في الرابع من أكتوبر 1982 توفي الرئيس العراقي الرابع بعد الاستقلال أحمد حسن البكر، الذي استقال خلال ولايته عام 1979 لـ"أسباب صحية"، وسلّم السلطة لنائبه صدّام حسين، بعد أن "بنى (مع صدّام) الدولة المركزية المستبدة في الفترة بين 1968 و1978"، على ما يقول كمال ديب في كتابه "موجز تاريخ العراق".
والبكر كما يتفق معظم الباحثين في التاريخ السياسي العراقي، كان شخصية أساسية في حكم العراق لأكثر من عقد، ولعب عهده دوراً رئيسياً في تثبيت حكم حزب البعث للبلاد، والتأسيس للحكم الحديدي والدموي المديد لصدّام حسين من بعده.
ولد البكر عام 1914 في مدينة تكريت بمحافظة صلاح الدين شمالي بغداد، وهو قريب لصدّام حسين من جهة أمه.
أنهى دراسته في تكريت، وتخرج ليعمل معلماً في مدرسة لستة أعوام قبل التحاقه بالكلية العسكرية سنة 1938، ليتخرج منها ضابطاً برتبة ملازم، ويبدأ منذ ذلك الحين مسيرة عسكرية حافلة بمحاولات الانقلاب، من حركة رشيد عالي الكيلاني الفاشلة ضد النفوذ البريطاني في الأربعينيات، إلى مساهمته في الإنقلاب الذي أطاح بالملكية في العراق سنة 1958، مروراً بدوره في انقلاب 1963 الذي أطاح بحكومة عبد الكريم قاسم العسكرية، وانتهاء بانقلاب 1968 الذي أمّن سيطرة تامة لحزب البعث على السلطة في العراق.
يقول ديب، وهو خبير لبناني كندي في السياسة والاقتصاد لشؤون الشرق الأوسط: "ابتدأ البكر في الجيش العراقي باكراً حتى وصل إلى مراتب عليا، فشارك في ثورة ١٩٥٨ والحركات الانقلابية بعد ذلك. وعام ١٩٦٨ قبل نصيحة خير الله طلفاح وعيّن صدام المسؤول الأول بعده، على أساس أن الدم أثخن من العقيدة" (أي ان صلة القربى أفضل من ولاء القادة البعثيين الآخرين)".
ويضيف أن للبكر "دوراً في إدخال الضباط التكريتيين إلى المناصب الحساسة في الدولة".
وفي كتابه "العراق تاريخ سياسي من الاستقلال إلى الاحتلال"، يحكي عضيد داويشه، عن دور البكر الأساسي في التخطيط للانقلاب البعثي والاستيلاء على السلطة.
يقول: "جرى الانقلاب في السابع عشر من تموز، وقام به بعض الضباط العسكريين المخضرمين الذين كان لديهم خبرة في الانقلابات والتخطيط لها منذ الخمسينيات، ومن أقدم هؤلاء كان أحمد حسن البكر، الذي شارك في انقلاب ١٩٦٣ وجرى إقصاؤه، وبعد إحالته إلى التقاعد، أصبح السكرتير العام للقيادة القطرية في حزب البعث الذي كان يعمل بصورة سرية".
"وقام البكر بالتخطيط للاستيلاء على السلطة في السنتين الأخيرتين من عهد (الرئيس عبد الرحمن) عارف اللتين تميزتا بضعف السلطة المركزية والصراع بين الضباط"، بحسب داويشه.

وإلى جانب البكر في تلك الفترة، يتابع داويشه، كان صدام حسين الذي يصفه بأنه "شاب ذو طموح جامح وقاسي القلب"، الرجل الثاني في البعث بعد البكر في عمر لم يتجاوز الواحد والثلاثين.
يتابع في الكتاب نفسه: "على الرغم من أن صدّام لم يستلم الرئاسة إلا في عام 1979 وعلى الرغم من أنه بعد عام 1968 كان يشير بالأمور إلى الرئيس البكر، وكان يظهر متشاوراً مع القيادات العليا في الحزب، إلا أنه كان في الحقيقة، ومنذ بداية الحقبة البعثية، هو الرهان البعثي الأكثر ثقة في الاستيلاء على السلطة السياسية".
وبالفعل، في بداية عهد البكر، وتحديداً في 27 يناير 1969، افتتح صدّام حسين، بمباركة من البكر، "عهد الإرهاب"، كما يسمّيه حازم صاغية في كتابه "بعث العراق: سلطة صدّام قياماً وحطاماً"، عبر إعدام 14 شخصاً بينهم تسعة يهود بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، في ساحة عامة في بغداد وتركهم معلقين على المشانق ودعوة الناس إلى التقاطر بالآلاف لرؤية الجثث المتأرجحة".
ويصف صاغية هذا العهد بأنه "تأسيسي لتحكيم الغرائز وتحريرها من الروادع، أخلاقية كانت أم مؤسسية وقانونية".
وفي يوم المشانق ذاك، خطب البكر في الجماهير، ونقلت كلمته الطويلة عبر التلفزيون، التي وعد فيها بـ"ضرب الطابور الخامس بيد من حديد وباستئصال الجواسيس".
يرى باحثون في التاريخ السياسي، بينهم ديب، أن البكر "ظُلم لجهة عدم إنصافه تاريخياً، وأن صدّام سرق منه الأضواء"، معتبراً أن "بناء الدولة المركزية المستبدة في الفترة منذ ١٩٦٨ إلى ١٩٧٨ على أيد بعثية بقيادة أحمد حسن البكر وصدام حسين، كان لها الأثر التاريخي الكبير على تاريخ العراق الحديث".
ويرى أنه "مهما قيل سلباً في هذه الحقبة، ليس هناك أدنى شك أن هذه المرحلة كانت أيضاً العصر الذهبي لدولة العراق في القرن العشرين، إذ أعطت الشعب الكثير من الخدمات والتقديمات وأوصلت العراق إلى مراحل متقدمة في الصناعة والثروة والعلم والبنى التحتية، وأصبح العراق دولة إقليمية يهابها جيرانها".
يستدرك ديب القول، إن "النقص كان يتمثل بالطبع بوجود نظام ديمقراطي وصحافة حرة، وهما عنصران هامان أدى غيابهما إلى سقوط هذه الدولة لعدم استقرارها".

بعد ما يزيد على عقد من تربّعه على كرسي الرئاسة العراقية، تنازل أحمد حسن البكر عن السلطة "لأسباب صحية" كما جاء في التبرير البعثي الرسمي لعملية انتقال السلطة منه إلى نائبه صدّام حسين.
ولا يمكن الجزم، بحسب داويشه "بخصوص ما لو كان البكر قد تنحى طواعية أو أن نائبه أجبره. إلا أن هنالك حركة سياسية ابتدأها البكر وكانت تشكّل قلقاً كبيراً لصدّام حسين"، وهذه الحركة كانت قد بدأت قبل عام، مع قرار النظامين البعثيين المتعاديين في العراق وسوريا "تجاوز خلافاتهما والسعي نحو الوحدة".
يبيّن داويشه أن اقتراب تنفيذ هذا الاتفاق كان يعني، في حال تطبيقه "أن صدام حسين سيبقى نائباً للرئيس، لكن في هذه المرة للرئيس السوري حافظ الأسد، الذي كان أكبر منه سناً وأكثر دراية، وهو شخص كان في حينها معروفاً عربياً أكثر من صدام حسين".
مصطفى الكاظمي، رئيس الحكومة العراقية السابق، يشير في كتابه "مسألة العراق- المصالحة بين الماضي والمستقبل"، إلى "مؤامرة" دبّرها صدّام حسين وبدأ بها رئاسته "ولم يُكشف عن أسرارها إلى اليوم، عندما أجبر رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر على التنحي عن مسؤولياته لأسباب صحية".
إلى التساؤلات حول "مؤامرة" إقالته، تحضر فرضيات عن قتله ببطء. عن هذه الفرضيات يقول صاغية: "في بلد ترد أخباره على شكل شائعات، ذُكر الكثير عن استقالة البكر من الرئاسة في حزيران/ يونيو ١٩٧٩ وحلول صدام فيها، بوصفها إقالة لا يرقى إليها الشك".
وينقل صاغية أن حسين كامل (صهر صدّام الذي تمرّد عليه)، كان لاحقاً قد اتهم صدّام "بتسميم البكر تسميماً بطيئاً"، لافتاً إلى أنه لا يستطيع تأكيد الفرضية القائلة بتسميم البكر وقتله، لكن "المؤكّد أنه (صدام) انتزع منه (البكر) بالتدريج صلاحياته، لا سيما الإمساك بالجيش، وأبقاه أشبه بأسير في قصره".