نزولاً عند نصيحة والده، قام محمد عبيد بنقل الجمال والنوق التي يهتم بها من الصحراء إلى الجبال في إقليم كردستان بسبب موجة الجفاف التي تضرب العراق. يقول راعي الجمال العراقي لـ"ارفع صوتك": "نقلناهم خوفاً من هلاكهم في صحراء الجزيرة"، ويضيف أن بعض الجمال باتت "تستسلم للجرب والجفاف.. مما دفعنا إلى الانتقال".
عبيد يشرح أن الجمال "تكيفت مع الجبال دون أي مشاكل، وأنها ترعى على أشجار البلوط والعشب"، وأن هذا المكان (جبال كردستان) "به موارد وفيرة".
ما يحدث اليوم في العام 2023 ليس جديدا. عانت الجمال في العراق من موجات جفاف متتالية طوال العقود الماضية، مثلما حدث قبل 91 عاما تقريبا. يذكر مكي الجميل في كتابه "البدو والقبائل الرحالة في العراق"، وهو صادر في العام 1956، أن "سنة 1932 كانت سنة إمحال وجفاف، ظمأت فيها الأرض إلى المطر وأصاب المزروعات فيها ضرر عظيم حتى إنني لا أزال أذكر أن السيد فاروق الدملوجي الطبيب البيطري في لواء الموصل يومئذ، كان قد أحضر معه كرات سوداء استخرجت من بطون الأغنام المذبوحة وكان ذلك نتيجة لالتهام الأغنام صوف بعضها بعضاً بحيث اضطرت عشائر شمر أن تدخل المناطق الكردية من لواء الموصل التي كانت أقل جدباً، وكادت تؤدي تلك الحال إلى وقوع حوادث دموية لولا التدابير الإدارية التي اتخذت يومئذ، ولولا إعطاء أجور مناسبة إلى أصحاب تلك الأراضي".
يتابع جميل أنه وفي أواخر 1933 "كنتُ مديراً لناحية المحاويل، فشاهدت في صباح أحد الأيام قوافل طويلة (استغرق مرورها من مركز الناحية من الصباح الباكر حتى العصر) من الجمال التي تحمل بيوت الشعر والرجال والنساء الراجلين وهم يحملون أطفالهم وقد هدّهم الإعياء، صفر الوجوه جياع ضمأى يبحثون عن الخصب يائسين، ثم علمت أنهم بعض أفخاذ شمر ووجهتها لواء الديوانية طلباً للماء والكلأ. فكان منظر الإجهاد والبؤس المرتسم على ملامحهم الذابلة مما يؤثر في النفس أشدّ تأثير".
وهو أمر لاحظه الرحالة الفرنسي لوي جاك روسو، الذي دوّن أخبار رحلته من حلب إلى بغداد ثم إيران عام 1808، وهذا قبل أكثر من مئة عام من جفاف العام 1932. يقول "الجمال عند العرب ليس لها سوى سنام واحد، وأجسامها مجردة من اللحم، أي أنها ضعيفة، وهي كثيرة الشثن، أي غليظة الجلد، ورغم قوتها فهي كثيرة التقرح، معرّضة للآكلة، ولأمراض أخرى عديدة بسبب كثرة السفر والتعب والحرمان".
ويبدو أن رعاة الجمال أبرز المتأثرين، وأوّلهم، بموجات الجفاف التي ضربت العراق على مرّ تاريخه، خصوصاً أن للجمال والنوق أهمية لكثير من العشائر والبدو التي تسكن الصحراء وتعتمد على الإبل لصمودها.
"اتفق الجميع على أهمية هذا الحيوان لحياة البدوي في الصحراء، فهو أثمن ما يملك في حياته القاسية"، يقول علي عفيفي علي غازي في كتابه "بدو العراق والجزيرة العربية بعيون الرحّالة". ويتابع: "ليس حليب النوق وحده هو ما يجنيه البدوي من فائدته، فهو طوق نجاته في بحور الرمال العظيمة، ومصدر مأكله ومشربه وملبسه. فاللحم للغذاء والفراء للاستدفاء، والجلد لصناعة بعض الحاجيات، ومن وبره يصنع بيت شعره وخيمته، ويستخدم بعره كوقود بعد تيبسه، وبوله للتنظيف وكدواء ومادة لغسيل الشعر وقتل القمل"!.
هذا فضلاً عن "أهمّ خاصية" يقول عنها غازي، وهي التي منحته لقبه الشهير "سفينة الصحراء"، و"هي حمل البدوي وحاجياته وأثقاله إلى أمكنة لم يكن بالغها إلا بشقّ الأنفس".

وقد ارتبط مفهوم البداوة عند الرحالة، بحسب غازي، بأن البدوي "ليس كل من يترحل في الصحراء، وإنما هو راعي الإبل فقط، من دون غيرها من الحيوانات، ويُسمون أهل الوبر، وأهل الإبل أيضًا، وتُسمى الإبل حلال، أي "مال" البدوي والجمل هو الحيوان الذي يتحمل الصحراء. بل، إنه ضرورة للعيش فيها، وهبته الرحمة الإلهية لقاطنيها، الذين يتنقلون في أرجائها القاحلة".
ويلفت غازي إلى أن الجمل هو "أكثر الحيوانات شيوعاً وأعظمها عند البدو، فهو يتحمل الحر وقلة الماء لوقت طويل وبإمكانه حمل البشر والمتاع ويزود البدوي بمعظم احتياجاته". ولهذا فإن البدوي لا يتخلى عن جمله، ولا يبيع إلا الذكور من الجمال، ويبقي على الإناث من أجل التولّد، كما يلاحظ فتح الله الصايغ في كتاب رحلته "إلى بادية الشام وصحارى العراق والعجم والجزيرة العربية"، والتولد ليس السبب الوحيد بل يضيف الصايغ "ومن أجل حليبها أيضاً، لأن حليب النوق أكبر قوت لهم (للبدو)".
أما الإسباني دومنجو باديا، فينقل في ما كتبه من يوميات خلال رحلاته إلى الصحاري العربية أن "الإبل من الحيوانات شديدة الحساسية وتتطلب اهتماماً ومعاملة لطيفة، ولهذا يتعامل البدو بمنتهى اللطف والحذر مع الإبل الفتية، لكنها في المقابل ملزمة بالخدمة حتى النفس الأخير، وتنفق وهي تحت وطأة العمل".