في مدينة الموصل شمالي العراق، التي ما زالت تتعافى من احتلال تنظيم داعش لسنوات ثم العمليات العسكرية التي رافقت تحريرها عام 2017، توجد مزرعة ممتدة على مسافة 15 كيلومتراً، تضررت هي الأخرى من الإرهاب، ولكن صاحبها آثر إحياءها وجعلها أيقونة للحداثة والتوفير والوعي البيئي.
زار مراسل "ارفع صوتك" المزرعة، التي تتحضّر لموسم جديد، حيث بدأت العمّال فيها بتهيئة الأرض للزراعة الربيعية، التي ستثمر خلال فصل الصيف.
صاحب المزرعة محمد النقيب، كان هو الآخر مشغولاً، ولكن بترميم بعض البيوت البلاستيكية وتهيئة منظومات الرش بالتنقيط، نأخذ من وقته قليلاً، ليروي لنا القصة من البداية، وكان ذلك عام 2020.
"حين وصلت مزرعتنا كان المنظر مؤلماً. أشجار الزيتون كانت محترقة بالكامل، والبيت مدمر والأثاث ما بين محترق ومسروق.. كما تفاجأت ببقايا معدات عسكرية وبراميل مكتوب عليها (TNT) وعبارة خطر وغيرها من العبارات المخيفة"، يقول النقيب.
انسحب من المكان، وتواصل مع مختصين في تفكيك وتطهير المخلفات الحربية، ليكون تنظيف الأرض عنوان المرحلة الأولى، التي تضمنت أيضاً إعادة تأهيل البيت، وإزالة الأشجار المحروقة، وحراثة الأرض، لتصبح جاهزة مجدداً لاحتضان البذور والأشتال المتنوعة.
يتذكر النقيب اللحظة التي أدرك فيها إشراقة البدايات، بالقول "تدفق الماء بعد تشغيل الغطاس الخاص بالبئر وحين خرجت نحو الأرض، شعرتُ أن الأمل موجود وأن الأرض ستعود وسننجح".
تقنيات حديثة
لتحقيق طموحه بمزرعة صديقة للبيئة وموفرّة للمياه، استعان النقيب بأصدقائه المهندسين وذوي الخبرة، فاعتمد على الطاقة النظيفة لتوليد الكهرباء، واعتمد تقنيات حديثة في الزراعة كالبيوت الزجاجية والري بالتنقيط، كما زرع أنواعاً جديدة من الخضراوات غير مألوفة في منطقته.
كان لا بد من الحصول على تيار كهربائي لتشغيل المعدات لعدم توفر الكهرباء الوطنية في المنطقة آنذاك، يضيف النقيب مبتسماً: "اليوم مشروعنا يشتغل على 16 لوحاً شمسياً وعلى نظام الترشيد للمياه، إذ ز تعتمد زراعتنا على الري بالتنقيط باستخدام منظومات الطاقة الشمسية".
أما زراعة الخضروات، يشرح النقيب أنه وعبر اشتراكه بمعرض للزراعة في تركيا، تمكن من جلب بذور خس البلوط التركي الأحمر، والبروكلي الأفريقي، والخس البيبي، ونجحا في إنتاج هذه الأصناف وتسويقها إلى مطاعم عراقية لتحضير أنواع جديدة من السلطات بالاعتماد عليها.
اهتمت المزرعة أيضا، بإحياء نوع قديم من الخيار الذي كان مشهوراً في كرمليس (إحدى قصبات الحمدانية) قبل أن يستبدله المزارعون بالبذور السورية، وكان يُسمى "ترعوزي كرمليس "، زرعه النقيب على مساحة ثلاثة دونمات من الأرض و"نجحت العملية بشكل كبير" على حدّ تعبيره.
تسويق إلكتروني
من أجل توسيع دائرة المهتمين والزبائن لمنتوجات مزرعته، اعتمد محمد النقيب على تسويقها إلكترونياً، من خلال تطبيق هاتفي يصل المستخدم بمتجر إلكتروني خاص ببيع الخضراوات، وتم ذلك بالتعاون مع المهندس كرم سعد.
كانت الفكرة ملهمة لسعد الذي لم يخف سعادته الكبيرة لاشتراكه في تصميم وإطلاق أول تطبيق إلكتروني خاص ببيع الخضراوات والفواكه، حمل اسم "لباب بيتك".
يقول المهندس لـ"ارفع صوتك": "حين عُرضت علي الفكرة أول مرة، ركزت على كيفية تلبية احتياجات المجتمع بطريقة غير معقدة حتى لمن لا يجيد القراءة والكتابة".
"ولهذا السبب فإن التطبيق وضع صورة كل منتج بحجم مناسب ودقة عالية، ليتمكن الجميع من طلب احتياجاتهم، ورسوم توضيحية داخل التطبيق تمكنهم من إكمال طلبهم وتوصيلها إلى باب بيوتهم"، يبين سعد.
تم طرح التطبيق على متجري (Google Play & App Store)، وبدأت المزرعة تتلقى طلبات من منتجاتها، التي تصل للزبائن في منازلهم أو أماكن عملهم، داخل مدينة الموصل.
خلال هذه الرحلة، كان القلق بحسب النقيب من عدم إقبال أهالي الموصل على الشراء الإلكتروني "لأنهم يحبون اختيار الخضار والفواكه بأيديهم"، لكن المفاجأة، كما يقول أن أهداف المشروع التي وضعت بفترة زمنية مداها عامان، "تحققت خلال ستة أشهر فقط".
قصي عبد الله، هو طبيب من الموصل، وأحد زبائن "لباب بيتك"، يقول لـ"ارفع صوتك"، إنه يعتمد على شراء الخضار والفواكه عبر التطبيق الإلكتروني، بسبب انشغاله الكبير في العمل بين المستشفى والعيادة الخاصة، فيما يحاول قضاء الوقت المتبقي مع زوجته وأبنائه.
"أنقذني التطبيق"، يؤكد عبد الله، مردفاً "فوائده كثيرة لمن هم مثلي، ودائماً ما يكونون منشغلين في العمل، وأيضا مفيد لكبار السن ممن لا يستطيعون قيادة السيارة والذهاب للتسوق".
خطط
اختير "لباب بيتك" ضمن أفضل 15 مشروعاً ريادياً على مستوى العراق في المؤتمر الدولي للابتكار والريادة في محافظة السليمانية، الذي شهد حضوراً رسمياً عراقياً وعربياً وأجنبياً.
اختيار المشروع حفّز مالك المزرعة محمد النقيب من أجل تطوير المشروع، عن طريق الزراعة على مدار العام وعدم التأثر بالظروف المناخية ومحاربة شحة المياه من خلال توفيرها أكثر عبر مشروع الزراعة المائية، بالإضافة إلى محاولة توسيع الأرض الزراعية واستقطاب مزارعين آخرين للاستفادة من التجربة، كما يوضح لـ"ارفع صوتك".
وعن دور المشروع في توفير فرص عمل وتحدّي أزمة البطالة، يقول النقيب: "يوجد أكثر من 20 شخصاً في المشروع بالكامل، تسعة منهم في المتجر الإلكتروني، بالإضافة إلى خمسة شبان يعملون في خدمة التوصيل".
أثناء حديثه هنا، يشير النقيب إلى أن إحدى النساء العاملات معهم، أرملة ولها أطفال صغار لا يمكنها تركهم وحدهم في البيت والذهاب للعمل، لذلك تعمل من داخل بيتها على تنظيف النباتات الورقية وتوضيبها.
في ختام حديثه، يؤكد أن مزرعته تسعى لنشر ثقافة الطاقة النظيفة وطرق الري الحديثة ليس في الموصل فحسب، بل إلى جميع المحافظات الأخرى، "وهو جزء من أحلامنا في تطوير تقنيات الزراعة داخل العراق".