منذ بدء المفاوضات بين العراق والكويت على ترسيم الحدود أواخر القرن التاسع عشر، امتازت العلاقات بين الدولتين بالتوتر وتصاعد الخلافات، حتى انتهت باجتياح عسكري سبب أزمة دولية رسمت على خلفيتها الأمم المتحدة الحدود بين الدولتين وفق قرار لمجلس الأمن.
واليوم وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على القرار، يعلن البلدان عن جولة مفاوضات جديدة من المقرر أن تبدأ منتصف أغسطس الحالي لترسيم الحدود البرية والبحرية.
سبق هذا الإعلان زيارة وفد كويتي يترأسه وزير الخارجية سالم الصباح للعراق التقى خلالها بالعديد من المسؤولين الحكوميين العراقيين.
شهدت هذه اللقاءات بحسب المتحدث باسم وزارة الخارجية العراقية، أحمد الصحاف، "مستوى عال من التفاهم بين البلدين، جرى خلالها مناقشة ملفات متنوعة منها تحديات ظاهرة انتشار المخدرات وضبط الحدود بين الجانبين"
كما تم التطرق إلى "تبادل الدعم والتنسيق في مختلف المجالات والتطرق إلى أهمية دمج الاقتصاد العراقي بالتوجهات التنموية للاقتصاد في دول مجلس التعاون الخليجي. ومسألة الصناديق السيادية الخليجية وإمكانية أن يكون للعراق حضور فاعل في مسارات هذه الصناديق على المستوى الفني والاستثماري"، بحسب الصحاف.
وأوضح أنه "تم الاتفاق على دعم اللجان التخصصية بين الجانبين بشكل فني استثنائي للوصول إلى مقررات مشتركة، تتعلق بموضوعة ترسيم الحدود البرية والبحرية بين الجانبين، على أساس السيادة العراقية الكاملة في مجمل الأراضي البرية والإطلالات المائية العراقية".
تقول أم سارة، وهي مدرسة متقاعدة من بغداد، إنه "منذ غزو الكويت لم نر استقراراً ولا أمناً"، إذ أن القائمة تطول بدءاً من الحصار، مروراً بأحداث 2003 والحرب الأهلية والعنف الطائفي، وصولاً إلى اجتياح تنظيم داعش للعراق
تاريخ الخلاف
يبيّن خبير الحدود والمياه الدولية جمال الحلبوسي، لـ"ارفع صوتك"، أن :"الخلافات الحدودية بين العراق والكويت بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر، وتفاقمت بعد تراجع الدولة العثمانية".
ويشير إلى أن أول محاولة لترسيم الحدود كانت عام 1913، حيث تم إبرام اتفاق بريطاني عثماني كان الهدف منه حماية المصالح البريطانية في الخليج العربي.
"ومع انتهاء الدولة العثمانية وبعد تشكيل المملكة العراقية عام 1921 بنحو عام، تم وضع بروتوكول المحمرة، ثم اتفاق العقير الذي رسم خط الحدود ما بين العراق والسعودية والكويت"، يقول الحلبوسي.
ويضيف: "رسم الوسيط البريطاني بيرسي كوكس الحدود على الخريطة بين السعودية والعراق والكويت بالخط الأحمر بعد اختلافات كبيرة بين ممثلي الدول الثلاث آنذاك، التي كانت جميعا تسعى إلى التمدد على حساب الأخرى تارة بالحدود البحرية وتارة بالحدود البرية، أو بحساب انتشار القبائل الموالية لهذا الطرف أو ذاك".
مع ذلك، لم يحسم "الخط الأحمر" الخلاف بين الدول، فقد كان "خطاً وصفياً لا يتميز بالوضوح ودون أي إحداثيات"، بحسب الحلبوسي.
ويتابع: "استمر الوضع على حاله حتى عام 1932 حين أراد العراق الحصول على الاستقلال والدخول إلى عصبة الأمم المتحدة. كان من أهم النقاط التي يحتاج إليها هي مفاتحة الدول المجاورة أو الأقاليم للاتفاق على امتداد حدوده معها ومن ضمنها الكويت، فوافق العراق في مذكرة بعثها رئيس وزرائه آنذاك نوري السعيد".
تبدّل الحكام والأنظمة
بحسب دراسة حملت عنوان "إشكالية ترسيم الحدود العراقية الكويتية"، فإن مشكلة الحدود بين العراق والكويت "خضعت للعديد من المؤثرات السياسية التي ساهمت في تأزم أو دفء العلاقات بين البلدين، أبرزها التغيرات الحاصلة في أنظمة الحكم في العراق، إذ كان لكل نظام حاكم وجهة نظره الخاصة تجاه دول الجوار أو قضايا الحدود المشتركة".
وقالت إن العراق في العهد الملكي "تراجع عن قرار ترسيم الحدود عام 1938 من خلال مطالبة بعض الصحف العراقية بضم الكويت للعراق، ودُعمت هذه المطالب من قبل الملك غازي عبر تأكيده على أن الكويت أرض عراقية".
ثم حاول نوري السعيد عام 1958 إدخال الكويت إلى الاتحاد الهاشمي الذي ضم الأردن والعراق، "إلا أن قيام ثورة 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم حال دون ذلك"، وفق الدراسة.
وعندما منحت الكويت استقلالها عام 1961 ألغت بريطانيا اتفاقية الحماية الموقعة عام 1899 وتعهدت بتقديم المساعدة لها وفق طلب رسمي كويتي.
وأضافت الدراسة: "في العام ذاته، لوح قاسم باستخدام القوة لضم الكويت إلى العراق كونها أرضاً عراقية، لتسارع بريطانيا بإرسال أسطولها لمساعدة الكويت، وقدم الطرفان شكاوى متعددة إلى مجلس الأمن والجامعة العربية".
وبيّن أن "المشاكل استمرت بين البلدين حتى انقلاب عام 1963 الذي أطاح بقاسم، ليعترف عبد السلام عارف الذي تولى رئاسة العراق حينها باستقلال وسيادة الكويت، وتبدأ مفاوضات ترسيم الحدود التي لم تصل إلى نتيجة، لأن مقترحات الكويت لم تحقق للعراق منفذاً بحرياً كافياً على الخليج العربي".
استمرت المناوشات بين الطرفين ثم هدأت مع اشتعال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) وما أن انتهت حتى "عادت الخلافات بعد شكوى عراقية من أن الكويت قامت بإنشاء مخافر حدودية ومنشآت عسكرية ونفطية داخل الحدود العراقية بما يقارب 70 كم واستيلائها على حقل نفط الرميلة وبروز الخلافات السياسية بسبب سياسة الكويت النفطية"، كما أوردت الدراسة.
وأكدت أن "الخلافات بلغت أوجها باجتياح عراقي للكويت في أغسطس 1990، لتتحول الأزمة من خلاف حدودي إلى أزمة عالمية. ودخلت القضية في أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن وانتهت عام 1993 باتخاذ المجلس للقرار 833 وتم تنظيم الحدود البرية فيما بقيت الحدود البحرية معلقة".
إطلالة العراق المائية
يعتبر العراق من الدول المتضررة جغرافياً، ويعود السبب في ذلك بحسب أستاذ العلوم السياسية قاسم الجنابي، إلى "إطلالته الضيقة والصغيرة على بحر شبه مغلق هو الخليج العربي، كما أنه يبتعد عن منفذه الوحيد المفتوح على البحار العالية (مضيق هرمز) بنحو 407 كم".
هذا الأمر، كما يقول الجنابي لـ"ارفع صوتك"، يجعل من "خطوط الملاحة النفطية والتجارية تمر في مناطق البحار الإقليمية والمناطق الاقتصادية الخالصة لكل من إيران ودول الخليج العربية".
ويبين أن الساحل العراقي "طيني ضحل تتخلله مستنقعات تتسع مساحتها وقت المد، مما يحد من إمكانية بناء منشآت أو مباني بحرية، ويعيق حركة الملاحة".
أما الممر المائي الوحيد "وهو خور عبد الله فيمتاز بضيقه وضحالة سطحه الملحي، ما يجعله بحاجة إلى عمليات حفر مستمرة. ولذلك يضطر العراق إلى إنشاء موانئ بحرية بعيدة عن الساحل"، يتابع الجنابي.
وبعد صدور قرار مجلس الأمن 833، يقول الجنابي: "زادت وطأة الموقع بسبب حرمان العراق من مناطق بحرية واسعة، وفرضت منطقة منزوعة السلاح بعمق 10 كم، وقلصت إمكانية العراق في الانتفاع من الثروة السمكية في تلك المناطق. قياساً إلى ما يصطاده الصيادون الكويتيون والإيرانيون".
التعاون "بدلاً من التنافس"
يرى الخبير الاقتصادي قاسم جبار، أن الحل للمشاكل العالقة بين العراق والكويت يكمن في "تقدير أهمية العوامل الاقتصادية المشتركة بالنسبة للبلدين"، فكلاهما "مصدّر للنفط، ويشكل الاستقرار الاقتصادي عاملاً مهماً بعد جميع الأحداث المؤلمة التي مرت منذ أوائل التسعينيات حتى اليوم".
ويحذر في حديثه مع "ارفع صوتك"، من "استمرار حالة تأجيل المفاوضات فيما يتعلق بإطلالة العراق البحرية مع الكويت وإيران، التي يمكن أن تؤدي إلى خنق منافذ العراق البحرية وتعطيل دوره في الحركة الاقتصادية التي يروم أن يكون جزءاً مؤثراً فيها من خلال بناء ميناء الفاو الكبير".
ويجري العمل حالياً في العراق والكويت على بناء اثنين من أكبر الموانئ على ضفاف خور عبد الله في الدولتين، وهما ميناء الفاو الكبير بكلفة 6 مليارات دولار في العراقوالذي سيكون أول ميناء عراقي ذي منفذ إلى عرض البحر، وميناء مبارك في الكويت بكلفة 3.3 مليار دولار.
يؤكد جبّار على "أهمية التعاون بين البلدين لإنجاح المشروعين، بدلاً عن التنافس وخسارتهما لأرباح كبيرة تعود بالنفع الكبير على المنطقة"، وفق تعبيره.
ويبيّن أن "مكامن النفط الكبيرة المشتركة بين البلدين كانت جزءاً من المشاكل العالقة والاتهامات المتبادلة لسنوات طويلة، ويمكن إدراجها ضمن جدول المحادثات المقبلة واستثمارها بما يعود بالنفع للدولتين".

في المقابل، لا يبدو جمال الحلبوسي متفائلاً بجولة المفاوضات المرتقبة. فالعراق كما يقول "قدم الخرائط الموجودة لدى الجامعة العربية والخليج العربي، التي تم على أساسها وضع المخافر الحدودية بين البلدين، لكنها أُهملت خلال مفاوضات ترسيم الحدود في الأمم المتحدة بالقرار 833 وتقدمت الحدود باتجاه العراق 5-6 كيلو مترات مربعة".
ويعتبر أن الخلافات بين الطرفين "عميقة"، ولن تنتهي خلال المفاوضات المقبلة، "فالكويت تصف حدودها مع العراق بطريقة معينة تهدف إلى تحويل خور عبد الله إلى منطقة كويتية وخنق العراق بحرياً"
"بينما يفسر العراق حدوده مع الكويت تفسيراً يختلف عنها، فخور عبد الله هو منطقة عراقية موجودة في البصرة منذ تأسيسها في بداية العهد الإسلامي"، يضيف الحلبوسي.