الشيخ أحمد الوائلي واحد من أشهر الخطباء في العراق، لقب بعميد المنبر الحسيني. جمع بين الدراسة الحوزوية والأكاديمية وكان شاعراً وأديباً وباحثاً، أنشأ خطاً وعظياً خاصاً به دعا من خلاله إلى الاعتدال والتعايش السلمي بين مكونات العراق الدينية المختلفة.
نشأ الوائلي في بيئة وصفها في أحد اللقاءات التلفزيونية بأنها كانت "أقرب إلى النقاء من الفترات التي تلتها، بحكم بعدها عن الأفكار والمبادئ الوافدة والأدوات ووسائل التكنولوجيا".
كانت، على حد قوله، "من أثرى الفترات من الناحية الدينية"، من حيث "عدد فطاحل العلماء والخطباء في مدينة النجف. فكان كل شارع من شوارعها وكل درب هو معهد للغة والفقه والأصول".

يقول الخطيب علي الياسري لـ"ارفع صوتك" إن الوائلي منذ طفولته "كان عاشقا للكتب وللدراسة، ولم يكتف بالدرس الحوزي إنما انتقل إلى الدراسات الأكاديمية ودرس في النجف ثم انتهى إلى الدكتوراه في مصر، وهذه أعطته حصانة علمية كبيرة".
"لم يكن مطلعا على المذاهب الإسلامية جميعها، فحسب بل كان مطلعا على المذاهب الفكرية من رأسمالية واشتراكية وديمقراطية والفكر الإسلامي"، يقول الياسري.
ويضيف أن الشيخ الوائلي "حصل على شهرة كبيرة لاطلاعه الواسع فكان يناقش بالأدلة والمعرفة العلمية ولاعتداله، فكان محبوب من جميع المذاهب فهو جاء في زمن كان الانفتاح فيه أكبر بين المذاهب من الوقت الحالي".
بين الحوزة والجامعة
الدراسة التي تحدث عنها الياسري بدأت في سن مبكرة بالكتاتيب. ورغم تحفظ والده على انخراطه في الدراسة الابتدائية لرغبته بأن يركز ولده الوحيد على دروس الحوزة العلمية، إلا أن الطفل الوائلي أثبت جدارة في المدرستين واستمر فيهما معاً.
أكمل الابتدائية في مدرسة الأمير غازي، ثم أكمل الثانوية في ثانوية منتدى النشر فتخرج منها عام 1952. وأتم تعليمه الجامعي في كلية الفقه بجامعة بغداد، وحصل على الماجستير عن رسالته "أحكام السجون بين الشريعة والقانون".
سافر إلى القاهرة. وهناك حصل على شهادة الدكتوراه في العلوم الإسلامية من كلية دار العلوم عن أطروحته "استغلال الأجير وموقف الإسلام منه" سنة 1972م. وهي أول شهادة دكتوراه تمنح في وقتها إلى أول خطيب منبر من مدينة النجف ومن العراق.
أكمل الوائلي أبحاث الترقية العلمية لما بعد الدكتوراه دارساً علوم الاقتصاد ليحصل عام 1975 على أكثر من دبلوم في المجال، منها الدبلوم العالي من معهد الدراسات والبحوث العربية في العاصمة المصرية القاهرة.
تم تعيينه أستاذا للعلوم الإسلامية والاقتصاد الإسلامي، وباشر التدريس الأكاديمي الجامعي في تخصص علوم القرآن وتفسيره في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية بلندن، وأشرف على العديد من أبحاث التخرج ورسائل الماجستير والدكتوراه
الوائلي خطيبا
بدأ الوائلي ارتقاء المنبر للخطابة عندما كان في سن العشر سنوات، فقد كان يقرأ مقدمات الخطب قبل والده الشيخ حسون الوائلي.
توجه عقبها للتلمذة على الخطابة بشكل تام في الخمسينات على يدي الخطيب محمد علي القسام (1873-1954)، والخطيب محمد علي اليعقوبي (1896-1965).
بعد الانتهاء من الخطابة عند الشيخين، أخذ الوائلي يرتقي منبر الخطابة منفرداً وهو في سن السابعة عشرة فقرأ في النجف ثم تنقل في أغلب محافظات العراق ومنها العاصمة بغداد. ومنها توجه إلى الخطابة خارج العراق، وبدأ مجالسه الأولى في الكويت عام 1949. ثم تنقل بين الإمارات وقطر وعمان والبحرين، لتبدأ رحلته إلى لبنان وسوريا ثم إلى المملكة المتحدة.
كان انتقاله إلى الخطابة في الكويت مرحلة مفصلية في حياة الوائلي، كما يقول الخطيب على الياسري لـ"ارفع صوتك"، حيث "أصبح له جمهور كبير هناك. وأحيانا كان جابر الأحمد الصباح يحضر إلى مجلسه وكان له كرسي خاص فيه، وهو ما أثار فضول الناس لمعرفة هذه الشخصية المؤثرة والاستماع لها".
كان الوائلي من خلال تنقله في العالم العربي "يهدف إلى لملمة شتات الأمة والتعمق في الفكر الإسلامي لنجد بالنتيجة أنه لا فرق بين المذاهب، وهذا هو سر الشهرة الكبيرة التي نالها داخل وخارج العراق".
وترك أثراً اجتماعياً كبيراً من خلال "الابتعاد عن الطائفية والانتماءات الحزبية كما أنه كان متعمقاً في الدين والعلم والأدب وكان شاعراً متمرساً.. وكان يمتلك صوتاً فريداً من نوعه يملأ الأسماع إذا تحدث".
عميد المنبر
يقول الباحث المتخصص في الفكر الإسلامي كريم مظهر العميري لـ"ارفع صوتك" إن الوائلي "اجتمعت فيه من المؤهلات ما لم تجتمع بأي خطيب في عصره، فقد كان يمتلك المؤهلات العلمية بشقيها الأكاديمي والحوزوي في الوقت الذي يكتفي فيه الكثير من الخطباء بالمؤهلات الحوزوية فقط دون الدراسة الأكاديمية العلمية".
ويضيف أنه كان "شاعراً مفوهاً ولديه القدرة على نظم الشعر باللغتين العامية والفصحى". أما النقطة الأهم في شخصيته، فكانت "الاعتدال والتوازن في الخطاب، الذي يلقيه بصوت خطابي شجي جهوري". كل هذه المؤهلات "مكنته من التأثير في قلوب الناس".
حين كان العميري طالباً في الإعدادية، في سبعينات القرن الماضي، حضر بعض من خطب الوائلي التي كان يلقيها في مسجد الخلاني كما يروي لـ"ارفع صوتك".
"كان عدد الحاضرين بالآلاف ولم يكن المسجد يكفي لإعدادهم فكانوا يفترشون الطرقات ويصغون بانتباه تام لحديثه". هذا المنظر بحد ذاته: "كان مؤثر وله رهبة، أن ترى هذه الحشود متجمعة للاستماع إلى خطب ومواعظ الوائلي".
هذه الجموع الغفيرة "التي كانت تتجمع للاستماع له هي التي منحته لقب عميد المنبر الحسيني، فإذا كان حاضراً في مجلس فإن الجميع يستمع إليه حتى الخطباء الذين تأثروا بأسلوبه وطريقة طرحه".
ضد "الظواهر الدخيلة"
بحسب العميري فإن الشيخ الوائلي حارب ما كان يراه ظواهر دخيلة على "المذاهب الإسلامية.
يقول: "كان لديه كلام بالضد من بعض الظواهر التي اعتبرها دخيلة على الشعائر الحسينية، حتى إنه وصف من يقومون بها بأنهم كالنعاج واتهمهم بتشويه تلك الشعائر".
أصل الحكاية كما ينقلها الشيخ عادل الياسري أنه "انتشر عنه أنه في مرة انتقد قضية حدثت في لندن عندما حاول البعض ارتداء زي حيوان معين خلال الشعائر الحسينية، وكان الوائلي موجوداً وانتقد الحالة نقداً لاذعاً، هذا الأمر لم يرض هذه المجموعة لأنها كانت ترى أنها على حق ولم يقتنعوا برأيه، وبقي الكثير منهم يهاجمونه بسبب ذلك حتى الآن".
تعايش سلمي
يرى الأب مارتن هرمز أن الوائلي من خلال خطبه الوعظية "كان يحاول بناء منظومة أخلاقية تعتمد أساسا على الصدق والإيمان، بعيداً عن المسميات وعن هيكلية الأديان سواء كانت مسلمة أو مسيحية أو غيرها".
فالوائلي كان "يحاول دائما إنشاء إنسان صادق في إيمانه، وأن تكون هناك منظومة أخلاقية واضحة في نهاية الأمر لبناء مجتمع سليم تسوده الأخلاق الحميدة والمحبة والقدرة على التعايش بين أبناء المجتمع العراقي المتنوع".
نحن لا نشتم الصحابة في الحسينيات ،،
— 🔻 Bin M.Jumaah ,, (@snowdenq8) July 30, 2022
الشيخ احمد الوائلي (رحمه الله) pic.twitter.com/zyvGRgHN9v
ويتابع: "كان خطابه مثيرا للانتباه، فهو يركز على النضج الروحي للإنسان الفرد، وأن يكون لديه التزام تجاه القانون وتجاه الشريعة والفرائض دون التمسك بالشكليات والمظاهر فقط ". وهذا النوع من الخطاب" عابر لكل العقائد المختلفة وعابر للأديان لأنه يتناول موضوعة الإنسان في محيطه الاجتماعي ".
ضغوط سياسية وهجرة
في نهاية السبعينات، اشتدت الضغوط السياسية التي سببها نظام الحكم في العراق ليهاجر الوائلي العام 1979 إلى العاصمة السورية دمشق ويعيش فيها لـ24 سنة.
لم يزر الوائلي إيران طوال حياته خارج العراق إلا مرة واحدة في أواخر الستينيات أيام حكم الشاه، كما زار السعودية مرة واحدة لأداء مراسم الحج أوائل السبعينات.
واللافت في حياة الوائلي، كما يقول أستاذ التاريخ كريم مظهر العميري، أنه "رغم تركه العراق والتشديد عليه من قبل النظام البعثي الذي اعتقل ابنه البكر وأعدمه، إلا أن خطبه كانت تصل إلى العراق سراً عبر أشرطة الكاسيت فكان أشهر من بعض رجال الدين المتواجدين في العراق".
ورغم أن النظام أعدم ولده البكر وآخرين من أفراد أسرته "إلا أنه لم يتطرق في خطبه للنظام، بل إنه لم يتحدث عن السياسة في منبره" الوائلي برر ذلك، حسب العميري، بأن "المنبر الحسيني له خطاب خاص".
ما إن سقط نظام البعث عام 2003 حتى عاد الشيخ الوائلي إلى العراق وتوفي بعدها بعشرة أيام متأثراً بسرطان الجهاز الهضمي، وجرى تشييع مهيب لجنازته انطلاقاً من داره في مدينة الكاظمية ببغداد في 14 تموز العام 2003.
حجم الجنازة التي أقيمت في بغداد وباقي المحافظات كما يقول العميري: "تبين أهمية الوائلي وحب العراقيين له، ورغم الوضع الأمني الصعب رافقته الحشود إلى الحلة ثم إلى كربلاء والكوفة والنجف حتى دفن في مقبرته الخاصة داخل مرقد الصحابي المكيل بن زياد في منطقة الحنانة".
ورغم مرور سنوات على وفاته "إلا أننا نلاحظ أنه ما يزال موجوداً على الساحة العراقية من خلال إرثه الكبير الذي تركه، وصوته الذي ما يزال مسموعاً، ومكانته التي لم تتزحزح لأن خطابه حي ومعتدل ويقترب إلى الحكمة التي تصلح لكل زمان ومكان".