في أبريل 1915، وفي خضم اشتعال الحرب العالمية الأولى، هاجمت قوات فرنسية وإنجليزية موقعاً تحصّن فيه جنود ألمان شمال فرنسا، فوجئ الجنود بسحابة خضراء تخرج من الحصون الألمانية نحوهم.
وفقاً لكتاب "إبداعات النار: تاريخي الكيمياء المثير من السيمياء إلى العصر الذري" لمؤلفه كاتي كوب فإن أحد الجنود كتب: "لم يكن أحدٌّ منا يعرف ما الذي يدور بالضبط، كانت سحابة الدخان تزداد كثافة، ما جعلنا نعتقد أن هناك حريقاً في الخنادق الألمانية".
لم تنشأ هذه السحابة عن حريق، وإنما بسبب غاز الكلور الذي أطلقه الألمان تجاه أعدائهم، ليشهد على المرة الأولى التي يجري فيها الاستعانة بسلاح كيميائي في القتال.
صُنعت تلك السحابة القاتلة بفضل ابتكارات الكيميائي الألماني فريتز هابر الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء، والذي يُعدُّ أول من نجح في استعمال الكيمياء كسلاحٍ حربي.
وبحسب الكتاب، فإنه بعد هذه الخطوة، تركزت كيميائيين على استعمال الغازات في القتال.
اختار الفرنسيون استخدام الفوسجين (مادة كيميائية صناعية تستخدم في تصنيع البلاستيك والمبيدات الحشرية) بدلاً من الكلور، واستعانوا به في معركة فردان ضد الألمان فألحقوا بهم أضرارا بالغة في الجهاز التنفسي.
ردَّ الألمان على هذا الإجراء باستخدام غاز الخردل، الذي يهاجم الجلد والرئتين بمنتهى العنف، لتتسع دائرة الاستعانة بالأسلحة الكيميائية في الحروب، من يومها وحتى الآن.
بحسب التقديرات، فإن عدد القتلى بالأسلحة الكيميائية طيلة هذه الحرب فاق 90 ألفاً، بجانب أكثر من مليون مصاب.
لم ينجُ هابر نفسه من النتائج المفزعة لاستخدام الأسلحة الكيميائية في الحرب، فانتحرت زوجته في عام 1915 بسبب صدمتها من الإسراف في الاستعانة باختراعات زوجها في قتل آلاف البشر.
بعد انتهاء الحرب، سعى العالم لمنع الانزلاق في سباق لتصنيع الأسلحة الكيميائية في القتال، فوّقِع بروتوكول جنيف عام 1925، الذي حظر استخدام الغازات السامة في القتال ثم اتفاقية الأسلحة الكيميائية 1997 التي حظرت تخزين واستخدام الغازات القاتلة كسلاح حربي.
توقيع هذه المعاهدات لم يكن له تأثيرا كبيرا في الحدِّ من استخدام المواد الكيميائية كأسلحة حربية، واستخدمت في عددٍ من النزاعات حول العالم، وكان لمنطقة الشرق الأوسط نصيباً منها.
قمع الثوار
في المغرب، استخدم الجيش الإسباني غاز الخردل في حملاته العسكرية، في محاولة لإخضاع مُدن الريف التي تمرّدت على الاحتلال، وأعلنت لنفسها جمهورية مستقلة منذ عام 1921، ونجحت في البقاء طيلة خمس سنوات.
وحسبما كُشف لاحقاً، فإنه عقب نجاح الأمير المغربي عبد الكريم الخطابي في تجنيد عشرات الآلاف من المغاربة المعارضين للاحتلال، لجأ الجيش الإسباني إلى قصفهم بقنابل كيميائية من خلال الطائرات.
كانت هذه القنابل تحوي غاز الخردل، وأوقعت خسائر فادحة في صفوف المغاربيين، على أساس ذلك اضطر الخطابي في النهاية إلى الاستسلام.
بعدها أقدمت إيطاليا على خطوة مماثلة خلال غزوها لإثيوبيا، عندما استعان جيشها بغاز الخردل في معاركه متسبباً في وفاة 15 ألف إثيوبي على الأقل.
السيناريو ذاته حدث في عام 2016، حين كشفت منظمة العدل الدولية أن "الحكومة السودانية استخدمت أسلحة كيميائية في قصف بعض قرى المتمردين في منطقة دارفور".
وبحسب التحقيق، فإن 30 هجوماً كيميائياً على الأقل وقع في دارفور، تسبّب في مقتل قرابة 200- 250 إنساناً، ورغم نفي الحكومة السودانية لتلك التقارير، رفضت السماح للصحفيين أو للمفتشين الدوليين بدخول القرى المنكوبة.
العراق: الأسلحة السيكولوجية
وفقاً لما ذكره كيفين وودز في كتابه "أشرطة تسجيل صدام" الذي فرّغ فيه عدة تسجيلات عثرت عليها قوات التحالف الدولي لاجتماعات الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بصحبة كبار رجاله خلال اندلاع القتال مع إيران، فإن حسين ناقش خلال اجتماعٍ عُقد في مارس 1984، آفاق استخدام السلاح الكيميائي ضد الإيرانيين، حتى لو أدّت الرياح إلى إعادة تأثير بعضها على قواته.
بحسب محضر الاجتماع اعتبرها صدام "فرصة" ليدرّب جيشه على استعمال الأقنعة وأدوات الحماية من الحرب الكيميائية. قال صدام وفقا للكتاب: "سنتقبل أضراراً جزئية لكي نعدّهم (يقصد الجنود العراقيين) نفسياً".
خلال الاجتماع، اعتبر صدام أن السلاح الكيميائي له تأثير سيكولوجي أكبر من الأسلحة التقليدية، حتى لو كانت الأخيرة أشدَّ فتكاً.
طيلة الحرب تبادلت بغداد وطهران الاتهامات بشأن استعمال الأسلحة الكيميائية ضد الأخرى، لكن واقعةً منها لم تحظَ بشهرة مثل التي نالتها العمليات العسكرية ضد الأكراد، والتي منحتها بغداد اسم "عمليات الأنفال".
بحسب كتاب "حرب تلد أخرى: الحرب العراقية الإيرانية" لأوفرا بينيجو فإنه، في مارس 1987 شهدت الحملات العسكرية العراقية في المنطقة الكردية شمالي البلاد، نقطة تحول فارقة، حينما عيّن صدام حسين ابن عمه علي حسن المجيد حاكماً عليها (تشمل المنطقة محافظات أربيل ودهوك والسليمانية وزاخو).
في الشهر التالي مباشرة، نجحت إيران في السيطرة على بعض المرتفعات الاستراتيجية بالقرب من مدينة السليمانية بالتعاون مع السكان الأكراد، وهو ما ردَّ عليه المجيد بحملة "تأديبية" قاسية لم يتورّع فيها عن استخدام الأسلحة الكيميائية ضد السكان المدنيين.
الضحايا الأوائل لخطط المجيد القمعية كانوا سكان قرى وادي باليسان، وشيخ وسانان، الذين تعرضوا لهجومٍ كيميائي، وهو ما دفع سكان حي "كاني ناشقان" في حلبجة لتنظيم مظاهرات معادية للحكومة.
نجحت قوات "البيشمركة" (وتعني الفدائيون باللغة العربية) بالتعاون مع إيران في طرد القوات العراقية من المدينة، التي بلغ عدد سكانها آنذاك، قرابة 60 ألف نسمة، وهو ما أثار جنون القادة في بغداد.
على إثر ذلك أعلن وزير الدفاع عدنان خير الله، أن قواته ستستخدم "كل الوسائل للدفاع عن الأراضي العراقية".
قُصفت مدينة حلبجة الحدودية كيميائيا، ما تسبّب في وفاة 3200 مدني في يومٍ واحد، حسبما روت أوفرا، إلا أن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، أكد في مذكراته "قرارات مصيرية" أن "هجوم حلبجة تسبّب في مقتل 5 آلاف فرد، وهي حصيلة الضحايا الأكثر شيوعاً التي أقرّتها الحكومة الأميركية، مضافاً إليها ما يزيد عن 10 آلاف مصاب".
بحسب كتاب "حرب تلد أخرى: الحرب العراقية الإيرانية" فإن إيران حاولت استغلال هذا الحادث لتعبئة الرأي العام العالمي ضد بغداد، لكن أغلب المجتمع الدولي كان خائفاً من تحقيق طهران لانتصار يسمح لها باختراق الخليج الغربي.
لم يرغب أحداً في معاداة بغداد، لكن مع قُرب انتهاء الحرب تصاعدت الانتقادات الدولية ضد نظام صدام حسين، منها تصريح خافيير بيريز الأمين العام للأمم المتحدة بـ"وجود أدلة كثيرة وخطيرة تؤكد استخدام العراق الأسلحة الكيميائية في حلبجة".
ويؤكد جيرمي سولت في كتابه "تفتيت الشرق الأوسط" أن "صدام خلال اشتعال أزمة الخليج بعد غزو الكويت، أمر حسين كامل زوج ابنته ووزير التصنيع العسكري 1995 – 1987، بالتعاون مع صائب المسير قائد سلاح الجو، بالاستعداد لاستعمال الأسلحة الكيميائية والبيولوجية في الحرب.
بحسب الكتاب قال صدام: "في لحظة معينة، ستتلقون الأوامر لمهاجمة أهدافكم في الرياض وجدة، وأيضاً كل المدن الإسرائيلية".
ردّ عليه حسين كامل قائلاً: إن "أحسن طريقة لاستعمال هذه الأسلحة هي رشها من طائرة، لأن أضرارها تكون أقوى بألف مرة".
تقول سولت إنه برغم هذه الاستعدادات فإن صدام لم يُقدم على هذه الخطوة، خوفاً من رد فعل أميركي عنيف.
عقب سقوط نظام صدام حسين وتفكيك برامج أسلحته الكيميائية كافة، لم يتخلّص العراق نهائياً من خطرها، فبين عامي 2014 و2016 ، استخدم تنظيم "داعش" قنابل الكلور في تنفيذ هجمات ضد الجيش العراقي، وكذلك في ناحية تازة بمحافظة كركوك.
سوريا: "الغوطة" وغيرها الكثير
حسبما ذكر كتاب "القائمة السوداء"، الذي أعدته منظمة "مع العدالة" الحقوقية التي تتخذ من أمريكا مقراً لها، فإن نظام بشار الأسد استخدم الأسلحة الكيميائية 300 مرة لمهاجمة 166 هدفاً مدنياً.
أسفرت هذه الهجمات عن مقتل أكثر من ألفي مدني، حسبما وثّقت تقارير الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
وبحسب تقارير الشبكة، فإن أول هجوم كيميائي من للحكومة السورية، وقع في نهاية عام 2012 ضد منطقتي البياضة ودير بعلبة في حمص، تسبّب في 60 حالة اختناق وإصابة 4 أفراد بالشلل و3 بفقدان البصر ومقتل 6 ضحايا، تبع هذا الهجوم هجوماً آخر في منطقة الزعفرانة بريف حمص الشمالي، أسفر عن 36 حالة اختناق.
بعدها تتالت الضربات الكيميائية ضد القرى السورية، حتى بلغ عدد ضحايا هذا النوع من الهجمات في أغسطس 2013، ما يزيد عن 1500 قتيل، بحسب تقرير نشرته الجمعية الطبية السورية الأميركية.
إثر هذه الخسائر، تعرضت دمشق لانتقادات دولية كبيرة أُجبرت بسببها على الانضمام إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية.
قال ديفيد غريفين في كتابه "11 أيلول وحجارة الدومينو المتساقطة" فإن الرئيس الأميركي باراك أوباما ضاق من استخدام السوريين المتكرر للأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، فأعلن أن استخدامها "خط أحمر" يستدعي من بلاده التدخل عسكرياً في الأزمة السورية.
رغم ذلك استمرّ سقوط العشرات من المدنيين السوريين في هجمات كيميائية طالت منازلهم، فأمر أوباما بتنفيذ هجومٍ كبير ضد قواعد عسكرية سورية تراجع عنه لاحقاً بعد تدخل روسيا وإقناعها الأسد بتدمير مخزونه من الأسلحة الجرثومية.
أيضاً، تلقى أوباما تقارير استخباراتية رجّحت أن مصدر بعض الهجمات قد يكون قوى المعارضة السورية، وتحديداً جبهة النصرة التي تملك القُدرة على تصنيع غاز السارين.
في أبريل 2017، قُتل أكثر من 90 فرداً بعد تعرضهم لهجومٍ بغاز الأعصاب في بلدة خان شيخون في محافظة إدلب التي يسيطر عليها معارضو الأسد.
ظهرت على الضحايا علامات الاختناق والتشنجات ورغوة حول الفم، رداً على هذا الهجوم أمر ترامب بإطلاق 59 صاروخ كروز ضد قاعدة الشعيرات الجوية، حيث خرجت منها الطائرات السورية التي نفّذت الهجوم.
وفي أبريل 2018، قُتل 60 فرداً وأصيب أكثر من ألف آخرين في أماكن متفرقة في مدينة دوما بالغوطة الشرقية بالقرب من دمشق، متأثرين بهجومٍ كيميائي شنّه النظام السوري ضد المدينة، حسبما قال اتحاد منظمات الرعاية الطبية.
وبحسب دراسة أجريت في 2018، فما بين مارس 2011 وأبريل 2017 مات ما يزيد عن 1206 أفراد في هجمات بالأسلحة الكيميائية في سوريا، قرابة 97% منهم مدنيون.
أكد توبياس شنايدر وتيريزا لوتكيفند الباحثان في معهد السياسة العالمية ومقره برلين أن "نظام الأسد مسؤول عن 98% من هذه الجرائم، فيما تقع البقية الصغيرة منها على عاتق الجماعات الجهادية".