أجرى العراق آخر إحصاء سكاني شامل عام 1997.
أجرى العراق آخر إحصاء سكاني شامل عام 1997.

عام 1997م أجرى العراق تعداده السكاني الأخير. عملية شابتها الكثير من المشاكل، فلم يُجرَ الاستطلاع إلا في 15 محافظة بعد استبعاد محافظات إقليم كردستان، الأمر الذي دفع بعض الباحثين لعدم الاعتراف بنتائجه والاكتفاء ببيانات الإحصاء الذي سبقه بعشر سنوات وشمل جميع محافظات العراق.

لا يتعلّق التعداد بإحصاء عدد السكان فقط، وإنما يحدّد أدق تفاصيل التركيبة السكانية للدولة التي تعتمد عليها الحكومات لاحقاً لبناء خططها في مجالات التربية والتعليم والصحة وغيرها.

منذ 26 عاماً، لم ينجح العراق في إجراء تعداد سكاني آخر، واعتمدت الحكومة على إحصائيات قديمة أو غير رسمية عادةً ما يشوبها هامش خطأ كبير يؤدي لاختلال في النتائج المرجوّة، وهو أمر يفترض أن يتغيّر عقب إعلان تنفيذ التعداد هذا العام.

فلماذا عجز العراق طوال رُبع قرن عن إجراء تعداد سكاني؟

 

تاريخ التعداد في العراق

 

وفقاً لما أورده سعد محسن، في بحثه "التعدادات السكانية التي جرت في العراق"، فإن بلاد الرافدين عرفت "تعدادات سكانية" منذ عهد السومريين. حينها كانت تجرى هذه "التعدادات" لأغراض اقتصادية وعسكرية من أجل تحديد الذكور الشباب القادرين على حمل السلاح أو عدد التجار والأسر الغنية التي ستدفع الضرائب.

خلال عهد الأمير كوديا، الذي حكم إمارة "لكش" السومرية من 2144 ق.م إلى 2124ق.م، أجرى الحاكم العراقي تعداداً لسكان إمارته انتهى بتقدير عددهم بنحو 450 ألف نسمة.

في العراق الحديث، حاولت الحكومة عام ١٩٢٧ إقامة أول إحصاء سكاني عقب تأسيس الملكية العراقية، لكن أخطاءً كثيرة رافقت تنفيذ العملية دفعت بغداد إلى إلغاء نتائجه.

وفي 1934 أجري تعداد آخر اقتصر على تحديد عدد السكان القادرين على المشاركة في الانتخابات، وفي المجهود الحربي. حدّد هذا التعداد سكان العراق بأكثر من ثلاثة ملايين و200 ألف نسمة.

وبرغم بساطة بياناته إلا أنها ظلت مرجعية للدولة في خططها وبرامجها الحكومية حتى أجري تعداد آخر في 1947 بلغ فيه عدد العراقيين 4 ملايين و826 ألف نسمة.

تعدُّ هذه المرة أول محاولة عراقية لإحصاء السكان بوسائل فنية حديثة، مقارنةً بالمتوفر وقتها، وهو ما شجّع بغداد على إقرار سياسة تقتضي تنظيم تعدادٍ سكاني كل 10 سنوات.

جرى تنظيم هذا التعداد أعوام 1957 (6 ملايين و300 ألف نسمة) و1965 (بدلاً من 1967) و1977 (12 مليون نسمة) و1987 و1997 التي شهدت تنظيم التعداد لآخر مرة.

 

مخاطر تعطيل التعداد

 

بدون قاعدة بيانات قوية، فإن "البلد يمشي إلى طريق مظلم ومغمض العينين"، هكذا وصف سمير خضير هادي المدير التنفيذي للتعداد مدى خطورة التأخر في تنظيم التعداد.

يقول محسن حسن، في بحثه "معوقات التعداد السكاني وآثارها السلبية على مستقبل التنمية في العراق"، إن الامتناع عن تنفيذ التعداد السكاني يعني دخول المؤشرات الإحصائية في العراق حيّز التخمين، وهو ما ترتّب عليه فشل معظم خطط التنمية الوطنية كونها مرتكزة على بيانات تقديرية غير موثوقة.

في ظل غياب التعداد، فشل العراق في تحديد حجم النمو السكاني بدقة، ما منعه من تبنّي سياسات تقلل النمو السكاني المتزايد ما أدّى لنشأة ظواهر الزحف على الأراضي الزراعية وزيادة الاستهلاك وشيوع البطالة.

وعجزت بغداد أيضا عن إصدار مؤشرات موثوقة تُعين صانع القرار على وضع خطط ناجحة توازن بين حجم السكان وتوزيع الخدمات التعليمية والصحية، ما خلّف أضراراً جسيمة على كافة جوانب التنمية في البلاد.

 

أسباب التأجيل.. كورونا والأموال

 

مثل أغلب دول العالم، يجري التعداد السكاني في العراق مرة واحدة كل عشر سنوات، لذا كان مفترضاً أن يتمَّ في 2007، ليتم إرجاؤه إلى 2009 بسبب الظروف الأمنية، ثم تأجل 10 سنوات دفعة واحدة، وفي 2019 تم إرجاؤه مُجدداً.

بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان في العراق، فإن استعدادات تنفيذ التعداد بدأت منذ 2019، وكان مأمولاً أن يُنفذ عام 2020 لكن جرى تأجيله بسبب جائحة كورونا، بعدما كان مستحيلاً على المُنظمين تكليف 150 ألف باحث ميداني بالتجوّل على المنازل في هذه الظروف، لذا أُرغمت وزارة التخطيط على تأجيل المشروع.

في 2022، أُعلنت بغداد نيتها تنفيذ التعداد مجددا، وهو ما لم يحدث أيضاً بسبب الميزانية الكبيرة التي احتاجها الجهاز المركزي للإحصاء وتبلغ 120 مليون دولار، لم تتمكن الحكومة من توفيرها حينها.

وقال مهدي العلاق، كبير مستشاري صندوق الأمم المتحدة، إنه مع قدوم الحكومة الجديدة وإقرار الموازنة الجديدة تم توفير المخصصات اللازمة لتنفيذ التعداد.

وأعلن محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء العراقي، هذا الشهر، خلال ترؤسه المجلس الأعلى للسكان توفير كل الإمكانات اللازمة لإنجاز التعداد في موعده.

وأكد السوداني، أن حكومته تعوّل على نتائج التعداد في وضع سياساتها وتنفيذ برامجها الاقتصادية، فضلاً عن إعداد خطط مستقبلة تساعد في تنمية المجتمع.

 

خلافات سياسية واقتصادية

 

يقول محسن حسن إن إجراء التعداد السكاني يرتبط بتحديد طبيعة المسار الانتخابي في العراق، ولاسيما ما يخص إسناد المقاعد البرلمانية وتحديد نصيب كل محافظة من هذه المقاعد على الدستور، الأمر الذي يؤدي في الغالب إلى عرقلة التعداد من قبل بعض الأقليات المتنفذة والمحافظات الأقل تعداداً؛ حفاظاً على تمثيلها البرلماني القائم على المؤشرات التقديرية.

كما أن إجراء التعداد سيحسم الخلاف التاريخي حول أحقية حُكم المناطق المتنازع عليها، وهو ما يجعل العديد من الجهات السياسية متخوفة من إجرائه. فالمادة 140 من الدستور العراقي، نصّت على أن يُجرى إحصاء دقيق لعدد سكان تلك المناطق ثم يُجرى فيها استفتاء حول رغبة سكانها في الانضمام لإقليم كردستان أو البقاء مع بغداد.

وستُحتّم نتائج الإحصاء أيضا إجراء تغييرات في الموازنة العامة. فإقليم كردستان يحصل على حصة من الموازنة مقابلة نسبة سكانه، وهي القضية التي تسببت في خلافٍ دائم بين الطرفين، بعدما قرّرت بغداد خفض حصة الإقليم إلى 12.6% بدلاً من 17%، رغم الاعتراضات الكردية على ذلك، بسبب التفاوت في تحديد عدد سكان الإقليم بين الطرفين.

توزيع الموازنة العامة الاتحادية بين المحافظات مرهونٌ هو الآخر بعدد سكانها؛ لذا يمثل التعداد السكاني بيئة صراع من قِبَل المحافظات الباحثة عن زيادة حصصها المالية.

وبحسب محسن حسن، فإن فكرة إجراء التعداد نفسها لا تزال محل خلاف بين مكوّنات المجتمع العراقي؛ فالأكراد يعدّونه فرصة لإظهار قوة العرق الكردي وغالبيته في مناطق النزاع، ويهدفون من خلاله إلى ضمّ المناطق المتنازع عليها لتحقيق تقدم في ملف تقرير المصير، بينما بعض العشائر العراقية تراه الأنسب لإظهار تكتلها السكاني في إطار المحافظة أو القضاء التابعة له، في حين تنظر إليه عشائر أخرى كونه نذير شؤم بزوال نفوذها، وإظهار ضعفها وأقليتها.

وهو ما يفسّر إعلان بعض القادة العشائريين العرب في كركوك، المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، أنهم سيقاطعون الاستفتاء لو لم يتم التحقيق في عمليات "التغيير السكاني" التي يتهمون الأكراد بتنفيذها في المدينة منذ 2003.

برغم هذه الأجواء المحتدمة، فإن عمليات التجهيز للتعداد الجديد تتواصل وسط تأكيدات حكومية بضرورة تنفيذه في موعده.

"الأجواء مهيأة سياسياً الآن واقتصادياً لتنفيذ التعداد، وكل ما نحتاجه هو اتخاذ القرار النهائي"، يقول العلاق.

فهل يُجرى التعداد في موعده هذه المرة، أم يتأجل من جديد؟

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.