تُعدّ ليلة الخامس عشر من شهر شعبان واحدة من أكثر الليالي قداسةً وتبجيلاً عند ملايين المسلمين. اعتاد الكثيرون الاحتفال بتلك الليلة منذ قرون عديدة. ترتبط تلك الليلة بالكثير من القصص والمرويات الإسلامية. يستعيد فيها السُّنة ذكرى تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام. أما الشيعة فيعتقدون أن المهدي المنتظر ولد في تلك الليلة منذ ما يزيد عن الألف سنة. ما مكانة تلك الليلة عند السنة؟ وما أهميتها عند الشيعة الإمامية الإثني عشرية؟ وما هي الطقوس الاحتفالية التي تُمارس في تلك الليلة في شتى الدول العربية والإسلامية؟
ليلة تحويل القبلة
يذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" قصة ليلة النصف من شعبان في سياق تناوله للآية 144 من سورة البقرة "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام". يذكر المؤرخ والمفسر المعروف أن النبي كان يتخذ من المسجد الأقصى قبلة في صلاته أثناء وجوده في مكة. ولمّا هاجر إلى يثرب بقي يصلي باتجاه بيت المقدس لمدة ستة عشر شهراً. وفي ليلة النصف من شعبان من تلك السنة جاءه الأمر بتحويل القبلة إلى الكعبة. فأمر المسلمين بذلك وتم تغيير القبلة بشكل نهائي بعدها إلى المسجد الحرام.
في الحقيقة، يوجد اختلاف كبير في تحديد الليلة التي وقع فيها تبديل القبلة. وتذكر المصادر التاريخية عدداً من الروايات المتعارضة في تلك المسألة. على الرغم من ذلك، بقي ربط تلك الحادثة بليلة النصف من شعبان هو الرأي الأكثر شهرة وذيوعاً بين عامة المسلمين.
وبشكل عام، وردت بعض الأحاديث النبوية التي تؤكد المكانة الكبرى لتلك الليلة. من ذلك ما ورد في سنن ابن ماجة من قول النبي: "إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن"، وقوله في حديث آخر: "إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا، فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبلى فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر".
على الجهة المقابلة، رفض الكثير من العلماء تلك الأحاديث ووصفوها بأنها مجرد روايات مزيفة لا أصل لها. يقول ابن رجب الحنبلي في كتابه "لطائف المعارف" موضحاً ذلك الرأي: "وفي فضل ليلة نصف شعبان أحاديث متعددة، وقد اختُلف فيها، فضعّفها الأكثرون، وصحّح ابن حبان بعضها".
ليلة ميلاد المهدي
يختلف الأمر عند الشيعة الإمامية الإثني عشرية. يتفق علماء الطائفة على أن ليلة الخامس عشر من شهر شعبان شهدت حادثاً عظيماً في تاريخ الإسلام بوجه عام، وتاريخ المذهب الشيعي على وجه الخصوص. يعتقد الاثنا عشرية أن الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري ولد في تلك الليلة سنة 255ه. وتذهب التقاليد الشيعية إلى أن محمد بن الحسن تولى منصب الإمامة عقب وفاة أبيه سنة 260ه، وأنه اختفى عن الأنظار بشكل كامل سنة 329ه هرباً من ملاحقة السلطات العباسية.
يُعد محمد بن الحسن هو المهدي المنتظر عند الشيعة الإمامية الإثني عشرية. وينتظر عموم الشيعة ظهوره مرة أخرى لينصر الحق ويقضي على الظلم. من هنا، صارت الليلة التي ولد فيها حدثاً فارقاً يستحق الاستذكار في كل سنة. وتشهد على ذلك الكثير من المرويات المنسوبة للنبي والأئمة والتي تتفق على الأهمية البالغة لتلك الليلة المقدسة.
على سبيل المثال، ينقل الحر العاملي في كتابه "وسائل الشيعة" الحديث الذي دار بين الملاك جبريل والنبي في أمر تلك الليلة، والذي جاء فيه على لسان الأول "يا محمد من أحياها -يقصد ليلة النصف من شعبان- بتكبير وتهليل وتسبيح ودعاء وصلاة وقراءة وتطوع واستغفار كانت الجنة له منزلاً ومقيلاً، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". وكذلك نقل محمد بن الحسن الطوسي في "الأمالي" عن الإمام الخامس محمد الباقر أنه لمّا سُئل عن فضل تلك الليلة أنه قال: "هي أفضل ليلة بعد ليلة القدر".
طقوس احتفالية
تشهد ليلة النصف من شعبان طقوساً احتفالية في العديد من البلدان العربية والإسلامية على حد سواء. على سبيل المثال، تُعرف تلك الليلة في العراق بليلة القضاء. ويقوم الكثير من العراقيين بصيامها، كما يُتلو الشيعة في تلك الليلة دعاء كُميل المعروف. وأيضاً، يُقبل الآلاف من الشيعة العراقيين على زيارة ضريح الإمام الحسين في كربلاء بما يُعرف باسم الزيارة الشعبانية. وهي الزيارة التي ورد التنبيه على أهميتها في كتاب "كامل الزيارات" لابن قولويه القمي.
تذكر المصادر التاريخية أن الاحتفال بهذه الليلة بدأ في العراق في العصر البويهي في القرن الرابع الهجري. كان البويهيون يعتنقون المذهب الشيعي. وسمحوا بممارسة كافة الشعائر والطقوس المرتبطة بالمذهب بين العراقيين. حاليا، تقضي الكثير من الأسر العراقية الليلة بالسهر حتى الصباح اعتقادا منها أن سهر هذه الليلة يعادل حجة إلى البيت الحرام، كما يُطلق على هذه الليلة اسم "ليلة المحيا"، وهي ليلة مميزة جداً في حياة أبناء العراق وخاصة في الجنوب والوسط وهي أشبه ما تكون بليلة عيد فالأنوار والزينات تملأ الشوارع، وتمتد لأمتار عديدة "بسطات" لبيع "الدنابك" التي يتسلى بها الأطفال ويمارسون فيها لعبة (الماجينة)، بينما تنبعث من آلات التسجيل الأناشيد والابتهالات، كما في هذا المقال من "شفقنا"، وكالة الأنباء الدولية المتخصصة في نقل أوضاع الشيعة.
يشيع الاحتفال بليلة النصف من شعبان أيضاً في الكثير من مناطق شبه الجزيرة العربية. يطلق على هذه المناسبة اسم "الناصفة" في كل من البحرين والكويت. وفي سلطنة عمان تعرف بـ "القرنقشوه أو الطوق"، كما تسمى بـ"حق الليلة" في الإمارات. أما في قطر فيطلقون عليها اسم "ليلة النافلة" ويردد الأطفال فيها بعض الأهازيج والأناشيد.
يختلف الوضع في المملكة العربية السعودية، فقد ذهب أغلب رجال الدين السعوديين إلى أن الاحتفال بتلك الليلة من البدع المحرمة التي لا أصل لها ولا سند. على سبيل المثال ورد في فتاوى المفتي العام الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز: "من البدع التي أحدثها بعض الناس بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان، وتخصيص يومها بالصيام، وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه".
على الجهة المقابلة، اعتاد المصريون إحياء ليلة النصف من شعبان على مر السنين. يقول شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت في كتابه "من توجيهات الإسلام" موضحاً الطقوس والشعائر المصرية في تلك الليلة: "جرت عادة المسلمين في عهودهم الأخيرة أن يحتفلوا بليلة النصف من شعبان احتفالاً دينياً، نرى مظهره في المساجد وفي البيوت. ففي المساجد يجتمعون عقب صلاة المغرب، ويصلون صلاة خاصة تعرف باسم صلاة النصف من شعبان، ثم يقرءون بصوت مرتفع سورة معينة هي سورة (يس)، ثم يبتهلون كذلك بدعاء يعرف بدعاء ليلة النصف، ويكررون ذلك ثلاث مرات، أولاها بنية طول العمر، والثانية بنية دفع البلاء، والثالثة بنية الغنى. أما في البيوت فهم يهتمون اهتماماً خاصاً بتهيئة طعام يجتمع عليه جميع أفراد الأسرة بعد صلاة العشاء".
في السنين الأخيرة، وبالتزامن مع تصاعد الجدل بين السلفيين والمؤسسة الأزهرية دافع الكثير من رجال الدين المصريين عن الاحتفال بتلك الليلة ورفضوا وسم الاحتفال بالبدعة. في هذا السياق يقول مفتي مصر الأسبق علي جمعة: "لا يُعدّ من البدعة ولا من الحرام أن يُحيى المسلم والمسلمة تلك الليلة العظيمة بشتى فنون الذكر مثل قراءة سورة "يس" 3 مرات عقب صلاة المغرب جهراً في جماعة، فإن ذلك داخل في الأمر بإحياء هذه الليلة، وأمر الذكر على السَّعة، وتخصيص بعض الأمكنة، أو الأزمنة ببعض الأعمال الصالحة مع المداومة عليها أمر مشروع ما لم يعتقد فاعل ذلك أنه واجب شرعي يأثم تاركه".
في سوريا، يتم إحياء ليلة النصف من شعبان في العديد من المدن. تُعدّ مدينة حماة من أشهر تلك المدن. ومن أبرز طقوس إحياء هذه الليلة عند الحمويين، كما تنقل وكالة الأنباء السورية، "شراء حلاوة المحيا وتوزيعها على الأهل والأقارب لزيادة عرى وأواصر العلاقات الأسرية وصلة الرحم فتتزين موائد الحمويين بهذه الحلاوة التي تمتلئ بها محال المدينة وتكون مصفوفة بأوان خاصة وبأشكال جميلة بينما تتزين المحال بألوان الزينة والسجاد والقناديل الكهربائية".
في تركيا، يتم أيضاً الاحتفال بليلة النصف من شعبان. تُعرف هذه الليلة باسم ليلة "براءت قنديلي". ويحتفل الأتراك بها من خلال إقامة الصلاة وترديد الأدعية، والابتهالات والأناشيد الدينية، كما تعتاد الكثير من الأسر على توزيع الكعك والفطائر فيها.