Iraqi Prime Minister Mohammed Shia al-Sudani meets with U.S. Secretary of State Antony Blinken, in Baghdad
صورة من لقاء رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن

نجحت الحكومة العراقية بشكل لافت في بناء علاقات خارجية مستقرة بفضل ميلها إلى خلق توازن في العلاقات مع الولايات المتحدة من جهة ودول الخليج وإيران من جهة أخرى. لكن، مع الاضطرابات التي تشهدها المنطقة يعتقد مختصون أن بغداد ستواجه صعوبة في الحفاظ على هذا النهج.

ويأتي ارتباك المشهد السياسي في العراق على خلفية الحرب الدائرة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، وما أعقبها من هجمات شنتها مليشيات عراقية على القواعد الأميركية في العراق.

القوات الأميركية وحلفاؤها في سوريا والعراق تعرضت لنحو 14 هجوما منذ 17 أكتوبر - صورة أرشيفية.
تحذيرات و"نوايا خبيثة".. أبعاد تصاعد الهجمات ضد القوات الأميركية بالعراق
منذ السابع عشر من أكتوبر الماضي لم تهدأ هجمات الميليشيات المدعومة من إيران ضد مناطق انتشار القوات الأميركية، سواء في القواعد الموجودة بالعراق أو في شمال وشرق سوريا، وتشير سلسلة تحذيرات وتقارير لوسائل إعلام عربية إلى أن المنحى التصاعدي "يهدد بحدوث مواجهة بين واشنطن وطهران".

استمدت الحكومة العراقية، كما يقول الخبير الأمني سرمد الطائي، قدرتها على خلق حالة التوازن خلال العام الماضي مع الفصائل المسلحة كونها "حكومة تم ترشيح رئيس وزرائها من قبل الإطار التنسيقي وهو الأقرب إلى الفصائل العراقية، وربما يكون هناك من الفصائل من هو مشترك تماما بالإطار التنسيقي والعملية السياسية".

"هذا الأمر سهل على حكومة السوداني خلق حالة من التعاون والتوازن بين الفصائل وبقية الدول خاصة الولايات المتحدة الأميركية، ودون أن يبتعد عن المحور الآخر، الذي يشمل روسيا وقطر وغيرها من الدول"، يضيف الطائي لـ"ارفع صوتك".

ويرى أن التطورات في غزة "قد تفرض واقعاً آخر خاصة بعد استهداف قطعات التحالف الدولي والولايات المتحدة الموجودة في العراق، وهي إشكالية يمكن للحكومة تجاوزها إذا التزمت جميع الأطراف باتفاقية الإطار الإستراتيجي".

اتفاقية الإطار الإستراتيجي: تم توقيعها بين العراق وأميركا في نوفمبر 2008. تضمنت تنظيم وجود القوات الأميركية وتعزيز التعاون بين البلدين في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية.

 

"قطب موازن"

يقول أستاذ العلاقات الدولية محمد دحام إن العراق "كتب له كموقع إستراتيجي حدودي أن يكون القطب الموازن ضمن الصراعات في المنطقة، لكن ذلك تغير بعد تغير الخارطة السياسية نتيجة لأحداث السابع من أكتوبر".

ويوضح لـ"ارفع صوتك": "يبدو من الصعب على الحكومة التي شكلتها قوى الإطار التنسيقي، المحافظة على التوازن والحياد الذي تمكنت منه، بين المصالح الأميركية مقابل مصالحها مع الجارة الشرقية إيران".

ويتابع دحام: "عدم القدرة على المحافظة على التوازن تشير إليه خطابات رئاسة الوزراء التي تميل إلى احتسابه قرب محور المقاومة، وفي ظل التزامه باتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة الأميركية أصبح من الصعب عليه البقاء على الحياد".

ويضيف أن "الواقع يشير إلى أن العراق سيكون عليه إما التقاطع مع الولايات المتحدة، أو مع إيران والفصائل المرتبطة بها فيما يخص القضية الفلسطينية وهو عكس الاتجاه الأميركي الداعم بقوة لإسرائيل".

والسؤال الذي يطرح هنا، يتعلق بمدى قدرة العراق على تحمل كلفة عدم البقاء على الحياد في ظل الأوضاع المتوترة في المنطقة، وهو ما أجاب عليه دحام بالقول، إن العراق "لو كان صاحب القرار بالتأكيد سيستمر ضمن نطاق الحياد بين جميع الأطراف، لكن التدخل الإيراني في صنع القرار سيميل به إلى الاتجاه ناحية طهران والمحور الذي ترتبط به".

"وهو ما سيخلق أعباء اقتصادية وسياسية من الحكومة الأميركية بسبب عدم التزامه (العراق) بالاتفاقية الأمنية واتفاقية التحالف الدولي"، يؤكد دحام.

ويشير إلى أن "التكهنات تسير باتجاه توسع رقعة أحداث غزة إلى دول الجوار، وإذا حدث ذلك فبكل تأكيد ستنسحب الأحداث إلى أربع دول هي لبنان وسوريا واليمن والعراق".

ونتيجة لذلك "ستحصل خروقات أمنية أكبر من التي تم ملاحظتها سابقاً من تعرضات لقاعدة عين الأسد والقاعدة الأميركية في أربيل. وهنا سيكون على الحكومة العراقية الالتزام باتفاقياتها ومسؤولياتها في حماية السفارة والقواعد الأميركية"، بحسب دحام.

 

تداعيات اقتصادية

رغم أن الحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السوداني، تمكنت من التغلب على تحديات الدخول في علاقات سياسية متوازنة إلى حد كبير، إلا أن المشهد الاقتصادي بقي مرتبكاً بسبب الضغوط الأميركية والعقوبات التي فرضت على 19 مصرفاً عراقياً متهماً بتهريب الدولار الأميركي إلى دول فرضت عليها واشنطن عقوبات اقتصادية في مقدمتها إيران.

بالنتيجة، برزت أزمة أسعار الصرف في العراق لتغطي على أي نجاح يمكن تحقيقه في السياسة الخارجية للبلد، بعد أن ثبت عدم قدرة الحكومة والبنك المركزي على التعامل معها رغم الوعود الرسمية وطلب رئيس الوزراء من العراقيين عدم التخلي عن الدينار العراقي لأنه الأقوى.

يقول أستاذ الإدارة المالية في جامعة أوروك، ضياء المحسن، إن عد تحقيق الحكومة لوعودها سببه  "سوء إدارتها والبنك المركزي لملف أسعار الصرف في العراق".

يوضح لـ"ارفع صوتك": "حين اتخذت الحكومة العراقية برئاسة مصطفى الكاظمي قرارها برفع أسعار الصرف عام 2020، كان لدينا اعتراض قوي لأنه سيسهم في رفع نسب التضخم ويزيد من معاناة المواطن البسيط، الذي يعمل بأجور يومية أو من لا يمتلك سوى راتبه، وهذه الفئات انخفضت قوتها الشرائية بنسبة 30%، ورافق رفع أسعار الصرف تلك أزمة كورونا ثم الحرب بين روسيا وأوكرانيا وزادت من التداعيات السلبية على المواطنين".

"لكن الخطأ أصبح مركباً بعد أن قامت حكومة السوداني بالاستجابة لضغوط الشارع والكتل السياسية بخفض سعر الصرف، كونه أعطى رسائل خاطئة إلى المستثمرين والعالم الخارجي بأن القرار المالي في العراق متذبذب، بالتالي، لدينا سوء إدارة خطير في العراق"، يتابع المحسن.

ويرى أن "على الحكومة العراقية بدل التخبط في قرارات أسعار الصرف، أن تعالج المشكلة الأساسية في البنك المركزي، المتمثلة في خروج ما بين 60-70 مليار دولار سنوياً مقابل استيرادات لا تتجاوز 35 مليار دولار دون أن نعرف إلى أين يتوجه الفرق بين الرقمين"، بحسب تعبيره.

 

تهريب العملة

المشكلة الأساسية في العراق اليوم كما يقول المحسن، تتعلق بـ"وجود تهريب للعملة إلى دول ترفض الولايات المتحدة وصول الدولار إليها، وهناك التفاف على العملية من قبل البنك المركزي".

ويبين أن المركزي العراقي "سمح للتجار بمهلة زمنية تصل إلى ستة أشهر لجلب الوثائق الخاصة بالاستيراد، دون ضمان يتعلق بمصداقية تلك الوثائق. وفي حين فرضت الولايات المتحدة عقوبات على 19 مصرفاً، إلا أن المبيعات لم تتراجع والسبب في ذلك دخول مصارف بديلة أصبحت هي المزود للمصارف المُعاقبة".

بحسب المحسن، يعني هذا أن "تهريب العملة لا يزال مستمراً تدعمه الكتل السياسية والمافيات وغيرها، ناهيك عن التهريب النقدي للدولار، فهو يخرج في حقائب عبر الحدود حيث يبيع البنك المركزي نحو 30 مليون دولار نقداً يومياً بحجة البيع للمسافرين وهو مبلغ كبير جداً".

بالنتيجة "يحصل المستفيدون على أرباح خيالية من بقاء أوضاع أسعار الصرف على ما هي عليه"، يقول المحسن.

في الوقت نفسه، يقترح المحسن حلاً لهذه الأزمة، وهو "تحويل التجارة إلى العملات المحلية مع الدول التي فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات مثل إيران وروسيا ولبنان وبعض الشركات التركية والإماراتية"، مستدركاً أنها "خطوة بدأ بها السوداني من خلال طرح موضوع مقايضة الغاز بالنفط الخام والنفط الأسود".

يضيف "من الممكن أن تعمل هذه الآلية مع عدد آخر من الدول مثل الهند والصين وكوريا وغيرها لتعطي أريحية بالتعاملات المالية".

 

فجوة أسعار الصرف

التوازن في العلاقات الاقتصادية بين إيران والولايات المتحدة يبدو حتى هذه اللحظة بعيد المنال، فالفيدرالي الأميركي يطلب من العراق الامتثال لمنع تهريب الدولار إلى الدول المعاقبة اقتصادياً فيما تتبادل بغداد وطهران علاقات اقتصادية متشابكة.

يستورد العراق الغاز من إيران لتوليد الطاقة الكهربائية، وهو في قائمة الشركاء التجاريين الأهم بالنسبة لطهران، مع ذلك ترغب الولايات المتحدة من بغداد تقليل أو تصفير تلك العلاقة.

يلخص أستاذ الاقتصاد في جامعة المعقل بالبصرة، نبيل المرسومي، الإشكالية التي يواجهها العراق اليوم "بالفجوة بين سعر الصرف الرسمي والموازي التي بلغت 20%"، وهي كما يقول لـ"ارفع صوتك"، أكبر بكثير من المستويات العالمية المتعارف عليها التي تبلغ نحو 2% فقط، وذلك على الرغم من الإصلاحات التي قام بها البنك المركزي لتحسين امتثال المصارف للتعامل مع متطلبات المنصة الإلكتروني في البنك المركزي العراقي والبنك الفدرالي الأميركي.

وترتبط الفجوة بسببين مهمين بحسب المرسومي، "الأول منع التحويلات المالية عبر القنوات المصرفية للدول المعاقبة من الولايات المتحدة في مقدمتها إيران، ما أدى إلى تمويل التجارة معها من خلال شراء الدولار من السوق الموازي ثم تهريبه إلى إيران، والثاني، الطلب الكبير من المسافرين العراقيين إلى إيران للدولار من السوق الموازية، لأن تعليمات البنك المركزي لا تسمح لهم بشراء الدولار بالسعر الرسمي. وهو طلب كبير لأن المسافرين العراقيين إلى إيران يشكلون 55% من إجمالي السياح الأجانب في إيران".

ويشير المرسومي إلى أن العراقيين "أنفقوا في إيران نحو 3.4 مليارات دولار العام الماضي، فيما تجاوزت الصادرات الإيرانية غير النفطية عشرة مليارات دولار".

وحتى يستقر سعر الصرف العراقي "فإننا بحاجة إما إلى إلغاء العقوبات الأميركية على إيران، أو قطع استيرادات العراق من إيران ومنع السفر إليها، وهو ما تسعى إليه الولايات المتحدة بسبب الأهمية الكبيرة للعراق في الإستراتيجية الاقتصادية الأميركية"، يوضح المرسومي.

ويؤكد أن "كلا الأمرين يحتاج إلى مفاوض عراقي قوي قادر على تحقيق التوازن بين الرغبات الأميركية وحاجة السوق العراقية المحلية إلى التعامل مع إيران".

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

نيجيرفان بارزاني
نيجيرفان بارزاني (أرشيف)

يشارك كبار المسؤولين في حكومة إقليم كردستان العراق، الذين يتعاملون مع أزمة مالية حادة في الداخل، بمؤتمر المناخ "كوب28" التابع للأمم المتحدة، والمنعقد في دبي، على أمل الحصول على دعم دولي كافٍ لمكافحة تغير المناخ في منطقتهم، بسبب "الجفاف الشديد"، وفقا لما ذكر موقع "صوت أميركا" الإخباري.

وسافر رئيس إقليم كردستان، نيجيرفان بارزاني، ورئيس الوزراء مسرور بارزاني، الخميس، إلى دبي للمشاركة في مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ "كوب 28". 

وفي حديثه إلى إذاعة صوت أميركا، قال رئيس قسم تغير المناخ في مجلس البيئة الإقليمي الكردستاني، هفال أحمد، إن حكومته "ترغب في مناقشة خططها لمكافحة تغير المناخ"، موضحا أن "التكيف مع المناخ مهم للغاية بالنسبة لإقليم كردستان".

وفي أوائل الشهر الماضي، حذر العلماء في منظمة "المجموعة العالمية لنسب الطقس" (World Weather Attribution Group) من أن الجفاف الذي دام 3 سنوات في العراق، والذي ضرب أيضا مناطق بإيران وسوريا، أصبح أكثر "حدة" بسبب تغير المناخ وتفاقم ظروف الجفاف الطبيعي، مما ينذر بأوضاع إنسانية صعبة.

ووجد العلماء في دراستهم التي صدرت في 8 نوفمبر، أن حالات الجفاف الشديدة ستكون "أكثر شيوعا" في المستقبل بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري.

وقالت فريدريك أوتو، عالمة المناخ في معهد غرانثام في الكلية الإمبراطورية في لندن، وأحد مؤلفي الدراسة: "إن هذا يلامس بالفعل حدود ما يستطيع بعض الناس التكيف معه".

وبالنسبة للمسؤولين في كردستان العراق، فإن التكيف مع التغيرات "سيتطلب موارد مادية تفوق طاقة الإقليم". 

ولم تتمكن الحكومة الكردية من دفع رواتب موظفيها منذ 3 أشهر، بسبب خلافاتها المالية مع الحكومة المركزية العراقية.

وفي يونيو، عقد نائب رئيس وزراء الإقليم، قباد طالباني، اجتماعاً مع 16 مبعوثاً قنصلياً ودبلوماسياً في إقليم كردستان، لطلب مساعدتهم "قبل فوات الأوان".

وتقول المنظمات البيئية المحلية إن ارتفاع درجات الحرارة والتغيرات في هطول الأمطار، أدت إلى جفاف إمدادات المياه وزيادة الفيضانات القاتلة، وهي قضية تتحدى خطة الحكومة الكردية لتحويل تركيزها من الطاقة إلى الزراعة.

وقال معروف مجيد، رئيس منظمة أيندا (المستقبل) لحماية البيئة في إقليم كردستان، إن تهديدات التغير المناخي على بيئة الإقليم "خطيرة ويجب أن تؤخذ على محمل الجد".

وأضاف مجيد لإذاعة صوت أميركا خلال مكالمة هاتفية، أن "إقليم كردستان يبلغ عدد سكانه حوالي 6 ملايين نسمة، لكن هناك أكثر من 2,150,000 مركبة خاصة، ووسائل النقل العام سيئة للغاية"، في إشارة إلى تأثير مخلفات تلك الآليات على زيادة نسب التلوث.

وتابع: "حسب بياناتنا، فمن أصل 2.5 مليون فدان من أراضي الغابات، تم تدمير 50 بالمئة منها في السنوات القليلة الماضية".

العراق.. الجفاف يلتهم مهد الحضارات والعمل البيئي يأتي بثمن
بعد 10 سنوات قضاها في المملكة المتحدة عند فراره بسبب الحرب الأهلية في إقليم كردستان، عاد نبيل موسى إلى موطنه العراق ليبقى بالقرب من عائلته. لكن بعد عودته إلى موطنه السليمانية، وجد موسى مدينته مختلفة تماما عن تلك التي تركها قبل الغربة.

واعتبر مجيد أن انخفاض الموارد المائية هو الأكثر إثارة للقلق، مشيراً إلى عاصمة المنطقة أربيل، كمثال.

وزاد: "في معظم أنحاء أربيل، لم يعد الناس يجدون المياه الجوفية، حتى بعد حفر 700 متر تحت الأرض. ومما يثير القلق أيضًا، انخفاض منسوب المياه في نهري الزاب الصغير والزاب الكبير (رافدان لنهر دجلة)، ونهر سيروان، بسبب الجفاف أو احتجازها من قبل البلدان المجاورة"، على حد تعبيره.

ويلقي المسؤولون العراقيون باللوم في تضاؤل تدفق المياه من شمالي البلاد، على العديد من السدود التي بنتها تركيا وإيران. 

ويتدفق مصدرا المياه الرئيسيان في العراق (نهرا دجلة والفرات) من تركيا، مما يضع المياه في قلب العلاقات التركية مع العراق.