان عن تزويد فرنسا للعراق بمفاعل نووي جديد هو "تموز 2" بقُدرة 70 ميجاوات.
هنا، اعتبرت إسرائيل أن البرنامج النووي العراقي يتطوّر "بشكلٍ أكثر مما ينبغي"، وأن عليها إيقاف هذه العجلة بأي ثمن.
دبلوماسية وتفجيرات
بذلت تل أبيب جهوداً كبيرة لإقناع فرنسا بعدم تصدير المفاعل إلى العراق، قدّمت الاحتجاجات الواحد تلو الآخر كما عقد دبلوماسيوها عشرات الجلسات مع القادة الفرنسيين لثنيهم عن دعم العراق، كلها بلا جدوى.
خلال مراحل بناء المفاعل، أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، أن "إسرائيل لن تنتظر حتى تقع قنبلة عراقية ذرية على رأسها"، كما أصدرت لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست بياناً قالت فيه أنه "ينبغي على إسرائيل أن تعتبر وجود إمكانية إنتاج سلاح نووي لدى نظام حُكم متطرف في العراق بأنه يشكل خطراً على أمنها ووجودها".
وصرح شمعون بيريز، رئيس حزب العمل وقتها، بأن الصفقة العراقية الفرنسية ستزيد من "خطر الصدام في المدى البعيد، وتعمق الخلاف، وتبعد احتمالات التسوية"، واعتبر أنه "ليس هناك أهمية لتوقيع العراق على معاهدة عدم انتشر الأسلحة النووية، وهي مجرد ورقة، وليس هناك أهمية أو فاعلية للإشراف الفرنسي على المفاعل الذري في العراق".
هددت إسرائيل عدداً من المهندسين الأجانب الذين يعملون في المفاعل بالقتل، وأرسلت لهم في منازلهم طروداً محشوة بالمتفجرات.
يقول محمد كاظم في بحثه "البرنامج النووي العراقي": تم تفجير بيت خبير فرنسي في باريس، وكذلك جرى تفجير مقر شركة "سنياثكنت" الإيطالية ومنزل مدير فرعها في ميلانو.
نتيجة لهذه الحوادث، ضاعفت الشرطة الفرنسية من إجراءات الحراسة حول مكاتب خمس شركات فرنسية لها علاقة بإنتاج المفاعلات الذرية المخصصة للعراق، وذلك في أعقاب تلقيها تهديدات بضربها وتفجيرها.
في أبريل 1979، دبّرت إسرائيل أول تحرك عنيف لإيقاف مسار البرنامج العراقي، بعدما أقدم فريق تابع للموساد على تنفيذ هجوم على موقعٍ تابع لهيئة الطاقة النووية الفرنسية قرب مارسيليا. استهدف الهجوم تدمير عدة معدّات جرى تجهيزها في انتظار شحنها للعراق لتكون جزءاً من المفاعل الجديد.
لم يكن لهذا الهجوم تأثير كبير، إذ جرى إصلاح المعدات المتضررة، وعادت معدلات بناء المفاعل إلى مسارها الطبيعي، هنا قرّرت إسرائيل تدمير المفاعل في قلب العراق.
كذلك، تتهم إسرائيل باستهداف العالم الذري المصري يحيى المشد في فرنسا، والذي كان يتولى منصباً إشرافياً رفيعاً على الأعمال الذرية العراقية. ومات المشد بشكلٍ غامض داخل غرفته في أحد الفنادق.
وبحسب محمد كاظم فإن المشد لم يكن وحده، إنما نفذت إسرائيل عمليات متعددة لاغتيال عددٍ من رموز البرنامج النووي العراقي، مثل سليمان اللامي (مات في جنيف) وعبد الرحمن رسول (اغتيل في باريس) وكاكا عبد الرحمن وسلمان رشيد سلمان (قُتل في جنيف).
قصف المفاعل
في 7 يونيو 1981، انطلقت 14 طائرة مؤلفة من 8 طائرات (إف 16) و6 طائرات (إف 15) من قاعدة "اتزيون" في سيناء. حينها لم تكن إسرائيل قد انسحبت من سيناء بعد، وكانت تلك القاعدة أكبر قاعدة جوية في الشرق الأوسط.
في تمام الساعة السادسة والنصف مساءً، ألقت الطائرات قنابلها، تزن الواحدة منها قرابة طن، لتدمير أكبر قدرٍ ممكن من بنية المفاعل المدعّمة بالخرسانة المسلحة.
لاحقاً، نقلت الصحافة الإسرائيلية عن قائد العملية العسكرية، أنه وجميع الطيارين الذين شاركوا في الغارة كانوا على علمٍ بالعملية قبل تنفيذها بستة شهور، وأنهما أجروا تدريبات عديدة على أهدافٍ وهمية مماثلة لموقع المفاعل، وأنهم كانت لديهم فكرة كاملة عن الأماكن الأكثر أهمية في المفاعل النووي العراقي وكيفية ضربها.
حسبما أعلنت الصحافة وقتها، فإن الطائرات المغيرة طارت قرابة ألفي كيلومتر في رحلة استغرقت قرابة 3 ساعات ذهاباً وإياباً، جزء منها تم في المجال الجوي للسعودية المحاذي للحدود الأردنية بسبب الضعف الكبير في دفاعاته الجوية. وبشكلٍ عام، فإن الرادارات العراقية والأردنية والسعودية لم تكتشف وجود الطائرات إلا خلال رحلة العودة.
كان عدم قدرة العراقيين على رصد الطائرات فور دخولها الأجواء العراقية أمراً مثيراً للغرابة، برّره طارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقي حينها بأن المعدات العسكرية التي كان يمكنها القيام بهذه المهمة منشغلة بالحرب مع إيران، ثم ألقى باللوم على الدول العربية التي مرّت الطائرات الإسرائيلية عبر أجوائها دون أن ترصدها.
من جانبها، كشف إدارة الشؤون العسكرية في جامعة الدول العربية خلال إعداد تقريرها عن الحادث بأن "الطيارين الإسرائيليين لجأوا إلى عملية تشويش كبيرة للتأثير على أجهزة الرصد والرادارات العربية"، وهو ما منع أي دولة عربية من تحذير العراق قبل الضربة.
وحسبما يذكر صلاح الأمين، الذي عمل ضابطاً في الجيش العراقي، في أطروحته "الغارة على المفاعل النووي العراقي"، فإن المفاعل العراقي أحيط بساتر ترابي ارتفاعه 50 متراً كما خُصصت منظومة دفاع جوي متقدمة لحمايته، أغلبها من صواريخ سام السوفييتية.
لكن، عقب اندلاع الحرب مع إيران أحجم الاتحاد السوفييتي عن مساعدة العراق فاضطر إلى تخفيض مدة عمل منظومة الدفاع الجوي إلى عدة ساعات صباحاً ومساء بدلاً من العمل طيلة اليوم، للحفاظ على أجهزته لأطول فترة ممكنة.
وبحسب الأمين، فإن إسرائيل اختارت توقيتاً مثالياً لضرب المفاعل ضمنت فيه ألا تعمل محطات الرادارات بكامل طاقتها، وأن المفاعل العراقي كان مهياً لبعض الفحوصات ما يُسهّل قصفه بأقل أضرار بيئية ممكنة. كذلك كان الطاقم الفرنسي في إجازة فلم يتواجد منهم داخل المفاعل إلا واحد مات خلال الغارة.
بعد هذه الواقعة بعشر سنوات، سيقابل دييك تشيني وزير الدفاع الأمريكي ديفي إيفري المدير العام لوزارة الدفاع الإسرائيلية وقائد القوات الجوية لحظة ضرب المفاعل. في كلمته، قال تشيني "مع الشُكر والتقدير للوظيفة الرائعة التي قام بها مع البرنامج النووي العراقي عام 1981، ما جعل مهمتنا أكثر سهولة في عاصفة الصحراء".