ليست المرة الأولى التي يشهد فيها تاريخ العراق الحديث إدعاءً لـ"المهدوية" (القول بأن شخصية ما هي الإمام المهدي المنتظر عند الشيعة الإثني عشرية).
جماعة "أهل القضية" التي أغضبت الزعيم الشيعي مقتدى الصدر لادعائها بأنه "المهدي المنتظر" لم تكن طارئة على تاريخ المهدوية العراقي الحافل بجماعات وأفراد يدّعون المهدوية.
ووالد مقتدى الصدر المرجع الديني محمد صادق الصدر واجه تجربة مماثلة في العام 1999 قبل اغتياله بأسابيع كما تكشف وثائق من أرشيف حزب البعث العراقي حلّلها عباس كاظم في كتابه "الحوزة تحت الحصار".

الوثائق عبارة عن تقارير كتبها مخبرون بعثيون وأرسلوها إلى قياداتهم، وأعربوا فيها عن قلقهم من تزايد أعداد المصلّين وراء الصدر في كل صلاة جمعة يقيمها، حيث جرى رصد "حوالي 10 آلاف إلى 12 ألفاً في كل صلاة خلال شهر كانون الثاني/ يناير وبداية شهر شباط 1999"، وهو ما اعتبره البعثيون فشلاً للإجراءات القمعية التي اتخذتها الحكومة وحزب البعث "لمنع أتباع الصدر من الوصول إلى مدينة الكوفة وحضور الصلاة وسماع خطبته في مسجد الكوفة".
وهذا ما دفع الحكومة، بحسب كاظم، إلى "الرد بحملة أمنية واسعة ضد الصدر من أجل تخويفه هو وأتباعه، فألقت قوات الأمن القبض على عدد من وكلائه في النجف وبقية المحافظات بينما أصبح وجود القوات الأمنية وميليشيا البعث منظوراً في المدن التي يتمتع فيها الصدر بشعبية كبيرة".
وتناغماً مع هذه الحملة الأمنية، يقرأ كاظم في الوثائق، إطلاق الحكومة "حملة دعائية ضد الصدر من أجل تسقيطه اجتماعياً ودينياً من خلال إرسال بعض عناصر الأمن الذين ادّعوا كونهم صدريين وبدأوا يبثون ادعاءات بأن السيد الصدر هو الإمام المهدي المنتظر".
ويتابع كاظم أن "السيد الصدر قرر، بدلاً من التراجع وترك الأزمة تمرّ بسلام، تصعيد انتقاده للنظام أكثر من ذي قبل". وفي خطبة الجمعة في 29 يناير 1999، استنكر الصدر اعتقال وكلائه في بعض المحافظات. وهذه المسألة أصبحت إحدى النقاط المهمة في تقرير فرع النجف في حزب البعث المرسل إلى القيادة في 31 يناير 1999، أي بعد يومين من الخطبة.
كما ذكر التقرير أيضاً "مسألة توزيع الأموال والدعايات التي تنشر عن كونه الإمام المهدي المنتظر، التي ذكرها الصدر في خطبة الجمعة تلك".
وبحسب كاظم، "فقد خطب الصدر في أكثر من إثني عشر ألفاً من المصلّين قائلاً: "هناك زعم قديم ويؤيده زعم حديث من أنني الإمام المهدي المنتظر، فإنني بريء من ذلك وكل من يدّعي ذلك فإنني بريء منه".
في بحثه حول "الحركات المهدوية في العراق: التحولات والأبعاد السياسية" المنشور في مجلة أبحاث "ميسان"، يقول الباحث والأستاذ الجامعي نصيف جاسم عاتي إنه من الواضح أن ظاهرة الحركات المهدوية والسفارة (أي الادعاء أن شخصاً ما هو سفير للإمام المهدي أو نائباً عنه)، وعمرها من عمر التشيّع، ظهرت بقوة بعد العام 2003 "بأشكال وأفكار ومناطق مختلفة، فلم تقف عند هدف أو منطقة محددة".
وعلى ما يبدو، بحسب عاتي، "هناك عوامل وأسباب متنوعة ساهمت في ظهور هذه الحركات، حيث أجمع علماء الاجتماع والسياسة، أن للظرف الأمني والسياسي السيء، الذي يمر به العراق خلال هذه الحقبة التاريخية، وغياب القانون والرقابة الحقيقية التي تحكم الأحزاب والحركات، والظلم وسوء الوضع الاقتصادي لعدد كبير من أبناء الشيعة خلال سنوات نظام صدام السابق، زيادة على تمسك الشيعة الشديد بعقائدهم الدينية وخصوصاً قضية الإمام المهدي المنتظر، كلها عوامل ساعدت على ظهور هذه الحركات في العراق".
ويلاحظ عاتي بأن هذه الحركات تحولت من "التنظير والتبشير الكلاسيكي إلى خيارات أخرى سياسية وعسكرية في تحول راديكالي يشكّل مصدر قلق وإرباك لعملية بناء الدولة الحديثة".
يرجع عاتي إلى العام 1998 حيث ظهرت "الحركة السلوكية" بين صفوف طلاب حوزة النجف أيام نظام صدام حسين، وهي جماعة قد تكون "جامعة لكثير من الحركات التي تدّعي المهدوية والسفارة في العراق"، واشتهرت هذه الحركة بحسب عاتي، بـ"الدعوة لممارسة الظلم والرذائل للتعجيل بظهور الإمام المهدي، وقد طردهم من الحوزة المرجع محمد صادق الصدر". وترجع الدلائل، كما يبيّن عاتي، إلى أنهم من أتباع الصرخي الحسني.
كما يتحدث عاتي عن "جماعة السفارة/ حركة اليماني الموعود أحمد الحسن"، وهي حركة مسلحة أسسها شاب من مواليد محافظة البصرة يدعى أحمد اسماعيل كاطع، وقد بدأت للترويج لحركته التي أطلق عليها اسم "أنصار الإمام المهدي"، منذ عام 2002 حينما كان طالباً في حوزة النجف، وقد ألقي القبض عليه من قبل نظام البعث واودع السجن بتهمة "استثمار الدين لمعارضة النظام"، وعندما خرج من السجن بعد سقوط نظام صدام حسين، نشر دعوته في العام 2004 بشكل علني في منطقة جامع السهلة في الكوفة، بعد أن كنّى نفسه بـ"أحمد الحسن" وبأنه "اليماني الموعود"، وقد سوّق بين أتباعه أنه "حجة من حجج الله" وأنه "معصوم وأول الداعين للإمام المهدي والمكلف بتهيئة القاعدة لظهوره وانه على اتصال به".
استطاع اليماني أن يحشد حوله الأنصار والمريدين، و"شعرت السلطات بخطره على الدولة والمجتمع"، كما يشير عاتي في دراسته، خصوصاً بعد استخدام جماعته السلاح ضد الحكومة، فقامت السلطات في العام 2007 بمداهمتهم وإلقاء القبض على عدد كبير منهم، "ما دفعهم إلى الرد بالمقابل على الجهات الحكومية ودخلوا بمواجهات معها في عدد من المحافظات الجنوبية أسفرت عن سقوط ضحايا بين الطرفين". ويؤكد عاتي في دراسته المنشورة في يونيو 2017 أن "هذه الحركة لا زالت تنشط في محافظة البصرة لحد الآن".
ويميّز عاتي بين الحركات التي تدّعي المهدوية، وبين تلك التي "تستمد العزم من جيش الإمام المنتظر المزمع تشكيله لتحقيق نظام سياسي واجتماعي في العراق ينعم بالعدالة والرفاه والاستقرار" و"لم تتبنَ يوماً فكرة الامام المهدي مطلقاً"، ويعني بذلك "جيش المهدي" الذي أسسه مقتدى الصدر والذي ظهر بأسماء أخرى بعد حلّه، وهي "لواء اليوم الموعود"، و"سرايا السلام".
وهذا يختلف كما يبيّن عاتي تماماً عن الحركات المهدوية الأخرى مثل "حركة جند السماء"، الذي "ادّعى مؤسسها ضياء عبد الزهرة الكرعاوي أنه هو الإمام المهدي"، وقد شكل حركته في النجف على هذا الأساس و"استطاع التأثير على عدد من الاتباع واقناعهم بفكرته التي أوضحها في كتاب اصدره بعنوان "قاضي السماء".
وقد بلغ أعداد مريدي "جند السماء" حوالي 2000 شخص، وقد تسلحوا بأسلحة متوسطة وخفيفة واتخذوا من مزارع اشتروها في منطقة الزركة قاعدة لهم للتدريب. في العام 2007 شنّت القوات الحكومية العراقية حملة عسكرية عليهم شاركت فيها القوات الأميركية وانتهت بقتل زعيمهم وسجن عدد كبير منهم.
ويعدد عاتي مجموعة أخرى من الحركات المهدوية التي ظهرت في العراق بعد العام 2003، بينها حركة "أبو علي المختار" التي أسسها شاب من بغداد يدعو إلى "ثورة الحب الإلهي"، و"تنظيم المولوية" وهي حركة ظهرت بعد سقوط نظام صدام حسين وسميت بـ"المولوية" "لأن أصحابها يكثرون من ذكر مصطلح "المولى" واشتقاقاته وهي متداخلة مع حركات أخرى كحركة اليماني و"جند السماء" و"أبو علي المختار".
كما أن هناك حركات وادعاءات مهدوية أخرى كثيرة، بحسب عاتي، "لكنها لم تلق رواجاً كبيراً"، ومن بينها "حركة الممهدون" التي ترى أن الإمام المهدي ظهر منذ العام 2008، وحركة "أصحاب القضية"، وهي الحركة نفسها التي أثارت ضجة اليوم مع قرار مقتدى الصدر تجميد نشاط حزبه السياسي وإغلاق مقراته لمدة لا تقل عن سنة.
وتنقسم حركة "أصحاب القضية" إلى جماعتين: الأولى تسمى بحسب عاتي، "حركة روح الله"، وهي "تعتبر ان السيد الخميني هو المهدي المنتظر ولم يمت بل غاب وسيظهر ثانية وأوسع انتشار لها في مدينة العمارة". والثانية هي "حركة النبأ العظيم" وهي "تعتبر السيد مقتدى الصدر هو المهدي المنتظر وتنتشر في محافظة ميسان".