على الرغم من أن المجتمعات العربية قطعت أشواطاً متقدمة في مسار التحديث والعصرنة، وشيوع العمل المؤسسي المؤطر بالأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية، إلا أن "العشيرة" تظل وحدة اجتماعية وسياسية عصية على التجاوز، ومحدَّداً من محدّدات الهوية الفردية والجماعية، وشكلاً من أشكال الانتماء الذي لم تستطع الدولة الحديثة تجاوزه.
"داعش".. محاولات احتواء العشائر
في المرحلة التي أعقبت التدخل الأمريكي في العراق، كان واضحاً أن تنظيم القاعدة وجماعات أخرى قد أدركت الأهمية الحيوية التي ينطوي عليه استقطاب العشائر إلى صفوفها، فعندما أراد أسامة بن لادن حشد الدعم لمشروعه في العراق، ورفده بالمتطوعين من الخارج، حرص على توجيه ندائه للقبائل والعشائر العربية قائلا:" يا مغاوير الأزد أبطال عسير، ويا بهاليل حاشد ومدحج وبكيل، فليتواصل مددكم لتغيثوا إخوانكم في أرض الرافدين..".
تهميش العشائر العربية، واقصاؤها من العملية السياسية، قابله احتفاء بها من لدن جماعات التمرد، وفي مقدمتها تنظيم القاعدة، فآل هذا "المفتاح" المهم لأزمة العراق إلى يد الجهاديين في البداية، لكن مع نهايات عام 2006 أدركت العشائر أن جوهر مشروع تنظيم القاعدة قائم على توظيف المكونات العشائرية من أجل تحقيق غاياته الخاصة، دون أي اعتبار لخصوصية العشيرة ومكانتها التاريخية، وهي مكانة تتنافى كلياً مع "إمارة جهادية" تريد أن تكبل أعناق الجميع ببيعة إما أن ينقادوا لها أو تضرب رقابهم بالسيوف.
في يناير 2006 قرر ما يسمى "مجلس شورى المجاهدين" تهيئة الأرضية لما سيصبح لاحقا صيغة أولية لداعش، وفي مشهد طقوسي وثق فيه تنظيم القاعدة تحالفه مع بعض شيوخ العشائر، غمس رجال العشائر والتنظيم أيديهم في الطيب ورددوا جميعاً قسم الولاء، وأطلقوا على خطوتهم تلك "حلف المطيبين" في استحضار حرفي لنماذج تاريخية سابقة، أرادت من خلالها "القاعدة" اللعب على وتر القيم العشائرية الأصلية كالنجدة والفزعة والجوار وغيرها.
تأسس "حلف المطيبين" في يناير 2006 وبعد 5 أشهر تم الإعلان عن تنظيم "دولة العراق الإسلامية" ومن حينها أخذت متاعب العشائر مع المتطرفين بالتفاقم، وسرعان ما وصلت إلى نقطة القطيعة، رغم استمرار بعض العشائر لأسباب كثيرة في دعم القاعدة ثم داعش.
تأسيس تنظيم "دولة العراق الإسلامية" وضع العشائر العراقية أمام الابعاد الحقيقية لمشروع القاعدة في العراق. فالإمارة المعلنة ألغت السلطة الرمزية التي يتمتع بها شيوخ العشائر، ووضعتهم أمام خيارين: إما البيعة أو الفناء. ورأوا أن الأدوار التاريخية التي اضطلعوا بها في مجتمعاتهم آلت إلى شخصيات مجهولة وافدة، وتحولت هذه العشائر بالتالي من مكونات نافذة تحظى بالتقدير والإحترام إلى ملحقات تابعة لـ"دولة إسلامية" تقودها أسماء مستعارة.
جرائم المتطرفين بحق العشائر، وإصرارهم على إدخالها قسرا في مشاريعهم الخاصة ولّد حركة عشائرية مضادة سميت باسم "الصحوة"، أو "مجالس الإنقاذ"، وهي تجمعات عشائرية سنية تأسست أواخر 2006 في محافظة الأنبار غرب العراق التي تعد أكبر محافظة سنية في العراق، ومنها انطلقت الفكرة إلى محافظات أخرى مثل ديالى وصلاح الدين ونينوى. وكان هدفها الأساسي محاربة "تنظيم دولة العراق الإسلامية" وإخراجه من مناطقها. وقد حققت أهدافها ونجحت في إخراج المتطرفين من المحافظات التي احتلوها فانحازوا على إثر ذلك إلى هوامش المحافظات وأطرافها البعيدة.
تأسيس مجالس الصحوة كان بمثابة مفترق طرق بين داعش وبين أغلب العشائر العربية في العراق. وكان يمكن أن تكون تجربة ناجحة يُشَيد عليها ما سيأتي من جهود للقضاء على الإرهاب لولا الحسابات الطائفية لبعض رموز العملية السياسية في العراق، والتي أدت في النهاية إلى تهميش رجال الصحوة، والتنصل من وعود دمجهم في أسلاك الجيش والشرطة، فكانت عودة داعش بقوة في 2011 ونهجها نهجا دمويا اتجاه العشائر وكل من يقف في طريقها.
مقاومة البونمر
يتبنى تنظيم داعش خطابا مزدوجا بخصوص القبائل والعشائر في مناطق تواجده. فعندما توافق هذه العشائر على أجندته، وتمنح غطاءً له، وحاضنة اجتماعية لعناصره، يجري الاحتفاء بها باعتبارها عشائر وفية للقيم العربية الأصيلة، كقيم الجوار والنخوة والشجاعة والإيثار.. أما في حالة رفض العشيرة، وتمردها على توجيهات التنظيم الإرهابي، يتم استدعاء خطاب آخر يصم العشيرة بالفتنة والعنصرية، والنعرة "القبلية المنتنة" التي دعا الإسلام إلى تقويضها.
أصدر تنظيم داعش فور سيطرته على محافظات العراق وثيقة ملزمة أسماها "وثيقة المدينة" خاطب فيها ضمن من خاطب شيوخ العشائر، وحشر الجميع في خانة الرعايا الذين يجب عليهم السمع والطاعة، مستخدماً أسلوباً مهذّباً يعطي الفرصة أولاً لخيار الاحتواء والتوظيف، مثل: "عشائرنا الأصيلة وأهلنا وأحبابنا وعوائلنا" كما جاء في نص الوثيقة المكونة من 16 بنذا. ثم يأتي بعدها خيار الدم لمن خالف توجيهاته أو تحفظ عليها. وبعد إعلان ما يسمى "الخلافة" حرصت قيادة داعش على إنشاء مكتب للعلاقات العامة وشؤون العشائر، مهمته التواصل مع شيوخ العشائر ووضعهم أمام الأمر الواقع، ومحاولة استقطابهم إلى صفوفه ودخول مناطقهم دون قتال.
عشيرة الـ"بونمر" في العراق قررت على غرار عشائر أخرى التصدي لتمدد داعش في مناطقها، والتمرد على أجندته التوسعية. وتعد الـ"بونمر" من بطون قبيلة الدليم العربية القحطانية الممتدة على أجزاء واسعة من العراق وسورية، يتركز وجودها في منطقة الزوية ضمن قضاء هيت بالأنبار (180 كيلومترا غربي بغداد) ويقدر عدد أفرادها بحوالي نصف مليون شخص.
تمردت العشيرة على أحكام "الخلافة"، ورفض وجهاؤها بيعة البغدادي، وقاومت رغم ضعف الإمكانيات قوات داعش جيدة التسليح والتنظيم، فجاء قرار من داعش بتكفير رجال العشيرة بأعيانهم، واعتبارهم "طائفة ممتنعة بشوكة" ووجوب إبادتهم جميعا، و"إجراء أحكام المرتدين عليهم". ويشير رئيس مجلس محافظة الأنبار صباح الكرحوت حينها إلى أن عشيرة البونمر" ظلّت تقاوم على مدار أسبوعين، رافضة سيطرة داعش على مناطق تواجدها، لكن سيل الانتحاريين والصواريخ أدى إلى انهيار قوات العشيرة، ودخول عناصر داعش البلدة وانتقامهم من الجميع بلا استثناء، مقاتلين ومدنيين وحتى كبار السن".
على مدار الأيام التي تلت اقتحام مناطق الـ"بونمر"، نفذ التنظيم مجازر جماعية لم يستثن منها سوى بعض النساء والأطفال الصغار، وروى زعيم العشيرة الشيخ نعيم الكعود تفاصيل مروعة عن إبادة رجال عشيرته بعد جمعهم في الشوارع والساحات العامة، وطمر جثثهم في في الخنادق، ورمي أعداد كبيرة منها في نهر العاصي. وقال الكعود في تصريح لموقع bbc الإخباري بأن داعش قتلت حوالي 500 شخص من البونمر خلال 5 أيام من توغلها في مناطق العشيرة.
نكبة الشعيطات
تجمعت في المنطقة الشرقية في سوريا عوامل متعددة جعلت منها منطقة ملتهبة حتى قبل اندلاع الثورة السورية وتمدد تنظيم داعش إليها. فهي منطقة منفتحة على الحدود العراقية، وتضم خليطاً من العشائر، وحقولاً نفطية، وممرات تهريب وتجارة. ولم يكن غريبا بالتالي أن يضعها التنظيم على رأس أولوياته.
شهدت المنطقة الشرقية أولى المعارك بين داعش وبين فصائل المعارضة السورية مطلع عام 2014، وقد توزع ولاء العشائر حينها بين فصائل الجيش الحر وجماعات إسلامية وتنظيم داعش أيضاً. نجح الأخير في استقطاب مكونات عشائرية إلى جانبه، مستخدما أسلوب الترهيب والترغيب، وموظفا مخاوف العشائر الصغيرة من حرمانها من الموارد الاقتصادية، أو ارتهانها لعشائر كبيرة نافذة. فقد جاء في دراسة بعنوان "الدولة الاسلامية والعشائر العربية في شرق سوريا" ان من بين العوامل التي تفسر مبايعة العشائر لتنظيم داعش "الحماية والفوائد الاقتصادية"، إضافة الى "عامل الخوف الذي يتم استغلاله ببراعة من طرف التنظيم".
دار قتال عنيف بين بعض عشائر المنطقة الشرقية (دير الزور) وبين تنظيم داعش، وكانت أبرز العشائر التي قاتلت بشكل كبير، على مستوى فصائلها العسكرية وأبنائها عموماً، عشائر البوجامل والشعيطات والبوسرايا والبوحسن والقلعيين، بينما وقفت عشائر على الحياد وأخرى انحازت بشكل سري أو علني إلى داعش.
نجح المجهود الحربي للعشائر وبعض فصائل المعارضة في طرد تنظيم داعش من كامل منطقة دير الزور. لكنه استقدم تعزيزات ضخمة من العراق وكان قد سيطر لتوه على مدينة الموصل واستولى على مخازن الجيش العراقي، فاستمرت المعارك في دير الزور 6 شهر فرض خلالها التنظيم حصارا خانقا على المحافظة، ما اضطر بعض شيوخ العشائر في نهاية الأمر إلى فتح باب التفاوض معه، فكان الإعلان عن التوصل إلى اتفاق يقضي بدخول داعش إلى المنطقة، ونزع سلاح العشائر، وخضوع أفرادها " لدورات استتابة" مقابل العفو العام عنهم. بعض العشائر مثل الشعيطات فرضت بعضاً من شروطها مثل ضمان حصولها على عوائد اقتصادية من حقول النفط المتواجدة في مناطق نفوذها، وعدم فتح التنظيم مقرات دائمة فيها. وافق التنظيم على الشروط، لأنه بيت النية على التنصل من عهوده بمجرد اكتمال عملية نزع السلاح.
عبر شيوخ الشعيطات عن رفضهم لدوريات الحسبة التي تجوب مناطقهم، وتصدوا بقوة لدوريات داعش التي حاولت اعتقال أفراد من العشيرة، فاندلعت اشتباكات مسلحة بين الجانبين، أصدر خلالها التنظيم فتوى بتكفير قبيلة الشعيطات ووجوب إبادة من ينتمون إليها.
في 5 من اغسطس 2014، أعلن داعش مدينة أبو حمام منطقة عسكرية ودعا المدنيين إلى إخلائها. ثم بدأ بقصفها بالمدفعية وقذائف الهاون، وبعد خمسة أيام سيطر التنظيم بالكامل على المدينة، بالإضافة إلى قريتي غرانيج والكشكية المجاورتين. وبدأ حملة دموية وثق بعضاً من فصولها في إصداراته المرئية، إذ قام بذبح الآلاف من الرجال بدم بارد، وتشريد النساء والأطفال، في واحدة من أسوأ جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها التنظيم. ولم يتمكن المئات من أسر الضحايا من التعرف على جثث أحبائهم أو دفنها حتى اليوم.
رغم نكبتها المؤلمة، تستمر قبيلة الشعيطات في قتال تنظيم داعش، بشكل مستقل أو تحت لواء "قوات سوريا الديمقراطية"، وساهم رجالها في تحرير المنطقة الشرقية من احتلال التنظيم ومطاردة فلوله وخلاياه.

الترابين في سيناء
تعتبر الترابين أكبر قبيلة في شبه جزيرة سيناء وصحراء النقب قياسا إلى عدد أفرادها وحجم انتشارها، وتعد من أكبر قبائل البدو في مصر البالغ عددهم 2.6 مليون نسمة. وينتشر أبناء القبيلة في أنحاء متفرقة من مصر وفلسطين والأردن. نشط "تنظيم أنصار بيت المقدس" الذي تحول في نوفمبر 2014 إلى "ولاية سيناء" في مناطق نفوذ القبيلة، وكما حصل مع عشائر العراق وسوريا بدأت داعش في سيناء في استفزاز القبيلة عبر دوريات "الحسبة" مما عطل أنشطتها الاقتصادية المعتمدة أساساً على التجارة والتهريب، فدخلت في معارك متفرقة ومحدودة مع داعش لم تكن في الواقع مستعدة لها.
لكن لاحقا، حشدت القبيلة أفرادها وبدأت في شراء السلاح وسيارات الدفع الرباعي، وتدريب رجالها على خوض المعارك، وشرعت في تنسيق تحركاتها مع الجيش المصري. وفي منتصف 2015 تم الإعلان عن تشكيل "اتحاد قبائل سيناء" تحت قيادة قبيلة الترابين. فكان لها دور كبير في كتابة الفصل الأخير من قصة "ولاية سيناء".
في 14 من أبريل 2017 شهدت سيناء أعنف المواجهات بين داعش وقبيلة الترابين، استخدمت فيها أنواع مختلفة من الأسلحة، ولجأ التنظيم إلى تكتيك الانتحاريين، ففجر سيارة مفخخة في تجمع للقبيلة في منطقة البرث جنوب رفح، مما أدى إلى مقتل 10 من رجالها، وردت القبيلة بأعمال انتقامية وعمليات خطف وتصفيات لعناصر من داعش.
أخرج تنظيم داعش صك إدانته المعهود ضد القبيلة، واتهمها بالكفر والردة، لرفضها "أحكام الشريعة" وتعاونها مع الجيش المصري، وصنفها في خانة "طوائف الردة الممتنعة".
وفي ماي 2017 أوقفت القبيلة أعمالها التجارية، وركزت جهودها على تحرير مناطق سيناء من تواجد داعش، فيما يشبه إعلان حرب شاملة من جانبها، وأعلن المتحدث باسمها موسى الدلح: "نحن نعمل تحت مظلة الدولة وتحت قيادة قواتنا المسلحة ونحن جزء من الدولة المصرية وجزء لا يتجزأ من شعب مصر العظيم" ودعت الترابين في بيان لها قبائل سيناء إلى "التوحد للقضاء على داعش" مؤكدة أنه قد "حان الوقت للوقوف صفا واحدا أمام هذا التنظيم الفاشي الذي لا يرحم شيخاً ولا شاباً".
وخلال 6 سنوات انخرطت قبيلة الترابين بكل ثقلها في الحرب على داعش وكبدته خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، وتمكنت من دخول معاقله الرئيسية في العريش والشيخ زويد، وتحييد قياداته البارزة. وأظهرت مقاطع فيديو تسليم عشرات من أفراد التنظيم أنفسهم إلى مسلحي القبائل، وبعد انضمام قبائل أخرى مثل السواركة والرميلات إلى الحملة، تراجع نشاط داعش بشكل كبير إلى أن أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في يناير الماضي تطهير سيناء من إرهاب الدواعش.