صورة أرشيفية لشط العرب في العراق- تعبيرية
صورة أرشيفية لشط العرب في العراق- تعبيرية

قررت المحكمة العراقية العليا، الاثنين الماضي، عدم دستورية اتفاقية خور عبد الله التي تنظم حركة الملاحة البحرية في الممر المائي الفاصل بين الكويت والعراق.

وبررت المحكمة قرارها "لمخالفة أحكام المادة (61/ رابعا) من دستور جمهورية العراق التي نصت على أن عملية المصادقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية تنظم بقانون يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب"، حسبما ذكرت وكالة الأنباء العراقية (واع).

هذا القرار، قد يعيد المشاكل الحدودية بين البلدين إلى الواجهة، وكانا تعهدا بتجاوزها مؤخرا، بعد التحسن التدريحي في العلاقات خلال السنوات الماضية.

معاناة العراق البحرية

بحسب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي اعتمدتها غالبية دول العالم مرجعاً لتصفية نزاعات الحدود البحرية، فإن حدود كل دولة تمتدُّ إلى 12 ميلاً بحريًا من بداية خطها الساحلي. وبعد هذه الحدود يُمكن للدولة أن تستغلَّ مساحات بحرية أخرى -ما لم يكن عليها نزاع مع دول أخرى للقيام ببعض الأنشطة الاقتصادية بها عُرفت باسم "المنطقة الاقتصادية الخالصة".

تطبيق هذه الاتفاقية على سواحل الخليج العربي جعل العراق الأكثر تضررا بينما كانت الامتيازات الأكبر من نصيب الكويت وإيران، بعدما تقاطعت حدودهما أمام حدود العراق البحرية الإقليمية حتى حاصرت الساحل العراقي وحرمته من امتلاك "منطقة اقتصادية خاصة".

وفي دراسة "الملاحة في خور عبدالله واتفاقية الإدارة المشتركة العراقية- الكويتية" لسوسن حمدان، يتضح أن العراق "لا يملك إطلالات بحرية كبيرة على الخليج العربي، فقط مساحة 36 ميلا بحريا في الوقت الذي تمتلك الكويت 125 ميلاً". وهو ما أوقع العراق في مأزقٍ كبير بسبب تضاؤل مساحة سواحله مقارنة بعدد سكانه الكبير وبما يمتلكه جيرانه من سواحل بحرية أطول. 

زاد من تعقيد المشكلة موقع العراق المُطلُّ على أقصى شمال الخليج العربي، وهي منطقة ضحلة معظمها غير صالح للملاحة ولا تمتلك الكثير من الثروات الحية وتتلقى الترسبات الوافدة من شط العرب.

لذلك، كان من الصعب إنشاء موانئ على طول الساحل العراقي إلا بعد تنفيذ عمليات واسعة لمعالجة الرواسب. ورغم القيام بها تظلُّ حركة السفن من وإلى العراق تعاني من ضحالة الماء واحتمالية تأثير دول الجوار عليها.

قالت الدراسة أيضاً: "تمر الخطوط الملاحية التجارية والنفطية العراقية ضمن البحار الإقليمية الخاصة بدولٍ أخرى مطلة على الخليج العربي، التي بات يمكنها تهديد الاقتصاد العراقي تحت أي ذريعة بحجة ممارسة ولايتها السيادية على خطوط السفن التي تمر عبر حدودها البحرية".

دراسة أخرى، للباحث عبدالقادر الأقرع عنوانها "الوضع القانوني لاتفاقية خورعبدالله"، تفيد أن  "مشكلة المنفذ المائي الأوحد للعراق حدثت بعد توقيع اتفاقية 1937 بين العراق وإيران لترسيم الحدود بينهما، وشهدت تنازل العراق عن مناطق كثيرة أدّت إلى خنقه بحرياً، ومع التهديد الإيراني المستمر للملاحة في شط العرب لم يعد أمام العراق إلا الملاحة عبر الخور".

أهمية "خور عبدالله"

خور عبدالله، مسطح مائي يمتدُّ بين جزيرتي وربة وبوبيان الكويتيتين وشبه جزيرة الفاو العراقية، ويبلغ اتساع مدخله 12 ميلاً بحريا ويمتدُّ لمسافة قدرها 40 كم تقريبا، ويعد الحدود الفاصلة بين العراق والكويت.

في مسعى قديم للسيطرة على الخور في عهد النظام البعثي الأسبق، سعت بغداد لتأجير الجزيرتين الكويتين بدعوى أنهما تكونتا بفِعل الترسبات الواردة من الضفة العراقية لشطِّ العرب إلا أن حكومة الكويت رفضت العرض.

ورغم كون الخور ضيّق المساحة وتنتشر في مائه المستنقعات، إلا أنه يحتل أهمية كبرى في العراق باعتباره المدخل الوحيد إلى موانئ أم قصر وخور الزبير، ما فرض على بغداد الحفر المستمر للقناة حتى تتمكن السفن الكبيرة من العبور إليها.

وفي بحثه "الأهمية الاقتصادية للملاحة البحرية لخور عبدالله"، أكد عدنان الحميدي، أن مياه العراق الإقليمية محاصرة بسلسلة هائلة من الرواسب التي تحجّم أعماق ومساحة القنوات الملاحية الصالحة كممرات بحرية، خاصةً في حالة الجَزْر.

 

الاتفاق: هل أضر بالعراق؟

في عام 1991، أصدر مجلس الأمن الدولي عدة قرارات تتعلّق بترسيم الحدود بين العراق والكويت عن طريق تقسيم الخور بينهما حتى يُتاح لكل دولة منفذ ملاحي مناسب على الماء.

لم يُمنح العراق أي ميزة تفضيلية عن الكويت رغم ضيق سواحله البحرية ومنافذه المائية ورغم كون هذه القناة هي وسيلة اتصاله البحرية الوحيدة بالعالم.

لاحقا زادت الطبيعة البحرية للمنطقة من متاعب بغداد إذ أن الجانب العراقي من الخور يعاني من كثرة ترسباته، بفعل اتجاهات التيارات البحرية التي تعمل لصالح الجانب الكويتي الذي يمتاز بعُمقه وصلاحيته لمرور أغلب أنواع السفن والبواخر. 

كما حذر بعض الباحثين من أن خط الحدود في الاتفاقية يتحرك باستمرار نحو العراق، ما يؤدي إلى تناقص منطقته البحرية، التي قد تتتلاشى في نهاية المطاف.

زاد من الأزمة إعلان الكويت إنشاء "ميناء مبارك" في جزيرة بوبيان. صحيح أن المشروع مقام على أرض الكويت ويخضع بالكامل لسيادتها، إلا أنه لم يراعِ مصلحة العراق لأنه قد يؤدي إلى سدِّ منفذه البحري الوحيد على الخليج.

ومنح اكتمال إنشاء الميناء الكويت إطلالة رسمية على القناة وحقاً في تقاسم إدارتها مع العراق، خطوة ردّت عليها العراق بإعلان إنشاء ميناء الفاو الكبير على الجانب العراقي من الخور.

في 2012 دخلت اتفاقية ترسيم الحدود حيّز التنفيذ عقب توقيعها من قِبَل وزير النقل العراقي هادي العامري، ووزير المواصلات الكويتي سالم الأذينة، ووافق عليها مجلس الوزراء ومجلس النواب ورئاسة الجمهورية وصدر القانون الخاص بها سنة 2013.

تقول سوسن حمدان في دراستها، إن الكويت "تنفّذ هذه الاتفاقية بصرامة وتتحسّب لأي محاولة عراقية لتجاوز حدودها البحرية ولو عبر مدنيين، كالصيادين الذين يضطرهم عملهم إلى عدم الالتزام بقواعد الجغرافيا والسياسة بحثاً عن الرزق بعيدًا عن منطقتهم المحلية غير العميقة وغير الجاذبة للأسماك، حيث كانت الكويت تحتجزهم بحجة دخولهم منطقتها الاقتصادية الخاصة". 

وفي أبريل 2022 اتّهم النائب العراقي علاء الحيدري، خفر السواحل الكويتي، باحتجاز الصيادين العراقيين وتعذيبهم بشكلٍ بشع أدى لوفاة أحدهم، الأمر الذي أثار غضب الكويت فاستدعت السفير العراقي لديها وسلّمته احتجاجا عليها.

وفي 2017 شكّل البرلمان العراقي لجنة للتحقيق في ملابسات توقيع اتفاقية ترسيم الحدود، انتهت إلى اعتبارها أنها "تسيء للسيادة العراقية"، وبتوصيات متعددة تدعو إلى إعادة النظر فيها مجدداً والتريّث في تطبيق بنودها.

 

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.