أغلقت إدارة المتحف الألماني "بيرغامون" في العاصمة برلين، أمس الاثنين، القسم (ب) منه، ليصبح مغلقاً بشكل كامل أمام الزوار، بعد أن أغلق القسم (أ) والجناح الشمالي منه عام 2013.
وقالت إن إغلاقه "خطوة ضرورية حتى يمكن الاستمرار في أعمال التجديد الرئيسية للمبنى كجزء من الخطة الرئيسية للمتحف على النحو المنشود، وسيعاد افتتاحه في ربيع عام 2027"، بينما يتوقع أن يكون المتحف مفتوحاً الكامل في عام 2037.
وتتمثل أهمية متحف "بيرغامون" في احتوائه على العشرات من القطع الأثرية المهمة والقيّمة، بينها بوابة عشتار. فماذا نعرف عنها؟
من هي عشتار؟
عرف العراقيون القدماء عبادة العديد من الآلهة المؤنثة، وصنعوا لهن الكثير من التماثيل مختلفة الشكل والحجم. يذكر الباحث السوري فراس السواح في كتابه "موسوعة تاريخ الأديان"، أن الإلهة عشتار كانت واحدة من أعظمهن على الإطلاق.
بدأت عبادة عشتار في العصر السومري، وكان مركز عبادتها في مدينة أوروك التي تقع على مسافة 30 كيلو متر تقريباً شرقي السماوة في جنوب العراق.
في كتابه "تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية"، يقول الباحث الروماني ميرسيا إلياد، إن عشتار كانت "أحد أضلاع مثلث الآلهة الكوكبية الذي شاعت عبادته في تلك الأزمنة. وكان هذا المثلث يتكون من الإله نانا إله القمر، والإله أوتو إله الشمس، وعشتار ربة النجم فينوس/ الزهرة".
يمكن القول إن: الصفة المميزة للإلهة عشتار كانت التركيب الشديد في شخصيتها وتعددية جوانبها. يشرح السواح: "من الواضح أن عدة أنواع مختلفة أصلاً من الآلهة كانت مندمجة فيها... وكان يجري تصورها في العادة فتاة شابة قوية الشكيمة ومتحكمة إلى حد ما، وفي سن الزواج أو بصورة أخرى عروساً صغيرة...".
من الملامح المميزة لعبادة عشتار، أنها ارتبطت بشكل وثيق بطقوس ما يُعرف باسم "البغاء/ الجنس المقدس".
في كتابه "لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة"، يُعرف السواح "البغاء المقدس" بأنه "ممارسة الجنس بين أطراف لا يجمعهم رابط شخصي، ولا تحركهم دوافع محددة تتعلق بالتوق الفردي لشخص بعينه، أو تتعلق بالإنجاب وتكوين الأسرة، هو ممارسة جنسية مكرسة لمنبع الطاقة الكونية مستسلمة له، منفعلة به، ذائبة فيه، كالأنهار التي تصدر من المحيط وإلى المحيط تعود. وكانت عشتار هي البغيَّ المقدسة الأولى؛ لأنها مركز الطاقة الجنسية الشاملة التي لا ترتبط بموضوعٍ محدد. وليس انغماسها في الفعل الجنسي الدائم إلا تعبيراً، على مستوى الأسطورة، عن نشاط تلك الطاقة الذي لا يهدأ؛ لأن في سكونه هموداً لعالم الحياة...".
يعتقد الكثير من الباحثين أن تلك الطقوس كانت تتم في المعبد المكرس لعبادة عشتار بمدينة أوروك، ويستدلون على ذلك بالنقوش الكثيرة التي وجدت على سقوف هذا المعبد، التي تظهر أوضاعا جنسية متنوعة، بين الرجال والنساء.
ورد في النصوص الأثرية المنسوبة إلى عشتار أيضاً ما يؤيد هذا الاعتقاد، حيث جاء على لسانها "أنا العاهرة الحنون" و"أنا مَن يدفع الرجل إلى المرأة، ويدفع المرأة إلى الرجل".
"من المهم هنا أن نفهم أن تلك الطقوس كانت تتم بالاتساق مع نظرة الإنسان القديم إلى الطبيعة والكون"، بحسب ما يذكر عالم الأنثروبولوجيا الإسكتلندي جيمس فريزر في كتابه "الغصن الذهبي".
وأوضح أن المجتمعات القديمة "اعتقدت بوجود اتصال مباشر بين الطقوس التي يؤديها البشر من جهة، وسيرورة الحياة من جهة أخرى. ثم كان من الطبيعي أن تعمل المجتمعات الزراعية على ممارسة بعض الطقوس الجنسية الاحتفالية كنوع من أنواع تنشيط خصوبة التربة والأرض. ومن هنا أخذت عشتار مكانتها في بلاد الرافدين قديماً باعتبارها ربة الحياة والخصوبة والنماء".
بوابة عشتار
لا نعرف على وجه التحديد الوقت الذي بُنيت فيه بوابة عشتار للمرة الأولى، ولكن من المعروف أن الملك البابلي الأشهر نبوخذنصر الثاني قام بإعادة بنائها وتجديدها في سنة 575 ق.م تقريباً.
في تلك الفترة، وضعت البوابة على واحد من المداخل الثمانية المعروفة لمدينة بابل القديمة. واعتبرها العديد من المؤرخين واحدة من أهم وأعظم عجائب الدنيا السبع. قبل أن تُستبدل في وقت لاحق بمنارة الإسكندرية.
بحسب ما ورد في موسوعة "تاريخ العالم"، فإن البوابة نُسبت إلى الإلهة عشتار لأنها كُرست لعبادتها، وقام الفنانون العراقيون القدماء بتزيين جدرانها برسم صور عديدة للحيوانات المقدسة، مثل الأسد الذي يرمز لعشتار. والثور الذي يرمز لإله الطقس "أدد"، والتنين الذي يرمز للإله مردوخ، إله بابل القومي وكبير الآلهة.
كُسيت البوابة بكاملها بالمرمر الأزرق والرخام الأبيض والقرميد الملون. كما أُضيفت لها الأبواب المُغطاة بالنحاس، وثُبتت فيها أيضاً مغاليق ومفاصل مصنوعة من مادة البرونز، وبلغ ارتفاعها ما يقرب من 30 متراً، وامتدت على طول 48 متراً.
وحملت البوابة لوح تكريس ذكر فيه نبوخذ نصر سبب تشييده لتلك القطعة الأثرية الرائعة. مما جاء في هذا اللوح: "أنا نبوخذ نصر، ملك بابل، الأمير الوفي الذي اختارته إرادة مردوخ، كبير الأمراء الفخيمين، حبيب نابو، المستشار الحكيم (اللبيب)، الذي تعلم اعتناق الحكمة، وأدرك وجودهما الإلهي وبجّل عظمتهما، الحاكم المُثابر، الذي يعتني دومًا -من كل قلبه- بالطقوس والذي يهتم دومًا برفاهية بابل...بعد أن مُلئ الطريق من بابل، أصبح مدخلا بوابتي إيمكور إنليل ونيميتي إنليل منخفضين أكثر عن مستوى الشارع، لذلك هدمتُ البوابتين وثبّتُّ أساسيهما عند مستوى المياه الجوفية بالطابوق والأسفلت وبنيتهما بالطابوق والحجر الأزرق الذي صوِّرت عليه الثيران والتنانين الرائعة. غطيتُ سطحيهما طولياً بخشب الأرز العظيم وعلّقت بوابات من الأرز المزيّن بالبرونز على كل فتحات البوابة. ووضعتُ ثيران برية وتنانين ضارية في البوابات فزينتها بالأبهة الباذخة لكي يتطلع إليها الناس متعجبين...".
مع مرور القرون، اختفت بوابة عشتار وسط أطنان من التراب. وظلت متوارية عن الأنظار حتى بدايات القرن العشرين.
في الفترة الواقعة بين (1899- 1902)، قام عالم الآثار الألماني روبرت يوهان كولدواي بالتنقيب عن خرائب مدينة بابل القديمة، وتمكن عندئذ من العثور على بوابة عشتار. وقام باستخراج قطع البوابة في مدة تجاوزت ستة أشهر.
كيف وصلت برلين؟
حتى منتصف سبعينيات القرن العشرين، كان العراق من بين عدد قليل من الدول التي لم تحظر التجارة الخارجية في الآثار، وسمح ذلك بتحول العراق إلى سوق مفتوحة لجميع تجار الآثار القادمين من جميع أنحاء العالم، كما سمح بنقل الآثار العراقية إلى الخارج بكل سهولة ويُسر.
يشرح أستاذ الفن والآثار القديمة في الجامعة المستنصرية، الدكتور محمد العبيدي: "البعثات الأجنبية كانت تعمل بحرية كاملة في التنقيب في شتى مناطق العراق. لذلك تمكنت كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا من الاستحواذ على الكنوز الأثرية العراقية، وكان يتم نقلها إلى البلاد الأوروبية من خلال السفن".
في هذا السياق، نُهبت العديد من القطع الأثرية العراقية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وحُملت إلى عواصم الدول الأوروبية.
كان العثمانيون في تلك الفترة يحكمون العراق، وكانت علاقتهم الدبلوماسية الممتازة مع ألمانيا سبباً في السماح بإطلاق يد الآثاريين الألمان -تحديداً- في استكشاف أطلال بابل القديمة.
في تلك الظروف، قام الألمان بتفكيك بوابة عشتار قطعة قطعة بعد أن تم اكتشافها. ورقمّوها ثم جمعوها ووضعوها في صناديق وأرسلوها بحراً إلى ألمانيا. فيما بعد، قام الآثاريون الألمان بإعادة نصب جزء كبير من البوابة. وعرضوها في متحف بيرغامون ببرلين في سنة 1930.
أما باقي قطع البوابة التي نُقلت إلى ألمانيا، فقد ظلت حبيسة في مخازن المُتحف. من الجدير بالذكر، أن الأهالي القريبين من مدينة بابل استخدموا بعض قطع البوابة في بناء منازلهم. كما أن بعض أجزاء البوابة وجدت طريقها لعدد من المتاحف حول العالم، ومنها متحف إسطنبول للآثار، ومعهد ديترويت للفن، ومتحف أونتاريو الملكي، واللوفر، ومتحف ميونخ للفن المصري، ومتحف المتروبوليتان للفنون بنيويورك، والمعهد الشرقي بشيكاغو.
على الجانب الآخر، حاول النظام البعثي أن يستفيد من الزخم التراثي المرتبط ببوابة عشتار، حيث أمر الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين ببناء مجسم مقلد لتلك البوابة في مدينة بابل القديمة، وأعلن عن إقامة مهرجان تراثي بالقرب منه بعنوان "من نبوخذ نصر إلى صدام حسين: بابل تنهض من جديد".
بعد سقوط النظام، بدأت أصوات عراقية تنادي باستعادة البوابة. ففي أبريل 2013، أجرت وزارة السياحة والآثار العراقية العديد من المفاوضات مع السلطات الألمانية بغية استعادة بوابة عشتار، لم تسفر عن أي تقدم، وتوقفت بعد عدة شهور دون نتيجة تُذكر.