عندما لاح الفجر للرحالة الإنجليزي ويلفريد ثيسيجر، وهو يقف على حافة الأهوار العراقية في فبراير عام 1951، لمح على سطح المياه ظلال أرض بعيدة، بدت له داكنة وخلفها أشعة الشمس، تساءل حينها باندهاش إن كان أمام جزيرة "حفيظ" الأسطورية.
تسمّر ثيسجر في مكانه بعض الوقت مترقباً، لتأتي الإجابة عن سؤاله حين علا قرص الشمس، ليتبين أن ما رآه، ليس إلا حقل قصب كبير على ساحل الماء.
لم يكن وحده المشغول بحكاية "حفيظ"، إذ احتلت خيال كل من وطأت قدماه أراضي الأهوار الممتدة على مساحات واسعة جنوبي العراق. هناك حيث يعتاش السكان على تربية الجاموس وصيد السمك، ويتسامرون في الليل حول دِلال القهوة وأباريق الشاي، فيروي كل منهم قصصاً متوارثة من أساطير يصل عمرها آلاف السنين.
تلك القصص كانت وما زالت تسيل لعاب الباحثين عن الذهب والثروة، وتثير مخاوف سكان الأهوار الذين يتجنبون العبث مع التلال الأثرية؛ خشية "لعنة" العمى أو الجنون.
شكلّت المرويّات بحقائقها وخُرافاتها، التراث الشفوي المتناقل بين سكان الأهوار، والتقطها الرحالة والمستكشفون المهتمون بتاريخ المنطقة منذ أواخر القرن التاسع عشر، حتى سبعينيات القرن الماضي.
وحتى أواسط ثمانينيات القرن الماضي، كانت الأهوار تغطي قرابة 15 ألف كيلومتر مربع حول الجزء الجنوبي من نهري دجلة والفرات، لكنها انحسرت إلى عُشر هذه المساحة، نتيجة عوامل سياسية وبيئية واقتصادية عديدة.
ماذا تقول الأسطورة؟
كان هناك ثلاثة إخوة، "عكر" و"أبو شذر" و"حفيظ"، كلٌ يُدير مملكة غنية مزدهرة بالمعابد والبيوت المزخرفة، والحدائق العامرة ببساتين الفاكهة والنخيل، تحيطها أسوار لحمايتها من الفيضان. اهتموا بممالكهم فصارت تسمى بـ"الجِنان" لشدة جمالها وخصبها.
كل ذلك، أصابهم بالغرور، فتجبرّوا وكفروا وخرجوا عن طاعة "الإله"، الذي أنزل غضبه عليهم، فخسف ممالكهم بالزلزال وأغرقهم بالمياه، هكذا تقول الأسطورة المتداولة على مجالس سمر الأهواريين، الذين توارثوها جيلاً بعد جيل.
مع مرور الزمن، أصبحت تلك الممالك ركاماً أثرياً يطلق عليه اسم "الأشن"، وأُنزل "الجن" و"الطناطل" لحراسة كنوزها.
بعكس الكثير من الأساطير التي طواها الزمن، عاشت "حفيظ" لأجيال، خصوصاً أنها تربط الواقع بالخيال، في سرد يوحي بأن تلك الأحداث وقعت فعلاً. فمنطقتي "العكر" و"أبو شذر" موجودتان في الأهوار، وعثرت فيهما فرق التنقيب على لقى أثرية متنوعة وكثيرة.
أما منطقة "حفيظ"، فتقول المرويات إنها "أشن" أو "تل"، وربما "جزيرة" في عمق الأهوار الوسطى ما تزال موجودة حتى الآن، إلا أنها مخفية بالسحر عن عيون البشر، وتحتوي الكثير من الكنوز والأحجار الكريمة، وفيها أشجار مثمرة تحمل ما لذّ وطاب من الثمار، تحرسها مخلوقات مرعبة لها القدرة على الظهور بهيئة الإنسان أو أي مخلوق آخر.
تظهر منطقة "الأشن" أحيانا وتختفي أحياناً أخرى بحسب الأسطورة، ولا يمكن إيجادها بسهولة، وكلّ باحث عنها يضلّ طريقه رغم وجودها أمام عينيه، وكلما اقترب منها يجدها ابتعدت من جديد.
وتختلف تفاصيل سردية "حفيظ" من منطقة لأخرى داخل الأهوار، على الرغم من اشتراكها في النقاط الأساسية، فهناك رواية تقول إن حفيظ هو الملك في القصة، لكنه يتحوّل إلى "كبير الجن" الذي يحرس "كنز سليمان" في تلك البقعة التي نزل بها "غضب الله" وطوفانه.
جغرافية الأسطورة
تقع الممالك الثلاث المذكورة في الأسطورة ضمن الأهوار الوسطى جنوب شرقي العراق، وهي منطقة مشتركة بين المحافظات الثلاث: ميسان وذي قار والبصرة، تبلغ مساحتها 8000 كم²، ضمن قضاء المجر وناحيتي العدل والخير، التي تم تجفيفها بشكل شبه كامل.
أما "حفيظ" نفسها، فتقع ضمن محافظة ميسان في منطقة تحتوي على بقايا مدن غمرتها المياه يُعثر فيها بين الحين والآخر على لقى أثرية متنوعة وآثار طرق ممهدة تظهر كلما انحسرت المياه وتعود للاختفاء تحت مياه الفيضانات الموسمية، ما يشكل أحياناً إثباتاً لقصة الكنز المفقود بالنسبة للسكان والزوّار.
يعتقد حسين الطائي، الذي كان من سكان ميسان قبل أن يجبره الجفاف والبطالة على تركها والعمل في العاصمة بغداد، إن "تل حفيظ موجود بالفعل، لكن لا يمكن الوصول إليه إلا بشروط محددة، تنفذ جميعها دون ترك أي منها".
تتلخص الشروط كما يشرح الطائي لـ"ارفع صوتك"، بـ"عدم حمل أي معدن حتى لو كان جزءاً من الملابس، فحامل المعادن لن يتمكن من رؤية التل ولو كان شاخصاً أمامه. ويتم البحث في ساعات معينة عند الفجر أو خلال فترة غروب الشمس فقط، ويجب أن يكون الباحث قادراً على أن يذهب منفرداً دون اصطحاب أي شخص آخر معه، ولديه إمكانية التعامل مع الجن لأنهم سيرافقونه في رحلته، وربما يعمدون إلى ثنيه عن المضيّ قدماً".
يتابع: "حين تعثر على تل حفيظ، عليك الخروج منه خلال ساعتين فقط لأنك لو بقيت أكثر من ذلك لن تخرج منه أبداً ويتم حبسك في باطن الأرض".
حارس الكنز: "الطنطل"
يقول الرحالة البريطاني كافن يونغ، الذي زار الأهوار لفترات متقطعة من الخمسينيات حتى أواخر السبعينيات، في كتابه "العودة إلى الأهوار"، إن "هناك قصصاً كثيرة تُروى عن الطناطل حول مواقد الليل، فهي تحرس كنزا ملغزاً مدفوناً في جزيرة ما مخفية عن عيون الناس بفعل نوع من السحر".
تحرس الطناطل جزيرة كنز "حفيظ"، وهي مخلوقات خرافية ذات قدرات خارقة يمكنها أن تتسبب بالعاهات أو الإعاقات أو الجنون عند رؤيتها أو عند اصطدامها بالبشر.
بعض "الطناطل" أليفة وقادرة على بناء علاقات مع البشر، إذا ما قدموا لها خبز الأرز المشوي دون ملح أو "ماصخ" كما يُسمى باللهجة العراقية. ومن ضمن ما يروى أيضاً، أنها رغم قوتها الخارقة، تفرّ ما أن يُشهر بوجهها أي شيء مصنوع من الحديد.
ويتناقل سكان الهور قصة بلا تاريخ محدد فلا أحد يعرف مع من حصلت أو في أي قرية، تتحدث عن واحد من سكنة الأهوار وجد قطعة من الذهب على الأرض في منطقة قريبة من حفيظ، فأخذها وعاد إلى قاربه، إلا إنه لم يتمكن من تحريكه سنتمتراً واحداً وبدا له كأن قوة خفيّة تثبت القارب في مكانه.
بعد محاولات فاشلة عديدة لاكتشاف العلّة، تذكر قطعة الذهب التي وجدها على الأرض، فقام برميها في الماء ليتحرك القارب من جديد بعد لحظات.
يُروى أيضاً، أن صياداً ضلّ طريقه ذات مرة في متاهات القصب، حتى وجد نفسه فجأة في جزيرة ذات أشجار مثمرة ونخيل وتحتوي على الكثير من الكنوز الملقاة على الأرض. ففرح وملأ قاربه منها، إلا أن الزورق ثبت في مكانه ولم يتحرك حتى أعاد كل ما أخذه من المجوهرات.
حين وصل إلى منزله أبلغ أهالي القرية بما حصل معه فخرج معه عشرات الرجال في زوارقهم طمعاً في الكنوز الملقاة على الأرض، وما إن لاحت لهم الجزيرة المسحورة من بعيد، حتى أشار الرجل بيده إلى المكان ففقد البصر على الفور.
ارتعب الرجال الذين كانوا معه في الزوارق وقرروا العودة إلى قريتهم، وعند وصولهم مات الرجل وبقي مكان الجزيرة مخفياً حتى اليوم.