عرفت بغداد المقاهي منذ العهد العثماني، ويعود تاريخ أقدم مقهى إلى عام 1590، أسسه والي بغداد "جغالزادة سنان باشا"، على ضفاف نهر دجلة بالقرب من مبنى القشلة حيث مقرات مراكز الحكم.
يقول الكاتب زين النقشبندي في كتابه "تاريخ مقاهي بغداد القديمة"، إن بغداد "عرفت المقاهي في العهد العثماني"، وكان هناك "في كل محلة من محلات بغداد مقهى واحد على الأقل حسب عدد سكان المنطقة".
وبحسب النقشبندي فإن والي بغداد جغالزادة سنان باشا شيد خاناً (فندق لاستقبال المسافرين) ومقهى مجاوراً له وسوقاً شهيرة. شهدت جميع هذه الأماكن إقبالا كبيراً من العراقيين في ذلك الوقت وخصوصاً المقهى، ليتم استنساخ التجربة ويرتفع عدد المقاهي إلى 184 مقهى عام 1883 و599 مقهى سنة 1934.

ويشير الكاتب إلى أن أصحاب المقاهي كانوا يتفننون لجذب الزبائن وكان هناك "فنون اللهو والتسلية في المقاهي البغدادية القديمة"، إضافة إلى تقاليد خاصة بالمقاهي خلال شهر رمضان حيث كانت تتميز "بحضور القصاخون أو الحكواتي فيها، واعتاد الناس من خلالهم على سماع قصة عنتر أو ابي زيد الهلالي".
من أماكن للتسلية إلى منابر سياسية
يقول أستاذ التاريخ في الجامعة المستنصرية، محمد جاسم لـ"ارفع صوتك"، إن ظاهرة تأسيس المقاهي في العراق "بدأت في العهد العثماني ضمن سياق لا يتعدى المتعة واللهو، ثم تحولت إلى وظائف أخرى أدبية وسياسية في العقد الأول والثاني من القرن العشرين".
ويضيف أن "شارع الرشيد التراثي احتوى على إمبراطورية فريدة من المقاهي، لعبت دوراً أدبياً وتثقيفياً مهماً في المجتمع العراقي، وكانت ملتقى للأدباء والفنانين والشعراء، كما طغى الدور السياسي على باقي الأدوار التي لعبتها المقاهي آنذاك".
هذا التغيير في الأدوار "جاء من كون شارع الرشيد حاضنة بغداد التجارية القديمة بامتداده الطويل ووقوعه قريباً من نهر دجلة حيث مقار وزارت الحكومات المتعاقبة ودوائرها ومراكزها الصحافية"، بحسب جاسم، إضافة إلى "قوة الحياة المدنية في حاراته وأزقته الجانبية بجوامعها وأسواقها التجارية التي جمعت العراقيين من كل مكان لتلتقي في المقاهي القريبة من بنايات السلطة الرسمية".
ويتابع: "نتيجة لكل تلك الأهمية التي حظي بها شارع الرشيد :" فان المقاهي تحولت إلى منتديات ثقافية وملتقى سياسي وموطن للشعر التحريضي بشقه العمودي المؤثر آنذاك، وكان الشاعران محمد مهدي الجواهري ومعروف عبد الغني الرصافي من رواد تلك المقاهي".
بعض من تلك المقاهي السياسية والأدبية لا يزال موجوداً حتى الآن. أهمها مقاهي "حسن عجمي" و"الشابندر" و"الزهاوي" و"أم كلثوم".
"حسن عجمي"
مرّ أكثر من مئة عام على افتتاحه، وحتى الآن لا يزال مقهى "حسن عجمي" التراثي في شارع الرشيد وسط العاصمة بغداد، محتفظاً بمقاعده القديمة وتصميمه الأول وحتى أخشاب طابقه الثاني المهترئة وبعض من رواده القدماء.
ما إن تضع قدمك في المكان حتى تصل إلى أنفك رائحة الشاي المخدر على الفحم، ودخان الأرجيلة التي لا يحلو لرواده مجالسهم إلا وميسمها بين أيديهم، وهم يقضون أوقاتهم بين الأحاديث الجانبية مع بعضهم، أو برفقة هواتفهم النقالة.
لكن هذا الوضع الحالي للمقهى لم يكن ذاته قبل ثلاثين عاماً كما يقول المغترب العراقي علي إبراهيم، القادم في زيارة من أستراليا إلى بغداد لزيارة عائلته ولقاء أصدقاء شبابه في المقهى.
يضيف لـ"ارفع صوتك": "المقهى كان منبرا للعلم والأدب والتكافل الاجتماعي، وملتقى للموظفين والمتقاعدين وطلاب الجامعات".
"أول مرة زرت فيها المقهى كانت قبل 30 عاماً، كل شيء هنا يذكرني بتلك المرحلة التي نقرأ عنها في كتب التاريخ الحديث، وكان رواده القدماء يحكون لنا عن فخامة المقهى وجماله خلال تلك الفترة، عكس ما نراه عليه في هذه اللحظة من التراجع والتهالك في بنيانه"، يتابع علي.
ويشير إلى أن المقهى -كما كان يسمع من روّاده القدامي" كان "من أنظف مقاهي بغداد بأرضية ومقاعد ممتدة على مساحة المقهى مفروشة بالسجاد الكاشاني الغالي الثمن. أما مكان عمل الشاي فكان ممتلئاً بأنواع السماورات الأصلية المستوردة من روسيا، فيما كانت تصطف على الجوانب الأراجيل بألوان مختلفة وكان الحاضرون بالكاد يجدون مكاناً للجلوس فيه".
وتعدى مقهى" حسن عجمي" دوره كملتقى للأدباء، وأصبح شاهداً على مواقف إنسانية عديدة، كما يروي المغترب الستيني "فالمقهى كان ملتقى للأدباء والأساتذة والقضاة الموظفين منهم والمحالين إلى التقاعد، وكان أن تعثر أحد طلبة كلية القانون القادمين من المحافظات وجاء ليستجدي في المقهى، فما كان منهم إلا التبرع بجهودهم وبعض المال شهرياً للشاب حتى يتمكن من الحصول على شهادته الجامعية وكانوا يتناوبون على شرح المواد القانونية له حتى يتمكن من النجاح والعودة إلى محافظته".
يقول الأستاذ جاسم في هذا السياق، إن المقهى بالفعل شكّل "ملتقى لوجهاء بغداد لتبادل الأحاديث والنقاشات السياسية والأدبية، وكان محمد مهدي الجواهري أحد أهم رواده، وكثيراً ما كان يُشاهد وهو يلضم قصائده في أحد أركان المقهى ثم يقوم بتعديلها وهو يتمتم بكلماتها قبل أن يلقيها في المكان".
وكانت قصيدة "أخي جعفر" واحدة من أهم قصائد الجواهري التي كتبت في "حسن عجمي"، وألقاها الشاعر في جامع الحيدر خانة بشارع الرشيد، خلال تأبين شقيقه وعشرات المحتجين اللذين قتلوا قبلها بأسبوع واحد بسلاح الحكومة لاحتجاجهم على عقد معاهدة "بورتسموث" في أربعينيات القرن الماضي.
ألهبت تلك القصيدة قلوب المؤبنين لتخرج إلى الشوارع احتجاجات ضخمة انتهت بإلغاء المعاهدة وإقالة رئيس الوزراء آنذاك.

"الشابندر"
كان مقهى "الشابندر" مقراً لأول مطبعة بخارية استخدمت في العراق وسمي باسم أصحابه من أسرة الشابندر العائلة البغدادية القديمة التي عرفت بالغنى والجاه، قبل أن تتحول إلى مقهى عام 1917 بعد تهديمها وإعادة بنائها بالطابوق والجص، ليصبح المقهى جزءاً مهماً من تراث بغداد، حافظ على شكله وتراثه رغم مرور الزمن.
شهد المقهى دخول أول جهاز "فونوغراف" في العراق عشرينيات القرن الماضي، ومنه انتشرت عادة سماع الأغاني والتراتيل الدينية.
وتميز بتقديمه الجرائد لمرتاديه ومنع ألعاب التسلية مثل الدومينو والنرد للمحافظة على صبغته الأدبية الثقافية منذ تأسيسه وحتى الآن.
يقول أبو علي أحد زائري المقهى لـ"ارفع صوتك"، إنه "اعتاد اللجوء إلى المقهى كلما زار شارع المتنبي للتزود بالكتب، وهو بمثابة نقطة استراحة وعودة إلى الماضي، حيث ترى السماورات والأثاث والصور التراثية وهي تملأ المكان بعطر الماضي القريب إلى النفس".
لم يسلم المقهى من الأذى خلال أحداث العنف الطائفي في العراق، ففي عام 2007 انفجرت سيارة مفخخة قربه وخلفت 68 ضحية منهم أربعة من أبناء صاحب المقهى محمد الخشالي وأحد أحفاده.
يقول الخشالي لـ"ارفع صوتك"، إنه قرر "إعادة ترميم المبنى وفتحه، وإطلاق اسم مقهى الشهداء عليه، تخليداً لذكرى أبنائي ورغبة في استمرار الإرث التراثي العريق للمكان".

"الزهاوي"
يقع مقهى "الزهاوي" في شارع الرشيد بالقرب من رأس "جسر الشهداء" الذي يربط بين جانبي بغداد (الكرخ والرصافة).
عند تأسيسه كان اسم المقهى "أمين آغا"، لكنه، تغيّر بعد أن اتخذه الشاعر جميل صدقي الزهاوي كملتقى أدبي ولحقت به مجموعة من الأدباء منهم الشاعر معروف الرصافي وعالم الاجتماع الشهير علي الوردي.
وشهد المقهى سلسلة من المعارك الشعرية والأدبية بين الزهاوي والرصافي، شغلت الناس بأجوائها، وانقسم جمهور المقهى حول الشاعرين، يتحمس كل منهما لشاعر دون الآخر.
هذه المعارك الشعرية استمرت منذ أوائل القرن العشرين حتى تاريخ وفاة الزهاوي عام 1936، ليرثيه الرصافي بقصيدة خلال تشييعه باكياً.

"ملتقى الأسطورة"
مقهى "أم كلثوم" سابقاً و"ملتقى الأسطورة"، حالياً هو أحد المقاهي التراثية المهمة في شارع الرشيد، الذي تأسس في ستينيات القرن الماضي، على يد عاشق صوت المطربة المصرية أم كلثوم، عبد المعين الموصلي، وتوفي في ثمانينيات القرن الماضي لتنتقل ملكية المقهى إلى أحد رواده القدماء.
يقول المالك الحالي، تحسين المياح، لـ"ارفع صوتك"، إن المقهى "يتميز بتقديم أغنيات أم كلثوم فقط وبصوت هادئ لا يزعج أحد، حفاظاً على رغبة صاحب المقهى الأصلي".
ولا يقتصر حضور أم كلثوم في المكان على صوتها، إذ يضم فالمقهى جداريات بأحجام مختلفة توثق رحلة "كوكب الشرق" في الغناء، من طفولتها وشبابها وحفلاتها، منها حفلها الذي أقامته في بغداد عام 1932، حين غنت في مقهى مجاور بشارع الرشيد أغنية تراثية لسليمة مراد باللهجة العراقية "قلبك صخر جلمود".

ويتميز المقهى برواده من لاعبي الشطرنج الذي يرفض صاحب المقهى تقديم أي العاب أخرى سواه، للحفاظ على الهدوء الذي يميزه، ولا يقدم شوى الشاي والقهوة ومشروب الحامض.
يتحدث المياح بأسى عن "تراجع كبير بأعداد المقاهي التراثية ومرتاديها، وتهدم الكثير منها أو إغلاقها وتغيير نشاطها، وبعضها اليوم أصبح في حالة يرثى لها"، وفق تعبيره.
ويؤكد أن "دور المقاهي الثقافي والأدبي تراجع بشكل كبير، ويفضل الشباب الكافيهات الحديثة، ولا نتمكن من إجراء الكثير من الندوات الثقافية والأدبية مثلما كان يحصل قبل عقود عندما كانت هذه المقاهي ملتقى للأدباء والمفكرين ومصدر للثورات والانتفاضات".