تحل هذا الأيام الذكرى الـ100 لتأسيس المتحف العراقي، الذي يعود تاريخ إنشائه إلى عام 1923، حين افتُتح داخل غرفة لا تتجاوز مساحتها 27 متراً مربعاً. وهي الغرفة التي شكلت النواة الأوّلى لعمليات التحديث المستمرة، وصولاً إلى المتحف الحالي الذي يعد من أهم المتاحف العالمية نظراً لما يحتويه من قطع فريدة تُمثل حضارات العراق المتعاقبة.
قصّة المتحف في 100 عام، يستعرضها هذه المقال، الذي يتتبع ملابسات النشأة وتشعّبات التطور، واشتباك الأطماع الاستعمارية بالطموحات الوطنية، والتي كانت مادتها الآثار العراقية.
"الخاتون".. "جاسوسة" وراء المتحف
يرجع الفضل في تأسيس المتحف العراقي إلى البريطانية، غيرترود بيل، التي كان يطلق عليها العراقيون لقب "الخاتون".
التحقت بيل بالحملة البريطانية لاحتلال العراقي عام 1916، وعيّنت في المكتب العربي فرع البصرة. وبعد احتلال بغداد عام 1917، انتقلت إليها بمنصب سكرتيرة شرقية للمندوب السامي البريطاني السير بيرسي كوكس.
أوكلت إلى بيل مهام سياسية وإدارية واستخبارية، كما يوضح الدكتور، عمر جاسم الغزاوي، في كتابه "علم الآثار في العراق نشأته وتطوره". لكن ولعها بالآثار طغى على تلك الأدوار، لتلعب دوراً بارزاً في الجانب الآثاري داخل العراق، وهي التي درست تاريخ حضاراته في جامعة أكسفورد.
بدأت بيل نشاطها بتأسيس دائرة حكومية تعنى بالآثار العراقية، فكانت "الدائرة الأركيولوجية" عام 1920، وهي الدائرة التي تحولت بقرار حكومي عام 1922، إلى "دائرة الآثار القديمة" بناء على توصية من بيل. وفي عام 1924، أصبحت الدائرة "مديرية الآثار القديمة" تحت رئاستها.
العمل البارز الذي اضطلعت فيه بيل كان إنشاء المتحف العراقي عام 1923.
سبق إنشاء المتحف إقامتها، في مارس 1923، معرضاً للقى الآثارية المكتشفة حديثاً آنذاك، وهو ما نال استحسان الحضور الذين كان في مقدمتهم الملك فيصل الأول.
المقترح الذي قدمته للملك لإنشاء متحف واجه عقبات في مقدمتها عدم توفر مبنى مناسب لهذا الغرض، لتقرر نهاية العام نفسه تحويل غرفة في بناية "القشلة" التي تضم دواوين الحكومة ورئاستها، إلى متحف لا تتجاوز مساحته 27 متراً مربعاً، أطلق عليه عند افتتاحه في العام 1924، "غرفة الأحجار البابلية".
فرضت المساحة شروطها، فعرضت مجموعة صغيرة من الآثار التي لا تتناسب والكميات الكبيرة التي بدأت تكتشف مع زيادة بعثات التنقيب الآثارية العاملة في العراق، كما هدّدت الأجواء غير الملائمة في الغرفة الآثار ووضعتها في دائرة التعرض للضرر.
أمام الواقع "المزري" لمتحف القشلة، كتبت بيل (مديرة المتحف) إلى وزارة الأشغال والمواصلات التي كان مسؤولة عن المتحف، تقول: "لا يخفى على معاليكم أن المحل الراهن الذي يشغله المتحف أصبح منذ مدة طويلة غير كافٍ له بالمرة، وبهذا استحال الاحتفاظ بالآثار القديمة واستعراضها للجمهور، وإنَّ كثيراً من الآثار الموجودة في المتحف لها قيمة ثمينة جدا وبوضعها الحاضر لابد أن يصيبها أضرار"، كما يورد كتاب: "المتحف العراقي: نشأته وتطوره حتى عام 1963"، لمجموعة من المؤلفين.
بناية جديدة وقانون وطني
استجابت الحكومة لرسالة بيل، فخصصت بناية جديدة (كانت مطبعة في السابق) في شارع المأمون لتصبح مقراً جديداً للمتحف.
في يونيو 1926، افتتح المتحف الجديد بحفل رسمي كبير حضره الملك فيصل الأول والعديد من الشخصيات الرسمية والأكاديمية.
شبّهت بيل المتحف العراقي الجديد آنذاك، بالمتحف البريطاني من حيث الترتيب، مع فارق الحجم الأصغر من البريطاني. وتقديراً لدورها عهد إليها بإدارة المتحف حتى وفاتها في يوليو من نفس العام.
لاقى المتحف في شارع المأمون مصير سابقه في القشلة، فأصابه الاكتظاظ بوقت سريع، وتراكمت القطع الأثرية المكتشفة في صناديق استحال عرضها أمام الجمهور.
يشير كتاب "المتحف العراقي: نشأته وتطوره حتى عام 1963" إلى الدور الذي لعبه اضطلاع شخصيات عراقية بشؤون الآثار في زيادة أعداد القطع الأثرية الداخلة إلى خزائن المتحف. ويستشهد بقانون الآثار رقم (59) لسنة 1936، الذي نظم عمليات التنقيب، ونصّ على أنه "تعرض الآثار المنقولة التي تكون في حوزة الحكومة على أنظار الناس والعلماء في المتاحف التي تؤسس في العاصمة وسائر المدن وبجانب بعض الأطلال الأثرية".
البحث عن مساحة
استشعرت الحكومة العراقية في عام 1957 تواضع مساحة المتحف قياساً إلى حجم الآثار المكتشفة، فقرّرت نقله إلى منطقة العلاوي بعد بناء مقر جديد وفقاً للمواصفات العالمية، وهو المتحف الذي افتتح في 9 نوفمبر 1966، ولا يزال قائماً حتى الآن، مع إدخال قاعات جديدة في عام 1984.
أوكلت مهمة تصميم المتحف إلى المهندس المعماري الألماني، فيرنر مارغ، وأشرف على تنفيذه عدد من المهندسين العراقيين، وتم إنجازه على يد شركة لبنانية. ويتكون المتحف من 25 جناحاً، ويضم أكثر من 140 ألف قطعة تنتمي إلى الحضارات المتعاقبة على العراق، مثل السومرية، والآشورية، والبابلية، والإسلامية.
وإلى جانب المتحف الوطني في بغداد، توسع العراق في إنشاء المتاحف، فكان متحف الموصل في العام 1952، والسليمانية عام 1961، والناصرية عام 1970، وغيرها.