يشكل يوم 27 يناير من العام 1969 تاريخاً مفصلياً بالنسبة لصناعة ديكتاتورية صدام حسين، وكان في حينه نائباً للرئيس ومسؤولاً عن الاستخبارات والأمن.
الوثائقي الذي يحمل عنوان "صدام حسين"، وهو من إخراج مارك ستيفنسون (إنتاج عام 2019)، والذي يتحدث عن الآليات التي اعتمدها صدام حسين للحكم بيد من حديد لما يقارب ثلاثين سنة، وكيف استخدم الخوف والعنف والتهديد للسيطرة على العراقيين، يقدّم هذا التاريخ كحدث مؤسس ومفتاحي، اعتمده صدّام حسين لفرض السيطرة والقوة.
في الوثائقي مقاطع فيديو للجماهير العراقية في ساحة التحرير وهي تتجمع في ذلك اليوم الذي شهد إعدام 14 شخصاً بينهم 9 من اليهود. وقد جرى نقل الحدث عبر الإذاعة والتلفزيون. و"التقديرات عن حجم الجماهير التي ذهبت لمشاهدة الجثث المتأرجحة في ميدان التحرير والتي علّقت بحيث تبعد كل منها عن الأخرى سبعين متراً، تراوحت بين 150 ألفاً وخمسمئة ألف"، كما يروي كنعان مكية في كتابه "جمهورية الخوف". ويتابع: "لقد تقاطر الريفيون من المناطق المجاورة للاستماع إلى الخطب (لمسؤولين بعثيين)، واستمرت تلك الأفعال والجثث معلقة لأربع وعشرين ساعة مستمرة".
وكان الجمهور، بحسب مكية، "يغني ويرمي الجثث بالحجارة ويبصق عليها". وبحسب كمال ديب، في كتابه "موجز تاريخ العراق"، فإن الرئيس العراقي أحمد حسن البكر ونائبه صدّام حسين كانا حاضرين مع الجماهير في الساحة.
ويروي ديب في كتابه تفاصيل هذا الحدث، الذي بدأ مع قيام إسرائيل "بشنّ غارة على مواقع عسكرية في الأردن أسفرت عن مصرع 16 عسكرياً عراقياً في 4 ديسمبر "1968. وفي اليوم التالي: "سارت تظاهرة ضخمة في بغداد قدّر عدد المشاركين فيها بأربعين ألفاً يسير أمامهم رسميون وحزبيون وشخصيات فلسطينية. وتوقفوا أمام القصر الرئاسي فخرج الرئيس أحمد حسن البكر وألقى كلمة حماسية لمدة ساعتين نقلها التلفزيون، وعد فيها بضرب الطابور الخامس بيد من حديد وباستئصال الجواسيس".
وخلال أيام، يتابع ديب، أعلن النظام اكتشاف "طابور خامس" وشبكة جاسوسية، وخلال أسابيع جرت محاكمة "أعضائها" وإعدام 14 شخصاً بينهم تسعة يهود.
وبحسب ناتاشا إيزرو أستاذة العلوم السياسية في جامعة آسكس، فإن "السبب الذي دفعه (صدام حسين) إلى جعل الإعدامات عامة هو لما لهذا الأمر من وقع نفسي كبير جداً لا يستهدف فقط الضحايا بل يستهدف أي أحد يفكر في مواجهة النظام"، كما تقول في الوثائقي.
من جهته، يؤكد كنعان مكية الذي استضافه الوثائقي أيضاً أن صدام حسين "زرع في عقل كل مواطن عراقي أنه إذا قام أحد بمخالفة ما هو متوقع ومطلوب منه، هذا سيكون العقاب الذي سيتلقاه".
وأولى مكية في كتابه- الذي كتب نسخته الأولى باسم مستعار هو "سمير خليل" بفعل الخوف- هذا الحدث أهمية كبيرة لدوره المحوري في تأسيس "جمهورية الخوف"، وشبّهه بمحاكمات موسكو التي أقامها ستالين بين عامي 1936 و1938 للتخلص من معارضيه من الحرس البلشفي القديم.
يقول: "محاكمات كانون الثاني تقف إلى جانب محاكمات موسكو كنافذة أخرى من نوافذ العرض الدرامية لهذا القرن، ملقية الضوء على قوة الاعترافات المفبركة عندما تتعامل معها بذكاء قيادة مصممة".
وبحسب مكية، "لم يكن للمشهد الذي حدث في كانون ثاني عام 1969 أي صلة مباشرة بكشف محاولة انقلابية حقيقية كانت أم متخيلة، ولا كان تقليماً لأظافر مراكز قوى تبادلية في الدولة. ومع ذلك فإنه كان أكثر المحاولات إدارة من الناحية المسرحية، وبالنسبة لكل محاكمات المؤامرات التالية".
عضيد داويشه في كتابه "العراق: تاريخ سياسي من الاستقلال إلى الاحتلال" يرى أن صدام حسين "لمّا كان من أشدّ المعجبين بجوزيف ستالين، فلقد أدرك أهمية عمليات التطهير التي حصلت في الثلاثينات لديمومة الحكم المطلق. ولما كان يضاهي ستالين في القسوة والحنكة السياسية، فلقد عمل خلال أول عامين على تعزيز موقعه من خلال إيصال الأشخاص الموالين له شخصياً إلى المناصب الحساسة في الحزب والأجهزة الأمنية والقضاء على خصومه المحتملين من خلال كشف مخططات حقيقية أو وهمية معادية للحكومة".

مكية يعتبر أن "ذيوع هذه المحاكمة- المسرحية في كانون الثاني 1969 شكّل إزالة لوجود الجمهور ككيان مستقل". ويروي كيف "أصاب السعار وسائل الإعلام فطولب أناس من "الطابور الخامس" أشير إليهم بالحروف الأولى "الغامضة" من أسمائهم، بأن يسلّموا أنفسهم للسلطات، من خلال نداءات متقطعة في الإذاعة". وهنا يلاحظ حازم صاغية حول هذا الحدث في كتابه "بعث العراق: سلطة صدام قياماً وحطاماً"، أن "الدم كان يفتتح العهد البعثي صوتاً وصورة وأخلاقاً"، وكيف أن "إذاعة بغداد دعت الناس أن يأتوا ويستمتعوا بالوليمة، مسمية عمليات الشنق "خطوة أولى شجاعة على طريق تحرير فلسطين". وبهذا الحدث كان صدام حسين بحسب صاغية يفتتح "عهد الإرهاب"، و"هو، بالطبع، عهد تأسيسي لتحكيم الغرائز وتحريرها من الروادع، أخلاقية كانت أم مؤسسية وقانونية". وأن "هذا الطقس القروسطي أريد منه توحيد الجموع حول الخرافة ومنح الحشد البائس قوة وتمكيناً وهميين حيال "عدو" مهيض الجناح، علّه يستعيض بالقوة والتمكين هذين عن بؤسه الفعلي".
في وثائقي "صدام حسين" يقول أستاذ علم النفس في جامعة جورج تاون فتح علي مقدّم، إن "الطغاة يحاولون دائماً أن يخلقوا شعوراً لديك أنك قد تعتقل في أي لحظة، أو إذا قمت بأمر خاطئ، أمك ستخضع للاستجواب، لذا هم يحاولون أن يخلقوا هذا الخوف كقاعدة عامة". ولهذا فإن هدف الحكم البعثي من هذه العملية، بحسب صاغية، هو أن "يضرب الضعيف ضربة يطير لها قلب القوي"، وأنّ "إبقاء المشانق معلقة والجثث متدلية لأيام، سيّدا الخوف على سائر المشاعر العراقية".
أثر هذه الاعدامات ترك صداه على أجيال عراقية لسنوات قادمة، إذا تكتب هاديا سعيد في كتابها "سنوات مع الخوف العراقي" أنها كانت تسمع كلمة الإعدام "تتكرر مع رشفة استكان الشاي ومجة السيجارة وأمام صواني الطعام وبين سطور ما نقرأ أو نكتب". وتتابع أن الخوف "التحم بالنبضة والنظرة"، وأن "الكل يؤكد ان القيادة أصبحت تملك الحرية الكاملة في محاسبة الجميع".