نجحت الحكومة العراقية بشكل لافت في بناء علاقات خارجية مستقرة بفضل ميلها إلى خلق توازن في العلاقات مع الولايات المتحدة من جهة ودول الخليج وإيران من جهة أخرى. لكن، مع الاضطرابات التي تشهدها المنطقة يعتقد مختصون أن بغداد ستواجه صعوبة في الحفاظ على هذا النهج.
ويأتي ارتباك المشهد السياسي في العراق على خلفية الحرب الدائرة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، وما أعقبها من هجمات شنتها مليشيات عراقية على القواعد الأميركية في العراق.
استمدت الحكومة العراقية، كما يقول الخبير الأمني سرمد الطائي، قدرتها على خلق حالة التوازن خلال العام الماضي مع الفصائل المسلحة كونها "حكومة تم ترشيح رئيس وزرائها من قبل الإطار التنسيقي وهو الأقرب إلى الفصائل العراقية، وربما يكون هناك من الفصائل من هو مشترك تماما بالإطار التنسيقي والعملية السياسية".
"هذا الأمر سهل على حكومة السوداني خلق حالة من التعاون والتوازن بين الفصائل وبقية الدول خاصة الولايات المتحدة الأميركية، ودون أن يبتعد عن المحور الآخر، الذي يشمل روسيا وقطر وغيرها من الدول"، يضيف الطائي لـ"ارفع صوتك".
ويرى أن التطورات في غزة "قد تفرض واقعاً آخر خاصة بعد استهداف قطعات التحالف الدولي والولايات المتحدة الموجودة في العراق، وهي إشكالية يمكن للحكومة تجاوزها إذا التزمت جميع الأطراف باتفاقية الإطار الإستراتيجي".
اتفاقية الإطار الإستراتيجي: تم توقيعها بين العراق وأميركا في نوفمبر 2008. تضمنت تنظيم وجود القوات الأميركية وتعزيز التعاون بين البلدين في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية.
"قطب موازن"
يقول أستاذ العلاقات الدولية محمد دحام إن العراق "كتب له كموقع إستراتيجي حدودي أن يكون القطب الموازن ضمن الصراعات في المنطقة، لكن ذلك تغير بعد تغير الخارطة السياسية نتيجة لأحداث السابع من أكتوبر".
ويوضح لـ"ارفع صوتك": "يبدو من الصعب على الحكومة التي شكلتها قوى الإطار التنسيقي، المحافظة على التوازن والحياد الذي تمكنت منه، بين المصالح الأميركية مقابل مصالحها مع الجارة الشرقية إيران".
ويتابع دحام: "عدم القدرة على المحافظة على التوازن تشير إليه خطابات رئاسة الوزراء التي تميل إلى احتسابه قرب محور المقاومة، وفي ظل التزامه باتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة الأميركية أصبح من الصعب عليه البقاء على الحياد".
ويضيف أن "الواقع يشير إلى أن العراق سيكون عليه إما التقاطع مع الولايات المتحدة، أو مع إيران والفصائل المرتبطة بها فيما يخص القضية الفلسطينية وهو عكس الاتجاه الأميركي الداعم بقوة لإسرائيل".
والسؤال الذي يطرح هنا، يتعلق بمدى قدرة العراق على تحمل كلفة عدم البقاء على الحياد في ظل الأوضاع المتوترة في المنطقة، وهو ما أجاب عليه دحام بالقول، إن العراق "لو كان صاحب القرار بالتأكيد سيستمر ضمن نطاق الحياد بين جميع الأطراف، لكن التدخل الإيراني في صنع القرار سيميل به إلى الاتجاه ناحية طهران والمحور الذي ترتبط به".
"وهو ما سيخلق أعباء اقتصادية وسياسية من الحكومة الأميركية بسبب عدم التزامه (العراق) بالاتفاقية الأمنية واتفاقية التحالف الدولي"، يؤكد دحام.
ويشير إلى أن "التكهنات تسير باتجاه توسع رقعة أحداث غزة إلى دول الجوار، وإذا حدث ذلك فبكل تأكيد ستنسحب الأحداث إلى أربع دول هي لبنان وسوريا واليمن والعراق".
ونتيجة لذلك "ستحصل خروقات أمنية أكبر من التي تم ملاحظتها سابقاً من تعرضات لقاعدة عين الأسد والقاعدة الأميركية في أربيل. وهنا سيكون على الحكومة العراقية الالتزام باتفاقياتها ومسؤولياتها في حماية السفارة والقواعد الأميركية"، بحسب دحام.
تداعيات اقتصادية
رغم أن الحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السوداني، تمكنت من التغلب على تحديات الدخول في علاقات سياسية متوازنة إلى حد كبير، إلا أن المشهد الاقتصادي بقي مرتبكاً بسبب الضغوط الأميركية والعقوبات التي فرضت على 19 مصرفاً عراقياً متهماً بتهريب الدولار الأميركي إلى دول فرضت عليها واشنطن عقوبات اقتصادية في مقدمتها إيران.
بالنتيجة، برزت أزمة أسعار الصرف في العراق لتغطي على أي نجاح يمكن تحقيقه في السياسة الخارجية للبلد، بعد أن ثبت عدم قدرة الحكومة والبنك المركزي على التعامل معها رغم الوعود الرسمية وطلب رئيس الوزراء من العراقيين عدم التخلي عن الدينار العراقي لأنه الأقوى.
يقول أستاذ الإدارة المالية في جامعة أوروك، ضياء المحسن، إن عد تحقيق الحكومة لوعودها سببه "سوء إدارتها والبنك المركزي لملف أسعار الصرف في العراق".
يوضح لـ"ارفع صوتك": "حين اتخذت الحكومة العراقية برئاسة مصطفى الكاظمي قرارها برفع أسعار الصرف عام 2020، كان لدينا اعتراض قوي لأنه سيسهم في رفع نسب التضخم ويزيد من معاناة المواطن البسيط، الذي يعمل بأجور يومية أو من لا يمتلك سوى راتبه، وهذه الفئات انخفضت قوتها الشرائية بنسبة 30%، ورافق رفع أسعار الصرف تلك أزمة كورونا ثم الحرب بين روسيا وأوكرانيا وزادت من التداعيات السلبية على المواطنين".
"لكن الخطأ أصبح مركباً بعد أن قامت حكومة السوداني بالاستجابة لضغوط الشارع والكتل السياسية بخفض سعر الصرف، كونه أعطى رسائل خاطئة إلى المستثمرين والعالم الخارجي بأن القرار المالي في العراق متذبذب، بالتالي، لدينا سوء إدارة خطير في العراق"، يتابع المحسن.
ويرى أن "على الحكومة العراقية بدل التخبط في قرارات أسعار الصرف، أن تعالج المشكلة الأساسية في البنك المركزي، المتمثلة في خروج ما بين 60-70 مليار دولار سنوياً مقابل استيرادات لا تتجاوز 35 مليار دولار دون أن نعرف إلى أين يتوجه الفرق بين الرقمين"، بحسب تعبيره.
تهريب العملة
المشكلة الأساسية في العراق اليوم كما يقول المحسن، تتعلق بـ"وجود تهريب للعملة إلى دول ترفض الولايات المتحدة وصول الدولار إليها، وهناك التفاف على العملية من قبل البنك المركزي".
ويبين أن المركزي العراقي "سمح للتجار بمهلة زمنية تصل إلى ستة أشهر لجلب الوثائق الخاصة بالاستيراد، دون ضمان يتعلق بمصداقية تلك الوثائق. وفي حين فرضت الولايات المتحدة عقوبات على 19 مصرفاً، إلا أن المبيعات لم تتراجع والسبب في ذلك دخول مصارف بديلة أصبحت هي المزود للمصارف المُعاقبة".
بحسب المحسن، يعني هذا أن "تهريب العملة لا يزال مستمراً تدعمه الكتل السياسية والمافيات وغيرها، ناهيك عن التهريب النقدي للدولار، فهو يخرج في حقائب عبر الحدود حيث يبيع البنك المركزي نحو 30 مليون دولار نقداً يومياً بحجة البيع للمسافرين وهو مبلغ كبير جداً".
بالنتيجة "يحصل المستفيدون على أرباح خيالية من بقاء أوضاع أسعار الصرف على ما هي عليه"، يقول المحسن.
في الوقت نفسه، يقترح المحسن حلاً لهذه الأزمة، وهو "تحويل التجارة إلى العملات المحلية مع الدول التي فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات مثل إيران وروسيا ولبنان وبعض الشركات التركية والإماراتية"، مستدركاً أنها "خطوة بدأ بها السوداني من خلال طرح موضوع مقايضة الغاز بالنفط الخام والنفط الأسود".
يضيف "من الممكن أن تعمل هذه الآلية مع عدد آخر من الدول مثل الهند والصين وكوريا وغيرها لتعطي أريحية بالتعاملات المالية".
فجوة أسعار الصرف
التوازن في العلاقات الاقتصادية بين إيران والولايات المتحدة يبدو حتى هذه اللحظة بعيد المنال، فالفيدرالي الأميركي يطلب من العراق الامتثال لمنع تهريب الدولار إلى الدول المعاقبة اقتصادياً فيما تتبادل بغداد وطهران علاقات اقتصادية متشابكة.
يستورد العراق الغاز من إيران لتوليد الطاقة الكهربائية، وهو في قائمة الشركاء التجاريين الأهم بالنسبة لطهران، مع ذلك ترغب الولايات المتحدة من بغداد تقليل أو تصفير تلك العلاقة.
يلخص أستاذ الاقتصاد في جامعة المعقل بالبصرة، نبيل المرسومي، الإشكالية التي يواجهها العراق اليوم "بالفجوة بين سعر الصرف الرسمي والموازي التي بلغت 20%"، وهي كما يقول لـ"ارفع صوتك"، أكبر بكثير من المستويات العالمية المتعارف عليها التي تبلغ نحو 2% فقط، وذلك على الرغم من الإصلاحات التي قام بها البنك المركزي لتحسين امتثال المصارف للتعامل مع متطلبات المنصة الإلكتروني في البنك المركزي العراقي والبنك الفدرالي الأميركي.
وترتبط الفجوة بسببين مهمين بحسب المرسومي، "الأول منع التحويلات المالية عبر القنوات المصرفية للدول المعاقبة من الولايات المتحدة في مقدمتها إيران، ما أدى إلى تمويل التجارة معها من خلال شراء الدولار من السوق الموازي ثم تهريبه إلى إيران، والثاني، الطلب الكبير من المسافرين العراقيين إلى إيران للدولار من السوق الموازية، لأن تعليمات البنك المركزي لا تسمح لهم بشراء الدولار بالسعر الرسمي. وهو طلب كبير لأن المسافرين العراقيين إلى إيران يشكلون 55% من إجمالي السياح الأجانب في إيران".
ويشير المرسومي إلى أن العراقيين "أنفقوا في إيران نحو 3.4 مليارات دولار العام الماضي، فيما تجاوزت الصادرات الإيرانية غير النفطية عشرة مليارات دولار".
وحتى يستقر سعر الصرف العراقي "فإننا بحاجة إما إلى إلغاء العقوبات الأميركية على إيران، أو قطع استيرادات العراق من إيران ومنع السفر إليها، وهو ما تسعى إليه الولايات المتحدة بسبب الأهمية الكبيرة للعراق في الإستراتيجية الاقتصادية الأميركية"، يوضح المرسومي.
ويؤكد أن "كلا الأمرين يحتاج إلى مفاوض عراقي قوي قادر على تحقيق التوازن بين الرغبات الأميركية وحاجة السوق العراقية المحلية إلى التعامل مع إيران".