لافتة طبعت عليها صورة الشاب الراحل صفاء السراي، أبرز نشطاء التظاهرات، إلى جانب أشهر عباراته
لافتة طبعت عليها صورة الشاب الراحل صفاء السراي، أبرز نشطاء التظاهرات، إلى جانب أشهر عباراته

في خريف 2019 خرج آلاف العراقيين في مظاهرات حاشدة، تمركزت في المدن الجنوبية ووسط العاصمة بغداد، يطالبون فيها بمحاسبة الفاسدين ومحاربة البطالة، التي سرعان ما تحوّلت إلى تغيير النظام السياسي الذي يحكم العراق منذ 2003، بما في ذلك إنهاء المحاصصة وتعيين حكومة تكنوقراط، في ثورة معلنة على الأحزاب التقليدية، والتبعيّة لإيران.

هذه الاحتجاجات حملت شعار "نريد وطن" في تعبير بسيط عن صعوبة الحياة في بلد يملك الكثير من الثروات، التي لا تنعكس على الحياة العامة والخدمات ومستويات الفقر والبطالة. 

وعلى الرغم من تمسّك المتظاهرين والنشطاء بسلمية التظاهرات، إلا أنهم لاقوا ردوداً عنيفة من الأجهزة الأمنية منذ اليوم الأول (1 أكتوبر)، الأمر الذي استمر أسبوعاً راح ضحيته حوالي 100 من المشاركين، في ما اعتُبر الموجة الأولى من الاحتجاجات، التي تجددت في الـ25 من الشهر نفسه، واتخذت بعدها زخماً واسعاً ومشاركة شعبية، لم تقتصر على فئة الشباب.

وحتى إعلان حظر التجوّل بسبب انتشار فيروس كورونا (آذار 2020)، كان لا يزال هناك العشرات من المتظاهرين الذين أصرّوا على الاحتجاج رغم الهدوء الذي طغى على الساحات، خصوصاً بعد استهداف العديد من النشطاء واضطرار الحيّ منهم إلى الفرار من بغداد والبصرة وغيرها، باتجاه إقليم كردستان.

ومنذ الأيام الأولى، شكلت أسماء ووجوه عديدة رموزاً لهذه الاحتجاجات، سواء لمشاركتها أو مواقفها الإنسانية والمؤثرة أو لشجاعتها، أو دعمها المتواصل للتظاهرات، خصوصاً أن أغلبهم قُتل أو تعرض للاغتيال خارج ساحات التظاهر، نذكر منهم:

 

دنيا بائعة المناديل

بعد انتشار فيديو لدنيا، وهي بائعة مناديل ورقية من بغداد، توزع المناديل مجاناً على المتظاهرين الذين تعرضوا للغاز المسيل للدموع، أبدى آلاف العراقيين في مواقع التواصل تعاطفاً كبيراً معها، ذلك أنها رغم حالتها البسيطة ورغم الخطر المحيط بها، آثرت أن تخفف عن هؤلاء الشباب بكل ما تملك، وهو مصدر رزقها.

ولأنها لم تتكلم خلال الفيديو، ساد اعتقاد بأنها بكماء، فأطلق عليها لقب "خرساء العراق"، ليتضح لاحقاً بعد أن التقى معها متظاهرون آخرون وصوروها، أنها تستطيع الكلام.

 

صفاء السراي

صفاء السراي، أو "ابن ثنوة" وصاحب العبارة التي أصبحت بعد مقتله من أشهر ما تغنّى به مناصروا الاحتجاجات والمشاركون فيها "محد يحب العراق بكدي" أي "لا أحد يحب العراق مثلي"، كان الضمير المستتر للتغطية الصحافية من قلب ساحات الاحتجاج للعالم الخارجي، وسط التضييق على وسائل الإعلام وملاحقة كل من يكشف عمليات القمع التي تجري داخل العراق، خصوصاً ساحة التحرير وسط بغداد.

درس علم الحاسوب، وكان شاعراً وموهوباً بالرسم، عرفته التظاهرات والاحتجاجات منذ سنة 2011، مرة ضد سوء الخدمات وأخرى ضد النظام وثالثة ضد المليشيات وموالاة إيران، حتى أنه ذهب لإحدى التظاهرات وحيداً وبقي وحده لساعات، فقط ليعبر عن رأيه ومعارضته السياسية، وتعرض مرات للاعتقال.

قتل صفاء أو كما يسميه رفاقه "صفاوي"، في الموجة الثانية من الاحتجاجات، يوم 28 أكتوبر 2018، عن عُمر 26 عاماً. وعلى الرغم من موته المبكر بالنسبة لعُمر الاحتجاجات، إلا أن اسمه ظلّ وقوداً محفزاً للشباب الثائر على تردّي الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في بلده، وصارت كلماته وصوره شعارات ولافتات يراها العراقيون في كل مكان.

أمجد الدهامات

برصاص سلاح كاتم للصوت، يوم 6 نوفمبر 2019، غاب صوت الناشط المدني البارز في احتجاجات العمارة بمحافظة ميسان، أمجد الدهامات، بعد أن كان عائداً لمنزله وعائلته المكونة من زوجته وأبنائه الأربعة: ولدان وبنتان، وأمّه وأبيه.

ولد أمجد في مدينة العمارة مركز محافظة ميسان جنوب شرق العراق، وعمل آخر سنوات حياته في التدريس، بعد أن كان منسقاً للمنظمات في مكتب محافظ ميسان، ومستشاراً لرئيس مجلس المحافظة لشؤون المنظمات.

قضى حياته العملية كلها بين الأدب وحقوق الإنسان والتدريب المدني في موضوعات عدة، أبرزها القيادة والتنمية البشرية وحقوق المرأة وحل النزاعات. كما كان عضواً في اتحادات داخل محافظة ميسان، مثل اتحاد الكتاب والموسيقيين وعدد من اللجان البيئية وحقوق الطفل والمياه والطوارئ وإزالة الألغام، وغيرها من المراكز الثقافية والمدنية الفاعلة داخل المحافظة.

وشارك أمجد في عدة فعاليات دولية وأممية داخل محافظة ميسان، تتعلق بمشاريع تنموية ونهضوية، وأخرى في مجال حقوق الإنسان ومتابعة شؤون النازحين، كان في بعضها مدرباً وبعضها الآخر مشاركاً ومنسقاً. 

وكتب أمجد في عدة وسائل إعلام محلية مقالات سياسية في معظمها، كان ينشرها على صفحته العامة أيضاً، آخرها في الأول من نوفمبر 2019، بعنوان "العراق: نظام رئاسي أم برلماني؟".

هذا التوسّع في نشاطه المدني داخل المحافظة، جعله معروفاً بين عشرات الشباب والنشطاء والحقوقيين والمؤسسات الدولية الفاعلة في ميسان، إذ ترك بصمة لدى الكثيرين، ومثل اغتياله صاعقة بالنسبة لهم.

حسين عادل وسارة طالب

نشط الزوجان حسين وسارة في التظاهرات التي شهدتها محافظة البصرة جنوب العراق. الرسام الكاريكاتيري حسين عادل شارك بقوة في التظاهرات بجانب زوجته التي انخرطت في المسيرات النسائية وفي جهود إسعاف المصابين.

تعرّض الزوجان لتهديدات بالقتل قبل عامٍ كامل من اغتيالهما فاضطرا للسفر إلى تركيا، لكنهما عادا بسبب ظروفهما المالية الصعبة.

وفي 2 أكتوبر 2019، وبعد عودتهما من إحدى التظاهرات، اقتحم مسلحون مجهولون منزلهما وقتلوهما رمياً بالرصاص، وكانت سارة حاملاً.

فور وقوع الجريمة نظّم عددٌ من النشاط المدنيين وقفات احتجاجية ضد اغتيال الزوجين أعربوا خلالها أن "سارة وحسين سيكونان مصدراً دائماً لإزعاج السُلطة".

 

زهراء علي سلمان

في مقابلة مع قناة محلية من بيت العزاء للقتيلة زهراء علي سلمان (19 عاماً)، قال والدها علي القصاب، إنها اختطفت قرب بيتهم، ودام اختطافها 8-10 ساعات قبل أن يُلقى بجثتها وتلفظ آخر نفس لها في المستشفى.

وقبل قتلها، تعرضت الطالبة زهراء للتعذيب من خلال الضرب بأدوات معدنية أدى لتكسير عظامها، بالإضافة للصعقات الكهربائية.

وكانت زهراء تشارك برفقة أبيها في التظاهرات، وأكد أنه تعرض للتهديد بسبب ذلك، لكن ما حدث معهم لم يكن متوقعاً أبداً بالنسبة له.

وزهراء هي الابنة الكبرى، لديها أخت وأخ أصغر منها، كانت تعيش معهم ووالديها، كما أنهم من أقلية الأكراد الفيليين التي تسكن بغداد.

إيهاب الوزني

عمل رئيساً للجنة التنسيقية للاحتجاجات في كربلاء، اغتاله مجهولون قُرب منزله في مايو 2021 مستهدفاً بمسدسات كاتمة للصوت.

أسفرت هذه العملية عن اندلاع تظاهرات احتجاجية عديدة في كربلاء والديوانية والناصرية كما تجمهر المحتجون أمام القنصلية الإيرانية في كربلاء، وأحرقوا أمامها إطارات وبعض الأكشاك الخشبية المنصوبة قرب المبنى.

قبل عامين من مقتله، نجا الوزني من عملية اغتيال مماثلة في ديسمبر 2019، حين أطلق مسلحون يمتطون درّاجات نارية الرصاص عليه لكنهم أخطأوه وقتلوا صديقه الناشط السياسي فاهم الطائي.

يأتي هذا التردّي الأمني رغم الإعلانات الحكومية المتكررة بالتعهد بالتوصل إلى القتلة ومحاسبتهم جنائياً، وهي الحالة التي انتقدها الوزني في خطابٍ وجّهه لرئيس الوزراء عبر صفحته قائلا "هل تعلم أنهم يخطفون ويقتلون أم أنك تعيش في بلد آخر غيرنا؟".

ريهام يعقوب

على الرغم من عدم حضورها اللافت في تظاهرات 2019، إلا أن صيت طالبة الدكتوراة والمدربة الرياضية صاحبة النادي الرياضي "Dr Fit" في البصرة، جعل منها أيقونة نسائية للاحتجاجات، بعد اغتيالها.

وكانت ريهام شاركت في احتجاجات عام 2018، ولاحقاً عرفت بنشاطها الصحي التوعوي الموجه لنساء البصرة، وقيادتها مجموعات ضمت عشرات النساء للمشي في شوارع المدينة، من أجل نشر ثقافة المشي والرياضة، التي لا تتعارض مع العادات والتقاليد الاجتماعية المحافِظة كما كانت تؤكد في مقابلاتها الإعلامية.

اغتيلت رهام (30 عاماً)،  في 19 أغسطس 2020،  برصاص مجهولين أثناء تواجدها في سيارتها. يقول أحد أفراد عائلتها لـ"ارفع صوتك": "كانت عائدة من الجيم (النادي الرياضي الذي تُديره) برفقة أختها وصديقتها، خارجة من شارع الجزائر باتجاه حيّ الرضا لإيصال صديقتها، أختها أصيبت في يدها بزجاج السيارة المتكسر، بينما أصابت رصاصة يد الدكتورة معها".

ثائر الطيب

في ديسمبر 2019 استُهدف المحامي والناشط الحقوقي بعبوة ناسفة قتلته بعد خروجه من ساحة التحرير في بغداد.

أسفر الحادث عن موجة غضب بين المتظاهرين دفعتهم لقطع الطرق الرئيسية والهجوم على مقرات لفصائل "عصائب أهل الحق" و"بدر" ومقر تيار الحكمة الشيعي.

هذه المرة كانت العاقبة مختلفة إذ نجحت قوات الأمن في تحديد قاتل ثائر، لم تصفح وزارة الداخلية عن هوية المجرم مكتفية بأول حرفين من اسمه (ك. ك)، إلا أن وسائل إعلام محلية أكدت أن اسمه هو كفاح الكريطي وكان يحمل لقب "أبو درع الديوانية"، الذي عمل قيادياً سابقاً في جماعة "سرايا السلام".

من جانبها، تبرأت الميليشيا الشيعية من "أبو درع" وأكدت عدم انتسابه له. وتم تقديمه للمحاكمة واعترف أمامها بتورطه في تنفيذ سلسلة اغتيالات لنشاطي تشرين فأصدرت حكمها عليه بالإعدام.

والد علي جاسب

في 8 أكتوبر 2019، اختطف المحامي علي جاسب (29 عاما)، في اليوم الثاني لمولد ابنه مرتضى، من مكان قرب جامع الراوي وسط مدينة العمارة في محافظة ميسان.

ومنذ ذلك الحين حتى العاشر من مارس 2021، واظب والده أحمد الهيلجي،  على المشاركة في كل تظاهرة واعتصام ودعم لأهالي المغيبين وقتلى التظاهرات، ليلقى حتفه في النهاية برصاص مجهولين، ما اعتبره النشطاء ومتابعو قضية ابنه المختطف اغتيالاً بسبب عدم استسلامه في المطالبة بمعرفة مصير ابنه.

ولغاية نشر هذا التقرير، بقي مصير المحامي الشاب مجهولاً، فلا دليل يؤكد مقتله ولا آخر يخبر أنه ما زال على قيد الحياة.

وفي مقابلة سابقة مع "ارفع صوتك"، قال والد علي، إن سبب خطف ابنه "مشاركته في التظاهرات في بداية أكتوبر الماضي، ثم تطوّعه مع مجموعة من المحامين للدفاع عن المعتقلين من المتظاهرين لدى السلطات العراقية، ونشره في صفحته على فيسبوك حول هذا الموضوع".

والدة مهند القيسي

الصوت الجريء والمطالب بحق ابنها ومحاكمة قاتليه، جعل من والدة الشاب مهند القيسي أيقونة عراقية للاحتجاجات، خصوصاً بعد استمرارها بالاعتصام والتعبير عن رأيها في مقابلات وفيديوهات رغم الحملات التحريضية ضدها في مواقع التواصل، خصوصاً من أتباع التيار الصدري وموالي زعيمه مقتدى الصدر.

وقتل مهند يوم 6 فبراير 2020 في الهجوم المسلح على خيم الاعتصام في النجف. وظهر قبل مقتله في مقابلة مصورة قال فيها: "دم الشهداء هو فقط ما يمثلنا.. مطالبنا واضحة تغيير النظام بصورة جذرية لأن النظام كلّه فاسد".

وكان آخر رسائله عبر "Stories" الإنستاغرام "أنا رايح الساحة ابرولي الذم"، في إشارة إلى أنه قد يتعرض للقتل.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

بدوي يرعى جماله في المناطق الصحراوية بين الأنبار وكربلاء عام في فبراير 2015 (صورة تعبيرية).
بدوي يرعى جماله في المناطق الصحراوية بين الأنبار وكربلاء عام في فبراير 2015 (صورة تعبيرية).

ترك كريم العتيبي حياة التنقل وتربية الإبل في بادية السماوة (مركز محافظة المثنى) جنوبي العراق، واستقر على بعد كيلومترات في مركز المدينة. مع ذلك فإن إرث أجداده البدوي ما يزال واضحاً في لهجته وزيه العربي الذي يرفض التخلي عنهما.

قبل مائة عام كان أجداد العتيبي يشدّون رحالهم ويتجهون صوب البادية دون أن تقف الحدود عقبة أمام مساعيهم نحو البحث عن العشب والماء، قبل أن يعودوا أدراجهم مع بداية موسم الأمطار في العراق، وفقا للعتيبي الذي تحدث لـ "ارفع صوتك".

ويضيف أن "البادية على وسعها بدأت تضيق بنا، فالجفاف ضرب المنطقة، أما من يعبر الحدود بين العراق والسعودية والكويت، فيلقى القبض عليه ويقدم تعهداً يقضي بعدم تكرار التجاوز، بعد أن كان أجدادنا يتنقلون بحرية بين هذه البلدان".

سفينة الصحراء وموجات الجفاف المتتالية في العراق.. عن أهمية الجمال في حياة البدو
"ليس حليب النوق وحده هو ما يجنيه البدوي من فائدته، فهو طوق نجاته في بحور الرمال العظيمة، ومصدر مأكله ومشربه وملبسه. فاللحم للغذاء والفراء للاستدفاء، والجلد لصناعة بعض الحاجيات، ومن وبره يصنع بيت شعره وخيمته، ويستخدم بعره كوقود بعد تيبسه، وبوله للتنظيف وكدواء ومادة لغسيل الشعر وقتل القمل"

وفقا لثائر الصوفي وهو أستاذ التاريخ المتقاعد في جامعة الموصل، فإن "حياة البدو تغيرت بشكل كبير، فلم يبق لديهم بادية نقية تتضمن قيما وتقاليد وطريقة عيش بالأسلوب الذي كانت عليه. البداية كانت مع محاولات التوطين الكثيرة للبدو خلال العهد العثماني، ثم مع احتلال الإنكليز للعراق، وأخيراً مع حكم عبد الكريم قاسم -أول رئيس وزراء عراقي في النظام الجمهوري- ومشروع الإصلاح الزراعي".

حينها كما يوضح الصوفي "منحت عشائر البدو الأراضي وحفر الآبار بهدف استقرارهم. كثير منهم وجد في حياة الاستقرار أسلوب حياة أفضل، مع توفر أرباح من الزراعة".

أما اليوم، فيتعرض مجتمع البدو في العراق إلى أسوأ حقبة في تاريخه لأسباب اقتصادية وسياسية وبيئية متنوعة. ويعاني أغلب البدو من الفقر والفاقة التي تسيطر على أغلب جوانب حياتهم" كما تقول دراسة بعنوان "التراث الثقافي اللامادي لبدو العراق" للباحث صلاح الجبوري.

 

أعدادهم في تناقص

 

وجود البدو في العراق ليس حديثاً، كما يشير أستاذ التاريخ في جامعة الموصل عامر الجميلي، بل أنه "قديم ومتجذر، وهناك وثائق تشير لوجودهم قبل خمسة قرون".

يقول الجميلي لـ"ارفع صوتك" إن "أهم قبيلتين بدويتين في المنطقة، هما شمر وعنزة، واستقرتا في مناطق واسعة من بوادي العراق الثلاث وهي الجزيرة والمثنى والأنبار، ضمن المناطق الحدودية مع سوريا والسعودية".

ويضيف أن "أعدادهم بدأت بالتناقص مع أول دعوة للتحديث والتحضر، التي اضطلع بها الشيخ عجيل الياور شيخ مشايخ شمر، أوائل القرن العشرين".

أما حالياً "فيصعب حصر تعدادهم السكاني" كما يقول أستاذ التاريخ ثائر الصوفي بسبب "ذوبان أغلب العشائر في النسيج الاجتماعي بالمناطق الحضرية والريفية".

نسبة البدو العراقيين تطرق إليها الباحث هاشم نعمة في دراسة بعنوان "نمو سكان المناطق الحضرية في العراق وآثاره الاجتماعية والاقتصادية".

وأشار فيها إلى أن "الارتقاء الاجتماعي السريع والعاصف في فترة وجيزة لا تزيد على بضعة عقود، أدى إلى اختفاء البدو تقريباً، فقد هبطت نسبتهم، من 35% من إجمالي السكان في القرن التاسع عشر، إلى 4% في عام 1957، ثم إلى 1% في ثمانينيات القرن العشرين. والآن من المرجح أن نسبتهم أقل من ذلك".

في المقابل أشارت دراسة الباحث صلاح الجبوري "التراث الثقافي اللامادي لبدو العراق" إلى "وجود 150 - 170 ألفا من البدو في العراق حالياً".

وفقا لكريم العتيبي، فإن بدو العراق ينقسمون اليوم إلى نوعين، الأول منهما، هو الذي استمر في تربية الإبل والعناية بها والتنقل مسافات طويلة إلى حيث الماء والعشب على طول البادية، أما الثاني فتحول إلى رعاية المواشي (الأغنام والماعز)، ولا تتطلب العناية بها التنقل لمسافات طويلة.

وأشار إلى أن "طبيعة العناية بالإبل والمواشي، اختلفت بشكل كبير خلال العقود الأخيرة، فأصبحنا نستخدم السيارات لنقلها وجلب المياه، ونصطحب معنا مولدات كهربائية ونشتري العلف، هذا كله أدى إلى زيادة التكاليف وقلة الأرباح، وبالتالي أصبح من الصعب الحفاظ على طرق العيش القديمة".

ويقول إن "جلب المياه بالسيارات، غير مجد للبدوي مربي الإبل، ولا يمكنه البقاء في المنطقة عندما يبذر الفلاحون الحنطة والشعير، لذلك يبقى بحاجة للدخول إلى عمق البادية من أجل حيواناته".

 

"الحروب" و "المناخ"

 

أسباب التراجع في أعداد البدو وحجم ما يمتلكونه من جمال ومواش لها أسباب عديدة، فالحروب لعبت كما يروي كريم العتيبي لـ "ارفع صوتك" طدوراً في تقليص قدرة البدو في التنقل مع حيواناتهم".

ويقول إن "أكبر المخاوف بدأت مع مخلفات الحرب التي كانت تنفجر على البدو فيتكبدون خسائر بشرية وتموت حيواناتهم، فاضطروا إلى تغيير طرقهم ومناطق رعيهم مع كل حرب جديدة يخوضها العراق".

يقول أستاذ التاريخ ثائر الصوفي إن "أوضاع البدو المالية تدهورت مع حلول الألفية الجديدة، حين بدأت كميات الأمطار المتساقطة بالتراجع، ومعها أصبحت الأراضي جرداء والعشب يقل يوماً بعد يوم".

ويضيف أن "بادية الجزيرة التي كانت تسمى بسلة العراق الغذائية، لم تعد كذلك بسبب الجفاف، وبالتالي ازدادت البطالة وتخلى الكثير من البدو عن حيواناتهم وسكنوا القرى وساد الفقر بينهم. اضطر بعضهم إلى العمل في التهريب والبعض الآخر انتمى للجماعات الإرهابية في سبيل البقاء حياً".

ويتابع الصوفي: "ذلك الانتماء لم يكن واسعاً، وانتهى سريعاً مع سيطرة الدولة على المناطق التي اجتاحتها تلك الجماعات، فيما تقلصت عمليات التهريب بعد أن عززت السلطات الأمنية مسكها للحدود".

 

"العادات والتقاليد"

 

لا تتعلق التغيرات التي طرأت على المجتمع البدوي في العراق على تعدادهم السكاني فحسب، بل تأثرت أيضا الكثير من "العادات والتقاليد" وطرق العيش التي كانت سائدة.

أهمها بيوت الشَعر التي كانت واحدة من أهم أنواع التراث الإنساني للبدو، فلم يعد هؤلاء ممن يعيشون في القرى والمدن يسكنون فيها.

يقول محمد ناصر الذي ترك حياة البداوة وتوجه للوظيفة الحكومية في المدن: "يبني البدو بيوتاً من الطوب للعيش، أما البدو من مربي الإبل فلديهم بيت قائم ثابت تعيش فيه العائلة في أيام توفر العشب بالقرب من المدن، وفي رحلة الصيف إلى عمق البادية يصطحبون نصف أفراد العائلة للرعي وهناك يستخدمون بيوت الشعر".

ويضيف: "حتى بيوت الشعر تغيرت، فسابقا كانت تصنع من شعر الماعز المقاوم للظروف الجوية، الذي يمنع تسرب الماء في الشتاء ويسمح بدخول الهواء في الصيف. أما حالياً فتتوفر المواد والأقمشة في الأسواق، وقليلاً ما يتم نسج بيت الشعر من قبل البدويات".

ويتابع ناصر: "في السابق، من النادر أن نجد بدوياً يتدرج في الدراسة، لما تتطلبه من استقرار مكاني، أما حالياً، فبفضل الاستقرار في القرى والمدن دخل أبناء البدو إلى المدارس وتخرجوا من الجامعات وتدرجوا في السلم الوظيفي. كثير منهم يفضل الانتساب للقوات الأمنية لما توفره من رواتب مستقرة ومجزية".

ويشير إلى أن "الكثير من تقاليد الحياة البدوية تأثرت، فالصيد الذي كان أجدادنا يتباهون به خلال جلسات السمر في المصايف حين تدور دلال القهوة بين الحاضرين، أصبح اليوم محدوداً".

وحتى سبعينيات القرن العشرين كما يقول أستاذ التاريخ ثائر الصوفي "كان البدو يتنقلون في البادية على الجمال والخيول، لكن مع دخول السيارات إلى حياتهم تركوا الخيل للصحراء لتتحول إلى حيوانات برية، أما في الوقت الحالي، فمن يمتلك الخيل منهم يكون لأسباب الترف".

ويؤكد أن "حياة البدو بمعناها القديم أو كما نقرأ عنها في الكتب والمصادر التي كتبت في النصف الأول من القرن العشرين، لم تعد موجودة إلا في النادر جداً، مع ذلك، فإن البدوي العراقي، مهما ترك البادية واستقر، فإنه يعود إليها في حنين شديد، ويستمر في الحفاظ على تقاليدها من كرم الضيافة والنخوة".