عرف العراق العديد من المفكرين اللامعين الذين أسهموا بحظ وافر في إثراء الثقافة العربية المعاصرة. يُعدّ المؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري واحداً من هؤلاء المفكرين. لعب الدوري دوراً رائداً في حقل الدراسات التاريخية بما قدمه من كتب ودراسات معمقة. نلقي الضوء في هذا المقال على شخصية عبد العزيز الدوري، ونبيّن أهم ما ورد في أشهر كتبه من آراء وأفكار.
من "الدور" إلى بغداد
ولد عبد العزيز عبد الكريم طه الدوري سنة 1919م في قرية الدور التابعة لمحافظة صلاح الدين شمالي العاصمة العراقية بغداد. حفظ القرآن في صغره، وبعدها انتقل لبغداد لإكمال دراسته الابتدائية والثانوية. وتحصل على شهادة البكالوريا بتفوق، وكان الأول على العراق في القسم الأدبي. اُختير بسبب ذلك للالتحاق ببعثة علمية إلى إنجلترا في سنة 1936م. وبعد أربع سنوات من الدراسة حصل على درجة البكالوريوس في التاريخ من جامعة لندن سنة 1940م. وبعدها بسنتين حصل على درجة الدكتوراه من الجامعة نفسها. وكانت أطروحته بعنوان "تاريخ العراق الاقتصادي للقرن الرابع الهجري".

عاد عبد العزيز الدوري عقب ذلك إلى العراق. وعمل مدرساً في دار المعلمين العالية، كما عمل مديرا عاماً للترجمة والنشر التابعة لوزارة المعارف. وفي سنة 1949، اُفتتحت كلية الآداب والعلوم ببغداد، وتولى الدوري منصب العمادة بها، وبقي في هذا المنصب حتى سنة 1958م.
الدوري والسياسة
يذكر الباحث أسامة الدوري في بحثه "سيرة حياة المؤرخ عبد العزيز الدوري" أن حياة المؤرخ العراقي المعروف شهدت الكثير من التقلبات بسبب الأحداث السياسية التي وقعت في بلاد الرافدين عقب قيام حركة يوليو 1958 بإسقاط النظام الملكي في العراق.
في البداية، تم عزل عبد العزيز الدوري من مناصبه العلمية. وتم إيداعه في أحد السجون العسكرية التي يُعتقل فيها المتهمون المقبلون على تنفيذ أحكام الإعدام في حقهم. وكانت التهمة التي وجهت له في تلك الفترة هي موالاة النظام الملكي. بعد ستة شهور كاملة من الاعتقال، تم الإفراج عن الدوري وعاد مرة ثانية للتدريس في كلية الآداب لفترة قصيرة. وبعدها آثر أن يغادر العراق في سنة 1959م ليعمل كأستاذ زائر لمادة التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت. وكان هدفه من المغادرة أن يبتعد عن الصراع الدائر بين القوميين والشيوعيين.

عاد الدوري مرة أخرى إلى بلاده بعد أن قضى عاماً واحداً في الخارج، وفي سنة 1963م تم تعيينه في منصب رئيس جامعة بغداد، وساهم وقتها في تأسيس مجلس التعليم العالي في العراق، كما لعب دوراً مهماً في تأسيس جامعات البصرة والموصل. "وأصر أن يجنب نفسه الحراك السياسي القائم آنذاك مفضلاً العمل الأكاديمي العلمي. وحاول منع التأثيرات الحزبية والسياسية على مسيرة الجامعة والتعليم ضماناً للحيادية والاستقلالية"، وذلك بحسب ما يذكر أسامة الدوري في بحثه.
عادت السياسة مجددا لتلعب دوراً مهماً في تغيير المسار الوظيفي لعبد العزيز الدوري في نهاية الستينات. قام حزب البعث بالاستيلاء على السلطة في شهر يوليو من عام 1968. وأصدر مجلس قيادة الثورة قراراً بالاستيلاء على أموال الدوري وإبعاده عن جميع مناصبه الرسمية بتهمة تعاونه مع السلطة السابقة. اضطر الدوري حينها لترك العراق وسافر مرة أخرى إلى لبنان للعمل بالجامعة الأميركية ببيروت، ثم سافر إلى الأردن والتحق بالعمل كأستاذ للتاريخ الإسلامي بجامعة عمان في سنة 1969م وظل بها حتى وفاته في التاسع عشر من نوفمبر سنة 2010م.
مؤلفاته وأفكاره
ألف المؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري العديد من الكتب والأبحاث في مجالات التاريخ الإسلامي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي. زاد عدد تلك المؤلفات عن الستين. من أهمها كتبه "مقدمة في تاريخ صدر الإسلام". والذي قدم فيه رؤية جديدة للتاريخ الإسلامي من خلال الجمع بين العوامل العقدية والقبلية والاقتصادية التي أثرت في تطوره. هناك أيضا كتابه "النظم الإسلامية"، وهو واحد من أهم مؤلفاته. تعرض فيه بالدراسة لمختلف النظم السياسية، والمالية، والإدارية التي عُرفت في الحضارة العربية الإسلامية. بدأ الدوري بمرحلة الرسالة والعصر الراشدي، ثم مر إلى العصر الأموي، وانتهى بالعصر العباسي. كشف الدوري في هذا الكتاب عن الحيوية الكبيرة التي تمتعت بها الدولة الإسلامية في عصورها المختلفة، كما بيّن قدرة تلك الدولة على البقاء والنمو من خلال اللجوء للقوانين والتنظيمات المناسبة في كل مرحلة تاريخية.
أيضاً ألف الدوري كتاب "مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي"، وتحدث فيه عن مراحل تطور الاقتصاد في بدايات الدولة الإسلامية. وركز على دور الزراعة والصناعة والتجارة في تشكيل المجتمعات الإسلامية في القرون الأولى من الهجرة.

قدم عبد العزيز الدوري جهوداً ملفتة في البحث في مسألة القومية العربية. في كتابه "الجذور التاريخية للقومية العربية" الذي نشره في سنة 1960م، تناول مفهوم القومية في التاريخ الإسلامي من خلال دراسة العديد من المفاهيم المُركبة مثل الشعب، والأمة، وملاحظة كيفية تطورها لتتحول إلى فكرة الأمة العربية في القرون الأخيرة. يقول الدوري في هذا الكتاب: "ونحن نريد بدراسة الجذور أن نميز العروبة والإسلام في وجهتنا. فمع أن الإسلام جاء ثورة عربية، ومع التوافق الكلي بين الخط العربي والخط الإسلامي في صدر الإسلام، فإن التباين بين الخطين بدأ حين توسع الإسلام في آفاقه، وحين اتخذ سبيلاً لضرب العرب، وحين انجر العرب باسم الدين إلى قبول سيادات أجنبية، ما لبثوا أن ثاروا عليها. إن اعتزازنا بالتراث، وإعطاءنا القيم منزلتها لا يعنيان اتخاذ الإسلام رابطة سياسية أو إقامة الكيان على أساسه".
وفي سنة 1984م نشر الدوري كتابه "التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الهوية والوعي". وأكد فيه على خصوصية القومية العربية واختلافها عن القوميات التي ظهرت في أماكن أخرى من العالم. فقال: "فإذا ظهرت القومية في الغرب تعبيراً عن الطبقة الوسطى وطموحاتها، وكانت وراء تكوين الدولة القومية والتوسع الاستعماري، فإن هذا لا يصدق بالضرورة على كل حركة قومية، خاصة الحركات القومية في آسيا وإفريقيا، لاختلاف منطلقاتها وظروف نشأتها وأهدافها".
في السياق نفسه، اشترك عبد العزيز الدوري -مع آخرين- في تأليف كتاب "نحو مشروع حضاري نهضوي عربي" نُشر للمرة الأولى في سنة 2001م، وقدم فيه تحقيباً تاريخياً للمشروع النهضوي العربي على مدار القرون السابقة. وقال إن هذا المشروع يقع في حقبتين رئيستين، وهما: "حقبة وسيطة تحقق فيها ميلاد أمة عربية داخل إطار الإسلام وأنجزت فيه نهضتها الحضارية، ثم في حقبة حديثة بدأت في مطلع القرن التاسع عشر، واستوعبت ثلاث لحظات نهضوية هي: لحظة محمد علي باشا، ولحظة الثورة العربية الكبرى، ثم لحظة الثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر".
من هنا، عُرف الدوري في ميادين العمل الأكاديمي العربي باعتباره واحداً من أهم المؤرخين العرب. وأطلق البعض عليه لقب "شيخ المؤرخين" و"إمام التاريخيين". يعبّر الباحث علي فرحان زوير في دراسته "المنهج التاريخي عند الدكتور عبد العزيز الدوري" عن ذلك الرأي بقوله: "ترك الدكتور عبد العزيز الدوري منهجاً خاصاً به يمكن أن يتبع ويحتذى به من لدن الدارسين والباحثين بالنظر لما يتمتع به من جرأة ودقة في التحليل والتوصلات. الأمر الذي جعل منه مرجعاً في هذا الضرب من الدراسات". أيضاً، حصل عبد العزيز الدوري على العديد من الجوائز والتكريمات، ومنها جائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية سنة 1984م، والجائزة التقديرية من مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بإسطنبول في سنة 1988م، وجائزة المنظمة العربية والتربية والثقافة والعلوم سنة 2000م، فضلاً عن وسام الاستقلال من الدرجة الأولى من الأردن في سنة 2002م.