عرف العراق القديم العديد من الحضارات الإنسانية الراقية. قدمت تلك الحضارات الكثير من المنجزات المهمة. كما خلفت ورائها مئات الآلاف من القطع الآثارية المتفاوتة في الشكل والحجم. كيف تكونت تلك الثروة الأثرية في بلاد الرافدين؟ وكيف نُهب جزء كبير من تلك الثروة في القرون الماضية؟ وما هي المحاولات التي بذلتها الحكومة العراقية للحد من نهب واستنزاف ثروتها الأثرية؟
آثار العراق
تكونت الثروة الأثرية العراقية من خلال تعاقب العديد من الحضارات الكبرى. كانت الحضارة السومرية هي أولى تلك الحضارات. ظهر السومريون في الجزء الجنوبي من بلاد ما بين النهرين بدءاً من منتصف الألف الخامس قبل الميلاد. وبنوا العديد من المدن المتطورة في المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات في جنوب العراق. من أشهر تلك المدن كل من كيش، وأوروك، وأور، ولجش، وإيسن.
بعدها، ظهرت الحضارة البابلية العريقة التي قدمت للعالم قوانين حمورابي الشهيرة في القرن الثامن عشر قبل الميلاد. ثم ظهرت الحضارة الأشورية في شمالي العراق. وتمكنت من بسط نفوذها على مساحات واسعة من العالم القديم لقرون عدة، قبل أن يستعيد البابليون قوتهم مرة أخرى في القرن السادس قبل الميلاد. كان ذلك في عهد الملك الشهير نبوخذ نصر الثاني الذي ذاع صيته بسبب كل من مشاريعه العمرانية ومغامراته الحربية.
تركت كل حضارة من تلك الحضارات مئات الآلاف من الآثار. والتي عبرت عن ثقافتها وقوانينها وأفكارها في مجالات الأخلاق والحكم والدين. بشكل عام، يتواجد حالياً ما يزيد عن 20 ألف موقع أثري من تلك الحضارة موزعين في شتى جنبات بلاد الرافدين. كما يضم العراق 6 مواقع أثرية معلَنة على لائحة التراث الثقافي العالمي وهي قلعة أربيل والحضر وبوابة أشور وملوية سامراء وآثار بابل.

كيف نُهبت الآثار العراقية؟
تعرضت العديد من المواقع الآثارية العراقية للنهب والسرقة في القرون الماضية. يشرح أستاذ الفن والآثار القديمة في الجامعة المستنصرية، الدكتور محمد العبيدي كيفية وقوع هذا الأمر. فيقول إن "البعثات الأجنبية كانت تعمل بحرية كاملة في التنقيب في شتى مناطق العراق، لذلك استطاعت فرنسا وألمانيا وبريطانيا الاستحواذ على الكنوز الأثرية العراقية. وكان يتم نقلها إلى البلاد الأوروبية من خلال السفن بسهولة ويسر".
في هذا السياق، نُهبت العديد من القطع الأثرية العراقية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وحُملت إلى عواصم الدول الأوروبية. كان العثمانيون في تلك الفترة يحكمون العراق. وكانت علاقتهم الدبلوماسية الممتازة مع ألمانيا سبباً في السماح بإطلاق يد علماء الأثار الألمان -تحديداً- في استكشاف أطلال بابل القديمة. على سبيل المثال، في سنة 1902م قامت بعثة أثرية ألمانية بالعثور على بوابة عشتار التي بناها العاهل البابلي نبوخذ نصر في منتصف الألف الأول قبل الميلاد. قام الألمان بتفكيك البوابة قطعة قطعة. وقاموا بترقيمها ثم جمعوها ووضعوها في صناديق وأرسلوها إلى ألمانيا. فيما بعد، قام علماء الآثار الألمان بإعادة نصب البوابة. وعرضوها في متحف بيرغامون ببرلين. أما الحكومة العراقية فقد أكتفت ببناء مجسم مقلد لتلك البوابة إبان حكم الرئيس الأسبق صدام حسين.
زاد الاهتمام بالآثار -نسبياً- في الحقبة الملكية التي شهدها العراق في الربع الأول من القرن العشرين. وفي سنة 1923م خطى العراق خطوة مهمة في سبيل الحفاظ على آثاره. تم هذا عندما قامت عالمة الآثار البريطانية غيرترود بيل بجمع العديد من القطع الاثرية في مكان واحد، وهو المتحف الوطني العراقي ببغداد.
لم تمنع تلك الخطوة من تهريب العديد من القطع الآثارية خارج حدود بلاد الرافدين. حتى منتصف سبعينيات القرن العشرين كان العراق من بين عدد قليل من الدول التي لم تحظر التجارة الخارجية في الآثار. سمح ذلك بتحول العراق إلى سوق مفتوحة لجميع تجار الآثار القادمين من جميع أنحاء العالم.
من جهة أخرى، ألقت الأوضاع السياسية المضطربة في العراق بظلالها القاتمة على المواقع الآثارية في بلاد الرافدين. نُهبت العديد من تلك المواقع خلال حربي الخليج الأولى 1980- 1988م، وحرب الخليج الثانية 1990- 1991م. كذلك تعرضت الآثار العراقية لكارثة كبرى في سنة 2003م، أثناء الحرب بين نظام صدام حسين والجيش الأميركي. في العاشر من إبريل من تلك السنة، اُقتحم المتحف الوطني العراقي في بغداد من قِبل مجموعة من اللصوص. على مدار يومين، تم الاستيلاء على ما يقرب من 15 ألف قطعة أثرية من المتحف. اُعتبرت تلك الواقعة بحسب بعض المتخصصين "واحدة من أسوأ أعمال التخريب الثقافي في العصور الحديثة". وقتها، أعلن فريق خبراء تابع لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" أن عمليات نهب المواقع الأثرية والثقافية العراقية استهدفت القطع الثمينة وتركت ما دونها. وهو ما يشير إلى أن تلك العمليات قد خُطط لها بشكل دقيق ومنظم قُبيل تنفيذها.
من جهة أخرى، نُهبت العديد من المواقع الأثرية العراقية على يد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في فترة استيلائه على الموصل في الفترة 2014م- 2017م. على سبيل المثال، ذكرت بعض التقارير أن تنظيم "داعش" نقل القطع الآثارية التي وقعت تحت سيطرته في محافظة نينوى، والتي تضم 1750 موقعاً، إلى سوريا تمهيداً لبيعها لتجار الآثار. في سنة 2016م ذكر سفير روسيا لدى الأمم المتحدة أن الأرباح التي يجنيها التنظيم من هذه التجارة المحظورة بالآثار والكنوز الأثرية تقدر بما بين 150 و200 مليون دولار أميركي كل عام. بما يعني أن الاتجار بالآثار كان المصدر الثاني -بعد النفط- الذي اعتمد عليه تنظيم داعش في تمويل عملياته العسكرية في العراق.

محاولات للاستعادة
ألتفتت الدولة العراقية لضرورة وضع تشريعات صارمة للحد من ظاهرة نهب المواقع الآثارية في نهايات القرن العشرين. بعد طول دراسة، تم اصدار قانون الآثار والتراث رقم (55) لسنة 2001. ورد في المادة الثالثة من القانون "يُمنع مالك الأرض التي يوجد فيها الأثر والتراث والموقع التاريخي من التصرف المادي بها أو اجراء الحفر فيها أو تخريبها أو تغيير معالمها...". كما حددت المادة 38 من القانون عقوبة كل من لديه قطع أثرية ولم يسلمها للدولة خلال 30 يوماً بالسجن 10 سنوات والتعويض بضعفي القيمة المقدرة للآثار.
من جهة أخرى، بذلت الحكومات العراقية في السنوات الأخيرة جهوداً مضنية في سبيل استعادة آثارها المنهوبة. بدأت تلك الجهود في إبريل سنة 2013م عندما أجرت وزارة السياحة والآثار العراقية العديد من المفاوضات مع السلطات الألمانية بغية استعادة بوابة عشتار. لم تسفر تلك المفاوضات عن أي تقدم وتوقفت بعد عدة شهور. ولكنها فتحت الباب واسعاً أمام إجراء المزيد من المحادثات الدبلوماسية مع الجهات الأجنبية فيما بعد.
على سبيل المثال في يوليو 2021م، استعاد العراق 17 ألف قطعة أثرية من الولايات المتحدة الأمريكية. حُملت تلك القطع على متن نفس الطائرة التي أقلت رئيس الوزراء العراقي الأسبق مصطفى الكاظمي من واشنطن إلى بغداد، بعد زيارة رسمية الى واشنطن التقى فيها الرئيس الأميركي جو بايدن. في سبتمبر من السنة نفسها، أعلنت السلطات العراقية عودة "لوح جلجامش" التاريخي الذي يُقدر عمره ب 3500 عام إلى العراق بمساعدة الولايات المتحدة. وجرى تسليم اللوح خلال مؤتمر صحافي مشترك لوزيري الخارجية، والثقافة والسياحة والأثار. وقال وزير الثقافة خلال المؤتمر إن لوح جلجامش "له أهمية كبيرة لأنه من أقدم النصوص الأدبية في تاريخ العراق". كما أعتبر أن استعادة اللوح "رسالة لكل الذين هرّبوا أثارهم وتلاعبوا فيها وباعوها في المزادات العالمية، بان المآل الأخير سيكون استردادها".
تتابعت تلك الجهود في نوفمبر سنة 2021م، عندما كشف وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي عن قيام الولايات المتحدة بإصدار قانوناً يمنع ويجرم الإتجار بالآثار العراقية. وأشاد الوزير العراقي بالدعم الذي تلقته بغداد من وزارتي العدل والخارجية الأميركيتين بمواجهة عمليات التهريب والسرقة للآثار والمقتنيات العراقية.
في العام الحالي، خطت الحكومة العراقية خطوات مهمة في سبيل استعادة آثارها المنهوبة. بعدما أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية العراقية في مايو الماضي أن الجهود الدبلوماسية العراقية نجحت في إعادة أكثر من 34 ألف قطعة أثرية منذ العام 2019م. في الوقت نفسه، أعلنت سفارة العراق في لندن عن الوصول لاتفاق مع الحكومة الإنجليزية لاستعادة "6000 قطعة اثرية تمت استعارتها لأغراض الدراسة في عام 1923 لتعود إلى بغداد بعد عقود من الزمن". بعدها بشهر واحد، نجح الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد في استعادة لوح حجري عمره 2800 عام يضم نقوشاً مسمارية من إيطاليا. وقال وقتها إنه "سيعمل على استعادة جميع القطع الأثرية المتعلقة بالتاريخ العراقي من الخارج".