في عيادة متخصصة بأمراض الدم وسط العاصمة العراقية بغداد، تجلس طفلة سمراء نحيلة ذات ابتسامة جذابة، لا يتجاوز عمرها الـ 13 عاماً. إلى جانبها عمتها حيث القلق والخوف يظهران على محياها، فقد علمت لتوها أن ابنة أخيها مصابة بمرض الإيدز (متلازمة نقص المناعة المكتسب).
نتائج الفحص المختبري التي أكدت إصابة الطفلة بالمرض "المثير للرعب والوصم الاجتماعي" كما تقول الطبيبة سجى شاكر المختصة بعلاج بمرضى الإيدز، جاءت على الأغلب نتيجة لعمليات نقل الدم الروتينية التي تحتاج إليها الطفلة المصابة بمرض "التلاسيميا" (اضطراب وراثي يتطلب عمليات منتظمة لنقل الدم).
"لا نعرف كيف سنتجاوز هذه الأزمة"، تقول عمتها وهي تحاول جاهدة إخفاء دموعها عن الطفلة غير المدركة لما يحصل حولها، والتي لم يكن لديها سوى سؤال واحد للطبيبة يتعلق بإمكانية البقاء في المدرسة واللعب مع صديقاتها.
تقول شاكر لـ "ارفع صوتك" إن "هذا الموقف، واحد من أصعب الحالات التي مرت بي خلال مشواري الطبي في معالجة مرضى الإيدز، فالأطفال الأبرياء المصابين، غير قادرين على استيعاب ما يحيط بهم من مخاوف اجتماعية ومحاذير".
وتشير إلى "وجود العديد من الإصابات غير المكتشفة حتى الآن، لأسباب عدة، أهمها الوصم والتمييز وقلة الوعي فيما يتعلق بالمرض، الذي تحول بفضل التطور الطبي من مرض فتاك إلى مرض مزمن يمكن السيطرة عليه، ومنع انتقاله عبر الالتزام بالعلاج الوقائي".
"علاج ملوّث"
الطريقة التي أصيبت بها الطفلة تشبه إلى حد كبير قصة أول اكتشاف لوجود مرض الإيدز في العراق عام 1986. كان ذلك بحسب شاكر: "حين تلقى عشرات مرضى الهيموفيليا (اضطراب نادر يتسبب في عدم تجلط الدم على نحو طبيعي) علاجاً ملوثاً بفيروس الإيدز، استورد من شركة ماريو الفرنسية، ليسجل العراق في ذلك العام أول إصابات بالفيروس في تاريخه".
وبحسب الموقع الرسمي لوزارة الصحة العراقية، فإن عدد المصابين بالمرض في البلاد، بلغ 464 حالة، لكن هذا الرقم "يمثل فقط الإصابات الجديدة ولا يمثل العدد الحقيقي للمرضى" وفقاً للطبيبة العراقية، التي أشارت إلى أن "العدد يتجاوز الـ1500 إصابة، كمجموع للسنوات المتراكمة السابقة. حتى هذا الرقم لا يمثل إجمالي الإصابات".
وتوضح أن "منظمة الصحة العالمية سجلت حقيقة مفادها، أن 39 % من الحالات المصابة فعلا في الشرق الأوسط يتم اكتشافها، أما النسبة الباقية، وهي 61 % لم تكتشف إصاباتها لعدم إجراء الفحص الاختياري".
العيادة الإلكترونية
أسست الطبيبة شاكر بالتعاون مع الطبيب نزار مهدي عيادة إلكترونية على مواقع التواصل في سبتمبر 2022، وتقول إن "الهدف من ذلك، هو التوعية بالمرض وطرق انتشاره، وإمكانية احتوائه والتعايش معه بشكل طبيعي، وهي حقيقة لا يعلم بها أغلب المواطنين".
وتضيف: "لاحظنا خلال عملنا، أن أغلب العراقيين المصابين بالإيدز هم خارج التصنيف الدولي للمجاميع الخطرة، وهم المثليون والعاملون بالجنس، والمتحولين ومتعاطي المخدرات والسجناء والمهمشين. أما في العراق، فأغلب المصابين هم من عامة الناس وليسوا من تلك المجاميع".
نجحت شاكر في توفير اختبار الفحص المنزلي، الذي جذب العديد ممن تراودهم الشكوك بالإصابة ويخشون التوجه إلى الدوائر الرسمية، خوفاً من" الوصم الاجتماعي المرافق للمرض".
وتضيف أن "المرض لا ينتقل إلا عبر العلاقة الجنسية، أو الأمهات أو نقل الدم، أو استخدام أي نوع من الأدوات الطبية الملوثة بالفيروس، من ضمنها مراكز الوشوم وأطباء الأسنان، هذا يعني أن المرض لا ينتقل بالمصافحة والتقبيل أو الرذاذ، أو الأكل والشرب المشترك مع المصاب، وهو أمر يجهله المجتمع بشكل كبير".
وتؤكد شاكر أن "السبب الرئيسي لأغلب المرضى الذين تُكتشف إصاباتهم في العراق، كانت العلاقة الجنسية غير المحمية، كما أن أغلبهم لا يبلغون أحدا بمرضهم خوفاً من الوصم الاجتماعي، ويبقى الأمر محصوراً في نطاق ضيق حتى بين أفراد العائلة نفسها".
انهيار عصبي
واجه الطبيب النفسي محمد القريشي أربع حالات لمدمني مخدرات أصيبوا بمرض الإيدز بسبب التعاطي عبر الأدوات المستخدمة كالحقن وغيرها ولقلة الاهتمام بالنظافة الشخصية كما يقول لـ "ارفع صوتك".
الحالات الأربعة التي تحدث عنها القريشي صادفته خلال عمله السابق في مركز معالجة الإدمان في مركز حكومي قبل أن يتقاعد عن الوظيفة.
ويضيف: "هناك مخاوف كبيرة في المجتمع العراقي من السمعة التي يجلبها مرض الإيدز، وهي حالة تنتشر في الشرق الأوسط بشكل عام، فالناس يتجنبون التواجد بالقرب من شخص مصاب بالإيدز أو التعامل معه بأية طريقة، لذا يتحمل المريض تبعات اجتماعية ونفسية كبيرة جداً".
ويتابع: "رأيت الانهيار النفسي الحاد الذي رافق المرضى الأربعة خلال مرحلة الشك بالإصابة، أو انتظار نتائج فحوصات الدم، وحين يتم التأكد من ذلك، يكون الفرد مرعوباً وخائفاً لاعتقاده بأنه وصل إلى الموت الحتمي، فيفقد القدرة على النوم، ويبدأ بمراجعة أحداث حياته كأنها فيلم، ويتحول إلى شخص فاقد لطعم الحياة والأمل بالمستقبل، خصوصاً إذا ما كان متزوجاً ولديه أطفال".
ويتحدث القريشي عن سلوك المجتمع تجاه المصابين، الذي يتحول إلى "الخوف منه والابتعاد عنه وتجنب الاختلاط به بأية طريقة خشية العدوى، وبالتالي يجد نفسه منبوذاً".
الخوف الشديد من ردة الفعل المجتمعية لاحظه فريق "ارفع صوتك" عندما تجنب مرضى الإيدز الحديث إليه، خاصة من كانت إصابته نتيجة لعلاقة جنسية غير محمية، لذا خوّل بعضهم أطباءهم باستلام الأسئلة ونقل أجوبتهم لـ"ارفع صوتك".
الاكتشاف "بالصدفة"
يقول إن "سبب إصابته بالمرض غير واضح، لكن الأطباء أعطوه عدة أسباب، أولها علاقة جنسية غير محمية، أو أدوات جراحية ملوثة أو أدوات الوشم". يكشف "عادل" في أجوبته، عن حدوث كل هذه الأسباب معه قبل شهرين من الفحوصات التي أجراها.
كان أول شيء فكر فيه كما يقول في إجاباته هو "الانتحار، لتجنيب عائلتي وأصدقائي خطر العدوى، وتفادي الوصم الاجتماعي وابتعاد الناس عني إذا ما اكتشفوا إصابتي".
ويضيف: "في البداية لم أبلغ أحداً بالإصابة، واكتفيت بالانطواء في المنزل، وفكرت مراراً بالانتحار، لكن في النهاية قررت إبلاغ والداي بالأمر، وصدما، ثم تقبلاني وبدأنا رحلة العلاج معاً. حتى الآن، لا يعلم بذلك غيرهما".
حالياً، لا يعاني "عادل" من القلق بشأن إصابته، وعرف من خلال أطباء المركز الحكومي المتخصص أن المواظبة على العلاج مفيدة، وستمكنه من الزواج والإنجاب دون نقل العدوى.
اقترح الأطباء عليه "ايجاد شريكة مصابة هي الأخرى وبوضع مستقر، فمن الصعب جداً العثور على شريكة سليمة توافق على الارتباط بشخص مصاب".
كان الأربعيني "كامل" (اسم مستعار) رجلاً متزوجاً ولديه ثلاثة أطفال، لكنه كما يقول لـ "ارفع صوتك": "كنت أدخل في علاقات جنسية متعددة".
ويضيف في إجابته عن كيفية تشخيصه: "تعرضت لوعكة صحية عادية، وشخّص الطبيب المرض الذي تطلب علاجه عملية جراحية، فأجريت لي فحوصات دم، كان من ضمنها الأمراض الانتقالية والجنسية، لتظهر النتيجة إصابتي بمرض الإيدز".
في البداية رفض الطبيب إجراء العملية لـ"كامل" وطلب منه مراجعة أقرب مستشفى وإجراء الفحص لزوجته وأبنائه الثلاثة، ووفقاً لإجاباته فإنه "ندم على الحياة التي عاشها سابقاً، خاصة بعد تأكد إصابة زوجته وأصغر أبنائه الذي يبلغ عاماً واحداً".
تغيرت حياة "كامل" إلى الالتزام، لكنه يقول "ما الفائدة وأنا أواجه مرض زوجتي وابني البريء الذي لا ذنب له سوى أن والده كان يمارس الرذيلة بلا رادع أخلاقي، وتسبب بمرض سيبقى معه طوال حياته، وسينبذه المجتمع إذا ما عرف بمرضه ولا يوجد ما يمكن فعله للتكفير عن ذنبي".
ورغم مرور عامين على إصابة "كامل" وعائلته، واستقرار صحتهم، إلا أنه يقول: "نمارس التكتم بشأن حالتنا، لكنني لا أعرف كيف سأواجه الناس لو شاع وجود المرض في العائلة".