يتوجه ملايين الزوار الشيعة من شتى أنحاء العالم صوب كربلاء في شهر صفر من كل عام لإحياء أربعينية الحسين بن علي بن أبي طالب.
يتوجه ملايين الزوار الشيعة من شتى أنحاء العالم صوب كربلاء في شهر صفر من كل عام لإحياء أربعينية الحسين بن علي بن أبي طالب.

رغم تسجيل العراق زيادة مطردة في أعداد الوافدين خلال المناسبات الدينية التي تسجل دخول ملايين الزائرين الأجانب، إلا أنه من الناحية الاقتصادية لا يحصد عائدات مالية توازي ما تحصل عليه دول تنشط فيها السياحة الدينية.

وتتضمن رزنامة العراق الدينية أكثر من ثلاثين مناسبة خلال العام، كما يمتلك ست قباب ذهبية من أصل سبع قباب في العالم الإسلامي، بحسب الباحث يسري محمد في دراسته التي حملت عنوان "الأهمية الاقتصادية للسياحة الدينية في محافظتي النجف وكربلاء".

تتوزع تلك القباب بحسب الدراسة على العاصمة بغداد التي تقع فيها قبة الإمام موسى الكاظم، ومدينة سامراء بمحافظة صلاح الدين حيث تقع قبة الإمام الحسن العسكري والإمام علي الهادي، فيما تقع قبة الإمام علي بن أبي طالب في محافظة النجف، وقبتا الإمام الحسين بن علي وأخيه العباس في محافظة كربلاء.

أما الزيارات الدينية في تلك المراقد "فتتفاوت بين زيارات تقليدية غير محددة بوقت تستمر طوال العام، وأخرى محددة بوقت أو زمن معين من العام وعددها 24 زيارة"، كما يقول يسري محمد.

أكثر هذه الزيارات استقطاباً للزائرين هي "العاشر من محرم (مقتل الإمام الحسين) والعشرون من صفر (أربعينية الحسين) والتي تشهد التوافد الأكبر من داخل العراق وخارجه وتعتبر واحدة من أكثر الزيارات الدينية احتشاداً بالزوّار في العالم".

وفي دراسة، حملت عنوان "السياحة الدينية في العراق الواقع والمأمول"، يقول الباحث محسن حسن إن عوائد السياحة في العراق يصعب مقارنتها."ففي حين تتراوح عائدات السياحة العراقية بين مليار وخمسة مليارات دولار على أكثر تقدير إيجابية وتفاؤلاً، نجد العوائد السعودية تجاوزت 22 مليار دولار العام 2017. في حين بلغت العوائد التركية من السياحة 26 مليار دولار للعام نفسه".

وكانت العتبة العباسية أعلنت وصول عدد الزوار في أربعينية الحسين، هذا العام، إلى 22 مليون زائر منهم أربعة ملايين إيراني. وفي عام 2022، شارك في إحياء الذكرى حوالي 21 مليون زائر منهم ثلاثة ملايين إيراني من بين خمسة ملايين أجنبي توافدوا إلى العراق.

شيد الخليفة المتوكل سنة 245ه في سامراء المسجد الجامع المشهور بمئذنته الملوية.
"عاصمة الخلفاء" و"منفى الأئمة".. قصة مدينة سامراء
تقع مدينة سامراء في وسط العراق. وتشغل أهمية كبرى في أوساط العراقيين، خاصة الشيعة في البلاد، باعتبارها المكان الذي دُفن فيه كل من الإمامين العاشر والحادي عشر علي الهادي والحسن العسكري. ما قصة هذه المدينة؟ وماذا كانت ظروف بنائها؟ وما أهم الأحداث في تاريخها؟ وما هي أسباب قداستها؟
 

ضعف الإيرادات

 

أحمد الوائلي، عميد كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة واسط، يقول لـ "ارفع صوتك" إن السياحة في العراق: "تنقسم إلى ثلاثة أقسام طبيعية وتتركز في إقليم كردستان، وآثارية منتشرة في مختلف مناطق العراق، والأخيرة وهي الأهم وتتعلق بالسياحة الدينية وتتمثل بزيارة المراقد والأولياء في مناسبات مهمة بالنسبة للدول الإسلامية بشكل عام".

ومع عناصر الجذب هذه، "إلا أن العراق لا يحقق النتائج الاقتصادية المرجوة خلال ذروة الزيارات الدينية والتي يحييها ملايين الزائرين من العراقيين والأجانب".

السبب في ذلك يعود إلى "كرم الضيافة العراقي المفرط نتيجة للاعتزاز الشديد في نفوسهم بهذه المناسبة الروحية المهمة". وهو ما يجعلنا نحصل على "عوائد إنسانية عالية، لكننا في المقابل نفتقد إلى الجدوى الاقتصادية والإيرادات المالية نتيجة لذلك".

يأتي الثقل الأكبر لهذه المناسبات "من الزوار الإيرانيين، الذين تكاد تكون أجور الفيزا معدومة منهم في ذروة المناسبات الدينية". كما أن العراقيين "يقدمون سكناً مجانياً وإطعاماً مجانياً من خلال المواكب المنتشرة على طول الطريق إلى المراقد المقدسة وحتى النقل يكون مجاناً أو بأجور رمزية".

وتتفق دراسة يسري محمد مع ما ذهب إليه الوائلي. "فحجم الوصول السياحي الإيراني إلى العراق يمثل النسبة الأكبر من الوصول السياحي لبقية الدول الأخرى". مع ذلك: "لا يحصل العراق على واردات ثابتة من تأشيرات الدخول إلى البلد (الفيزا)".

ويعود السبب في ذلك، كما تذكر الدراسة، إلى قرار مجلس الوزراء عام 2007 بإلغاء الرسوم والضرائب عن الزوار الإيرانيين والذي جاء بالاتفاق مع الجانب الإيراني عام 2005، حيث كان المواطن الإيراني الذي يتجاوز عمره 12 عاماً يدفع مبلغاً قدره 32 دولارا عن الدخول إلى العراق، فيما يتم استيفاء مبلغ 16 دولارا لمن هم دون ذلك السن.

وفي العام 2009، تم إصدار القرار رقم 150 وينص على استيفاء 50 دولاراً عن كل زائر ولكل الأعمار، وهو قرار تم إلغاؤه وإعادته أكثر من مرة حتى العام 2019 عندما اتفق الجانبان على إلغاء الرسوم بينهما.

يسجل الوائلي عدة ملاحظات تتعلق بعدم تحقيق الواردات المرجوة خلال فترة الزيارة المليونية. يقول: "لاحظنا تعرض أصحاب الفنادق إلى معضلات كبيرة، فكثير منهم يضطرون إلى غلق مشاريعهم أو عدم القدرة على الاستمرار في تقديم خدمة جيدة". والسبب في ذلك يعود إلى "عدم شغلها من قبل الزائرين الذين يحصلون على أماكن مبيت مجانية أو شبه مجانية في أماكن كثيرة في المحافظات ذات الصبغة الدينية".

هذه الملاحظات، كما يقول الوائلي، "لا تتعلق فقط بالسياحة الدينية ولكن في كل أنواع السياحة العراقية الأخرى، لانعدام الاهتمام الحكومي بتطوير البنية التحتية والخدمية فيها"، ناهيك عن "ضعف الجذب الإعلامي والترويج للسياحة في العراق، فكثيرون يعتقدون أن العراق بلد غير مستقر أمنياً حتى الآن".

 

خسارة إضافية

 

"لا تستغل المناسبات الدينية في العراق من الناحية الاقتصادية بشكل جيد خلال ذروة فترات الزيارات الدينية، والأمر نفسه يحصل في باقي أيام السنة" يقول الخبير الاقتصادي عبد الرحمن المشهداني لـ "ارفع صوتك".

يعود ذلك، بحسب المشهداني، إلى أن العراقيين "يعتبرون المناسبة مسألة روحية وتقديم الخدمة للوافدين شرف لا يتنازلون عنه، وهو جزء من عادات وتقاليد اجتماعية لا يمكن للعراقي التخلي عنها".

ولهذه الأسباب، "فإن العراق من الناحية الاقتصادية يتعرض إلى خسارة ريع مالي كبير إذا فكرنا على نطاق الجانب الشعبي". أما على جانب الدولة "فالعراق لا يستوفي أجوراً من الزائرين في المناسبات الدينية الكبيرة وبهذا يخسر عائدات كبيرة جداً" كما يؤكد الخبير الاقتصادي.

المشهداني يقول إن "الزائر لا ينفق الكثير من الأموال، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار القيمة العالمية لإنفاق السائح والتي تصل إلى ألف دولار في الدولة التي يقوم بزيارتها وهو أمر لا يحصل في العراق".

ويستدرك :"نحن نتحدث هنا دون حساب المبالغ التي يتم إنفاقها من قبل الحكومة العراقية من خزانة الدولة لتمويل استنفار جهود عدة وزارات منها الدفاع والداخلية لتوفير الأمن والصحة التي تقدم خدمات مجانية بالكامل للزائرين".

المشهداني يرى أيضاً أن السياحة في العراق تعاني من "عدم عقد اتفاقيات سياحية متعارف عليها في كثير من دول العالم، حيث يتم عقد اتفاقيات سياحية رديفة بين الشركات العراقية وما يقابلها من الدول الأخرى". وهو أمر "يؤثر كثيراً على عمل شركات السياحة في العراق، وقد رصدنا قيام بعض الزائرين بإلغاء الحجوزات في الفنادق نتيجة لحصولهم على أماكن مبيت مجانية وهذا يؤثر بشدة على قطاع الفنادق".

ولذلك، فمشكلة القطاع السياحي وخصوصاً فيما يتعلق بالسياحة الدينية هو أنه "قطاع غير منظم بطريقة تؤدي إلى حصول القطاعين العام والخاص على منافع مالية تتناسب وحجم الوافدين إلى البلد، والتي يمكن من خلالهم الحصول على إيرادات مالية وتشغيل الأيدي العاملة وإضافة استثمارات جديدة".

 

ندرة البيانات

 

في دراسته التي سبقت الإشارة إليها، يقول الباحث محسن حسن إن "اقتران الثراء السياحي العام والديني الخاص في العراق بنتائج اقتصادية ضعيفة يحمل بين طياته تساؤلات محيرة".

ويرى الباحث أن "المحددات الاقتصادية للنمط السياحي الديني في العراق غارقة في العمومية السياحية للدولة، بمعنى أنه يصعب الفصل الدقيق بين المؤشرات الاقتصادية لهذا القطاع من جهة والمؤشرات المماثلة الأخرى لبقية القطاعات السياحية المغايرة".

ويقول الباحث إن "ندرة البيانات والإحصاءات الرسمية الصادرة عن العراق في الشأن السياحي العام وشأن السياحة الدينية بنحو خاص، يعكس استمرار حالة الإهمال المؤسسي داخل العراق للقطاع السياحي بأنماطه السياحية مجملة ومن بينها نمط السياحة الدينية".

علي السيستاني آية الله العظمى والمرجع الأعلى للشيعة في العراق.
بين النجف وقم.. قصة الحوزات العلمية عبر التاريخ
يشير مصطلح الحوزة في الثقافة الشيعية الإمامية الإثني عشرية إلى المكان الذي تُدرس فيه العلوم الدينية، والذي يجتمع فيه طلاب العلم الديني مع أساتذتهم وشيوخهم. تُعدّ حوزتا النجف في العراق، وقم في إيران أهم الحوزات العلمية على الإطلاق. ما هي المراحل التعليمية المختلفة في الحوزات العلمية؟ وما قصة حوزتي النجف وقم؟ وماذا عن التنافس بين الحوزتين؟

مع ذلك لا تقطع الدراسة الأمل في إمكانية مضاعفة العوائد الاقتصادية للسياحة الدينية خلال المرحلة القريبة المقبلة على الرغم من الصعوبات الحالية، "لكن شريطة الشروع الفوري في معالجة المؤشرات السلبية، وهي ضعف الوعي السياحي المؤسسي وندرة أعداد مدارس التأهيل السياحي والمرشدين".

وينتقد حسن "جمود تطوير المزارات والمراقد، وبقاء المساحات المحيطة بالمعالم الدينية محرومة من الدمج في المنظومة السياحية إلى جانب حرمانها من التطوير الاقتصادي والعمراني"، كما أن هناك "تغييباً للفكر الاقتصادي في التعامل مع المقدسات بنحو يعوق الاهتمام بالتحصيل المالي ويضعف النشاط الاستثماري السياحي ويفتح الباب على مصراعيه للثغرات وعدم التنظيم".

 

معوقات ومتطلبات

 

يقول رئيس رابطة فنادق كربلاء محمد الهر لـ"ارفع صوتك" إن معوقات تطوير القطاع السياحي في العراق كثيرة جداً يقع على رأسها "غياب الخطة الاستراتيجية لاستثمار الموارد السياحية"، كما أن "المستوى العلمي والإداري لقطاع السياحة متدن جداً ويتبع منهجاً قديماً يعتمد على الروتين والبيروقراطية".

الهرّ يشدد على "أهمية تحديث المؤسسات الحكومية صاحبة العلاقة طرق إدارتها وتعاملها مع الموارد السياحية التي يزخر بها البلد، وتطوير الأماكن السياحية والاهتمام بها وتسهيل إجراءات دخول السياح".

كل ذلك، يجب أن يحصل، مع وضع "ضوابط والتزامات للمرافق السياحية من أجل تقديم مستوى يستحق الأرباح التي يجنيها من العمل السياحي، مع تقديم الدعم الحكومي اللازم لتطوير المشاريع السياحية للقطاع العام والخاص وفق مقاييس عالمية، وإعادة النظر بالرسوم والجبايات الحكومية غير المدروسة التي تفرض على القطاع السياحي".

وأخيرا فإن القطاع السياحي، بحسب الهر، "بحاجة إلى فتح مجال الاستثمار بالشراكة بين القطاع الخاص والحكومي وفق نظريات وتجارب ناجحة بعيدة عن الروتين والفساد الإداري الذي ينجم عنه".

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

بدوي يرعى جماله في المناطق الصحراوية بين الأنبار وكربلاء عام في فبراير 2015 (صورة تعبيرية).
بدوي يرعى جماله في المناطق الصحراوية بين الأنبار وكربلاء عام في فبراير 2015 (صورة تعبيرية).

ترك كريم العتيبي حياة التنقل وتربية الإبل في بادية السماوة (مركز محافظة المثنى) جنوبي العراق، واستقر على بعد كيلومترات في مركز المدينة. مع ذلك فإن إرث أجداده البدوي ما يزال واضحاً في لهجته وزيه العربي الذي يرفض التخلي عنهما.

قبل مائة عام كان أجداد العتيبي يشدّون رحالهم ويتجهون صوب البادية دون أن تقف الحدود عقبة أمام مساعيهم نحو البحث عن العشب والماء، قبل أن يعودوا أدراجهم مع بداية موسم الأمطار في العراق، وفقا للعتيبي الذي تحدث لـ "ارفع صوتك".

ويضيف أن "البادية على وسعها بدأت تضيق بنا، فالجفاف ضرب المنطقة، أما من يعبر الحدود بين العراق والسعودية والكويت، فيلقى القبض عليه ويقدم تعهداً يقضي بعدم تكرار التجاوز، بعد أن كان أجدادنا يتنقلون بحرية بين هذه البلدان".

سفينة الصحراء وموجات الجفاف المتتالية في العراق.. عن أهمية الجمال في حياة البدو
"ليس حليب النوق وحده هو ما يجنيه البدوي من فائدته، فهو طوق نجاته في بحور الرمال العظيمة، ومصدر مأكله ومشربه وملبسه. فاللحم للغذاء والفراء للاستدفاء، والجلد لصناعة بعض الحاجيات، ومن وبره يصنع بيت شعره وخيمته، ويستخدم بعره كوقود بعد تيبسه، وبوله للتنظيف وكدواء ومادة لغسيل الشعر وقتل القمل"

وفقا لثائر الصوفي وهو أستاذ التاريخ المتقاعد في جامعة الموصل، فإن "حياة البدو تغيرت بشكل كبير، فلم يبق لديهم بادية نقية تتضمن قيما وتقاليد وطريقة عيش بالأسلوب الذي كانت عليه. البداية كانت مع محاولات التوطين الكثيرة للبدو خلال العهد العثماني، ثم مع احتلال الإنكليز للعراق، وأخيراً مع حكم عبد الكريم قاسم -أول رئيس وزراء عراقي في النظام الجمهوري- ومشروع الإصلاح الزراعي".

حينها كما يوضح الصوفي "منحت عشائر البدو الأراضي وحفر الآبار بهدف استقرارهم. كثير منهم وجد في حياة الاستقرار أسلوب حياة أفضل، مع توفر أرباح من الزراعة".

أما اليوم، فيتعرض مجتمع البدو في العراق إلى أسوأ حقبة في تاريخه لأسباب اقتصادية وسياسية وبيئية متنوعة. ويعاني أغلب البدو من الفقر والفاقة التي تسيطر على أغلب جوانب حياتهم" كما تقول دراسة بعنوان "التراث الثقافي اللامادي لبدو العراق" للباحث صلاح الجبوري.

 

أعدادهم في تناقص

 

وجود البدو في العراق ليس حديثاً، كما يشير أستاذ التاريخ في جامعة الموصل عامر الجميلي، بل أنه "قديم ومتجذر، وهناك وثائق تشير لوجودهم قبل خمسة قرون".

يقول الجميلي لـ"ارفع صوتك" إن "أهم قبيلتين بدويتين في المنطقة، هما شمر وعنزة، واستقرتا في مناطق واسعة من بوادي العراق الثلاث وهي الجزيرة والمثنى والأنبار، ضمن المناطق الحدودية مع سوريا والسعودية".

ويضيف أن "أعدادهم بدأت بالتناقص مع أول دعوة للتحديث والتحضر، التي اضطلع بها الشيخ عجيل الياور شيخ مشايخ شمر، أوائل القرن العشرين".

أما حالياً "فيصعب حصر تعدادهم السكاني" كما يقول أستاذ التاريخ ثائر الصوفي بسبب "ذوبان أغلب العشائر في النسيج الاجتماعي بالمناطق الحضرية والريفية".

نسبة البدو العراقيين تطرق إليها الباحث هاشم نعمة في دراسة بعنوان "نمو سكان المناطق الحضرية في العراق وآثاره الاجتماعية والاقتصادية".

وأشار فيها إلى أن "الارتقاء الاجتماعي السريع والعاصف في فترة وجيزة لا تزيد على بضعة عقود، أدى إلى اختفاء البدو تقريباً، فقد هبطت نسبتهم، من 35% من إجمالي السكان في القرن التاسع عشر، إلى 4% في عام 1957، ثم إلى 1% في ثمانينيات القرن العشرين. والآن من المرجح أن نسبتهم أقل من ذلك".

في المقابل أشارت دراسة الباحث صلاح الجبوري "التراث الثقافي اللامادي لبدو العراق" إلى "وجود 150 - 170 ألفا من البدو في العراق حالياً".

وفقا لكريم العتيبي، فإن بدو العراق ينقسمون اليوم إلى نوعين، الأول منهما، هو الذي استمر في تربية الإبل والعناية بها والتنقل مسافات طويلة إلى حيث الماء والعشب على طول البادية، أما الثاني فتحول إلى رعاية المواشي (الأغنام والماعز)، ولا تتطلب العناية بها التنقل لمسافات طويلة.

وأشار إلى أن "طبيعة العناية بالإبل والمواشي، اختلفت بشكل كبير خلال العقود الأخيرة، فأصبحنا نستخدم السيارات لنقلها وجلب المياه، ونصطحب معنا مولدات كهربائية ونشتري العلف، هذا كله أدى إلى زيادة التكاليف وقلة الأرباح، وبالتالي أصبح من الصعب الحفاظ على طرق العيش القديمة".

ويقول إن "جلب المياه بالسيارات، غير مجد للبدوي مربي الإبل، ولا يمكنه البقاء في المنطقة عندما يبذر الفلاحون الحنطة والشعير، لذلك يبقى بحاجة للدخول إلى عمق البادية من أجل حيواناته".

 

"الحروب" و "المناخ"

 

أسباب التراجع في أعداد البدو وحجم ما يمتلكونه من جمال ومواش لها أسباب عديدة، فالحروب لعبت كما يروي كريم العتيبي لـ "ارفع صوتك" طدوراً في تقليص قدرة البدو في التنقل مع حيواناتهم".

ويقول إن "أكبر المخاوف بدأت مع مخلفات الحرب التي كانت تنفجر على البدو فيتكبدون خسائر بشرية وتموت حيواناتهم، فاضطروا إلى تغيير طرقهم ومناطق رعيهم مع كل حرب جديدة يخوضها العراق".

يقول أستاذ التاريخ ثائر الصوفي إن "أوضاع البدو المالية تدهورت مع حلول الألفية الجديدة، حين بدأت كميات الأمطار المتساقطة بالتراجع، ومعها أصبحت الأراضي جرداء والعشب يقل يوماً بعد يوم".

ويضيف أن "بادية الجزيرة التي كانت تسمى بسلة العراق الغذائية، لم تعد كذلك بسبب الجفاف، وبالتالي ازدادت البطالة وتخلى الكثير من البدو عن حيواناتهم وسكنوا القرى وساد الفقر بينهم. اضطر بعضهم إلى العمل في التهريب والبعض الآخر انتمى للجماعات الإرهابية في سبيل البقاء حياً".

ويتابع الصوفي: "ذلك الانتماء لم يكن واسعاً، وانتهى سريعاً مع سيطرة الدولة على المناطق التي اجتاحتها تلك الجماعات، فيما تقلصت عمليات التهريب بعد أن عززت السلطات الأمنية مسكها للحدود".

 

"العادات والتقاليد"

 

لا تتعلق التغيرات التي طرأت على المجتمع البدوي في العراق على تعدادهم السكاني فحسب، بل تأثرت أيضا الكثير من "العادات والتقاليد" وطرق العيش التي كانت سائدة.

أهمها بيوت الشَعر التي كانت واحدة من أهم أنواع التراث الإنساني للبدو، فلم يعد هؤلاء ممن يعيشون في القرى والمدن يسكنون فيها.

يقول محمد ناصر الذي ترك حياة البداوة وتوجه للوظيفة الحكومية في المدن: "يبني البدو بيوتاً من الطوب للعيش، أما البدو من مربي الإبل فلديهم بيت قائم ثابت تعيش فيه العائلة في أيام توفر العشب بالقرب من المدن، وفي رحلة الصيف إلى عمق البادية يصطحبون نصف أفراد العائلة للرعي وهناك يستخدمون بيوت الشعر".

ويضيف: "حتى بيوت الشعر تغيرت، فسابقا كانت تصنع من شعر الماعز المقاوم للظروف الجوية، الذي يمنع تسرب الماء في الشتاء ويسمح بدخول الهواء في الصيف. أما حالياً فتتوفر المواد والأقمشة في الأسواق، وقليلاً ما يتم نسج بيت الشعر من قبل البدويات".

ويتابع ناصر: "في السابق، من النادر أن نجد بدوياً يتدرج في الدراسة، لما تتطلبه من استقرار مكاني، أما حالياً، فبفضل الاستقرار في القرى والمدن دخل أبناء البدو إلى المدارس وتخرجوا من الجامعات وتدرجوا في السلم الوظيفي. كثير منهم يفضل الانتساب للقوات الأمنية لما توفره من رواتب مستقرة ومجزية".

ويشير إلى أن "الكثير من تقاليد الحياة البدوية تأثرت، فالصيد الذي كان أجدادنا يتباهون به خلال جلسات السمر في المصايف حين تدور دلال القهوة بين الحاضرين، أصبح اليوم محدوداً".

وحتى سبعينيات القرن العشرين كما يقول أستاذ التاريخ ثائر الصوفي "كان البدو يتنقلون في البادية على الجمال والخيول، لكن مع دخول السيارات إلى حياتهم تركوا الخيل للصحراء لتتحول إلى حيوانات برية، أما في الوقت الحالي، فمن يمتلك الخيل منهم يكون لأسباب الترف".

ويؤكد أن "حياة البدو بمعناها القديم أو كما نقرأ عنها في الكتب والمصادر التي كتبت في النصف الأول من القرن العشرين، لم تعد موجودة إلا في النادر جداً، مع ذلك، فإن البدوي العراقي، مهما ترك البادية واستقر، فإنه يعود إليها في حنين شديد، ويستمر في الحفاظ على تقاليدها من كرم الضيافة والنخوة".