قد يبدو مستغرباً لكثيرين أن يعلموا أن أغنية "فوق النخل" التي اشتهر بغنائها الفنان العراقي ناظم الغزالي، وغناها بعده العشرات، هي في الأصل أغنية دينية.
في الواقع، النسخة التي غناها ناظم الغزالي مأخوذة من مقطوعة دينية للملا عثمان الموصلي، باللحن نفسه، وكان مطلعها "فوق العرش". اللحن وضعه موصلي على مقام الحجاز وتحوّلت المقطوعة، كما هي الحال مع كثير من الأناشيد الدينية، إلى لحن غنائي معروف.
عثمان الموصلي كان له أثر واضح على ملحنين كبار في بدايات القرن العشرين، من بينهم المصري سيد درويش الذي التقاه في حلب، وتأثر به. وقد حول درويش أحد ألحان الموصلي الدينية إلى أغنية اشتهرت على غرار "فوق النخل" بكلمات أخرى، وهي "زوروني بالسنة مرة حرام تنسوني بالمرة"، وهذه كانت في الأصل أغنية دينية تقول كلماته "زوروا قبر الحبيب مرة".
اشتهرت الأغنيتان كثيراً من دون أن ينسب اللحن بشكل واضح إلى صاحبه الأصلي، الملا عثمان. بل إن مواقع كثيرة تتداول "فوق النخل" على أنها لحن تراثي عراقي، مجهول الصاحب. وفي مواقع أخرى قد تنسب إلى تراث سوري، فيما تتداول مواقع "زوروني كل السنة" على أنها من ألحان سيد درويش من دون ذكر الموصلي.
الفنانة السورية أصالة نصري تقول في مقابلة تلفزيونية إنها كانت تعتقد أن "فوق النخل" من التراث السوري، وكانت تسمعها دائماً من ضمن الموشحات. لكنها تأكدت لاحقاً من أن الأغنية عراقية الأصل.
والمفارقات فيما يخص "فوق النخل" لا تقتصر على أصلها الديني، بل إن الأغنية تثير جدلاً حول كلماتها أيضا، ومعنى مطلعها، هل هو "فوق النخل"، أي فوق شجر النخيل؟ أم أنها "فوق إلنا خل"، بمعنى لدينا في الأعلى حبيب؟
أحد أشهر من غنّى "فوق النخل" بعد ناظم الغزالي، وهو الفنان العراقي الهام المدفعي، يقول في مقابلة تلفزيونية إن مطلع الأغنية هو "فوق إلنا خل"، ويشرح أن "الخل يعني الحبيب"، وأن المقصود ليس شجر النخيل. وهذا الرأي شائع لدى فريق من المهتمين بتاريخ الموسيقى الشرقية، في مقابل فريق آخر يعتبر أن الأغنية ترتبط بالنخيل العراقي، ومطلعها يشير إلى "النخل" فعلا.
كاتب الأغنية هو الشاعر جبّوري النجار، كما يقول الباحث في تاريخ الموسيقى العراقية هيثم شعوبي لـ"ارفع صوتك"، وقد توفي في العام 1976 وأخذ معه "سرّ" ما قصده في مطلع الأغنية.
لكن شعوبي يقول إن اللغط حول الأغنية حصل عندما سجّلها ناظم الغزالي لأول مرة على أسطوانة من توزيع الراحل جميل بشير. وقد سافر الغزالي إلى بيروت لتسجيلها مع فرقته، لكن الكورس العراقي لم يرافق الغزالي، فجرت الاستعانة بكورس من اللبنانيين، الذي نطقوا كلمة "النخل" بكسر الخاء باللهجة اللبنانية، فيما بدا في التسجيل بشكل واضح أن الغزالي ينطقها بفتح الخاء، وبعدها انتشرت الأغنية بصوت صباح فخري الذي كان ينطق "النخل" بكسر الخاء على الطريقة اللبنانية، وهذا ما عزّز لدى كثيرين المعنى الآخر الشائع بأن المطلع هو "فوق النا (لنا) خل (حبيب)"، وهو المعنى نفسه الذي يتحدث عنه المدفعي، كما سبقت الإشارة.
كانت هذه الرواية (فوق إلنا خِل) ترفق غالباً بحكاية شعبية عن شاب كان معجباً بفتاة عراقية تسكن في طبقة عليا من البيوتات البغدادية التي كانت تتألف من طبقة وسرداب وباحة في الوسط تسمى بالحوش البغدادي، كما يقول شعوبي.
ويتابع: "لم يكن هذا الشاب قادراً على أن يفاتحها بإعجابه، بسبب القيود الاجتماعية، فكان يكتب ويغني ويدندن "فوق إلنا خل فوق مدري لمع خده مدري القمر فوق" أو نسخة أخرى تغنى "فوق النا خل فوق مدري لمع خده مدري لمع طوق".
لكن شعوبي يبدو مقتنعاً أكثر بالرواية الأولى، ويرجّح أن يكون مطلع الأغنية هو "فوق النَخَل" وليست "فوق إلنا خِل" و"النخلة رمز عراقي"، وهذا، برأيه، ما عزّز من ارتباط هذه الأغنية بأصلها العراقي الموصلي.