مقاتلون يمنيون في خمسينيات القرن الماضي. (تعبيرية)
مقاتلون يمنيون في خمسينيات القرن الماضي. (تعبيرية)

ضابط عراقي لعب دوراً كبيراً في إثراء الحياة السياسية باليمن حتى إنه قاد ثورة كادت أن تُطيح بالحُكم الإمامي ونصّبته قائدًا للجيش طيلة تمسك الثوار بالسُلطة، هو النقيب جمال جميل.

بحسب ما ذكره الباحث ياسين العسكري، في بحثه "الشهيد العراقي الرئيس جمال جميل ودوره في قيام ثورة 1948 في اليمن"، فقد وُلد جميل عام 1912 في الموصل. وهناك تعلّم حتى المرحلة الإعدادية.

بعدها، دخل في المدرسة العسكرية الملكية عام 1928، ليسير على خُطى أخويه؛ الفريق الركن خليل جميل الذي ترقّى في الجيش حتى كان آمراً لبغداد وقت قيام ثورة 1958، وكذلك اللواء الركن فوزي جميل.

في 1931، تخرج جمال برتبة ملازم ثان. وعقب تخرجه بسنواتٍ قليلة أظهر حماساً ثورياً دفعه للانخراط في مغامرات سياسية داخل العراق وخارجه حتى دفع حياته ثمناً لها.

 

حركة بكر صدقي وقتل وزير الدفاع

 

وفقاً لكتاب "الرصاص السياسي في العراق" للباحث التاريخي فايز الخفاجي، فإن جميل الذي كان برتبة ملازم أول، شارك في انقلاب بكر صدقي سنة 1936، كما أنه أحد الضباط الخمسة الذين تحفّظوا على جعفر العسكري وزير الدفاع وقتها.

بصحبة عددٍ من رفاقه، اقتاد جميل وزير الدفاع حتى ضفة النهر وهناك أطلقوا عليه النار وقتلوه.

رغم تقديم الضباط الخمسة إلى المحاكمة إلا أنهم استفادوا من قانون العفو العام الذي أصدره السياسي حكمت سليمان بعد تعيينه رئيساً للحكومة، استجابةً لمطالب قادة الانقلاب.

 

الطريق إلى ثورة اليمن

 

في 1938، وبعد ضغوطٍ شديدة وافق الإمام يحيى حميد الدين على إرسال 20 فرداً من شباب اليمن لتلقي دراسات عسكرية بالعراق، ثم أُرسلت بعثتان أخريان، لتشكل  هذه البعثات طبقة جديدة من العسكريين اليمنيين الذين آمنوا بضرورة التغيير ومثّلوا لاحقاً العمود الفقري للثورات المتتالية التي لاحقت الحُكم الإمامي.

في هذه الأثناء، عاش اليمن في عُزلة كبيرة عن العالم بسبب معارضة قائده الإمام يحيى لاتخاذ أي إجراء يؤدي لتحديث البلاد.

ذكرت مروى سليمان، في بحثها "العلاقات السعودية- اليمنية في الفترة من 1932 حتى 1953"، أن الإمام يحيى فرض على بلاده ستاراً من العُزلة جعله يُحجم عن تعميق علاقاته البلاد الخارجية بأيٍّ من دول العالم، فكان يأمر مندوبه في الجامعة العربية بعدم الحديث أبداً خلال الجلسات وعدم الإعراب عن أي رأي في أي قضية حتى بات سلوكه الصامت دوماً أمراً يثير السخرية في أروقة الجامعة العربية.

بفعل سياسته الحذرة من الانفتاح على العالم، أمر الإمام بالكفِّ عن إرسال البعثات للخارج على أن يأتي المُدربون العرب ليُمارسوا عملهم تحت رقابة الإمام في المجتمع اليمني المغلق بدلاً من الإقدام على المجهول وإرسال اليمنيين إلى مجتمعات عربية منفتحة، أحد هؤلاء المدربين كان جمال جميل الذي وصل البلاد في 1940.

ووفقاً  لكتاب "العسكريون العرب وقضية الوحدة" لمجدي حماد، فإنه عقب انتهاء مدة بعثته (3 سنوات) خاف النقيب جمال جميل من العودة للعراق كيلا تُعاد محاكمته بتهمة قتل جعفر العسكري فطلب من الإمام أن يُبقيه مدرباً للجيش.

وورد في كتاب "الثقافة الجمهورية في اليمن"، للباحث اليمني علي زيد، أن جميل حمَل أفكار الحرية والتغيير إلى اليمن ونشرها بين المتدربين، ليحقق شعبية كبيرة بين تلاميذه، حتى إنه عُيّن مديراً لأمن صنعاء، وهو ما علّق عليه عبد الرحمن سلطان في كتابه "الثورة اليمنية وقضايا المستقبل" بالقول إن "روحه (جميل) الثورية دعّمت الكثير من الأفكار التحررية عند كثير من الضباط اليمنيين الذين دربهم".

خلال هذه الفترة زاد تطلُّع عددٍ كبيرٍ من الأسر الهاشمية إلى العرش رافضة حصره على أسرة حميد الدين تحديداً ومنهم عبد الله الوزير زوج ابنة الإمام الذي ينحدر من البيت الهاشمي أيضاً، ما جعله يعتبر نفسه أهلاً للعرش اليمني.

تعاوَن الوزير مع اثنين من الثوريين العرب الذين اعتبروا أن الحُكم الإمامي عقبة أمام تطوير اليمن، هما الضابط العراقي جمال جميل والجزائري فضيل الورتلاني عضو جماعة الإخوان المسلمين، على تدبير ثورة ضد الإمام.

هذا الدور خلّده الشاعر الثائر عبد الله البردوني في أحد أبيات قصيدته "بطاقة موظف متقاعد"، حيث قال "تقصّيتُ ضيفاً يُسمّى جمالاً.. تعقّبتُ ضيفاً يُسمّى الفُضيل".

 

ثورة الـ25 يوماً

 

في فبراير 1948 هاجم الثوار الإمام يحيى حميد الدين عقب خروجه من إحدى مزارعه القريبة من صنعاء، ونجحوا في قتل الإمام وتنصيب عبد الله الوزير بدلاً منه.

وفور مقتل الإمام يحيى، قاد جميل قاد فرقة عسكرية  -كان عبد الله السلال أول رئيس للجمهورية اليمنية عضواً فيها- داهمت قصر الإمام واستولت على المستودعات الحكومية ومخازن النقود، بحسب كتاب "تاريخ اليمن المعاصر".

ولعب جميل دوراً رئيسياً في الانقلاب بعد قتل الحسن والحسين ابني الإمام. وبعد نجاح الحركة في السيطرة على صنعاء، بادر القادة الجُدد إلى تعيين الضابط العراقي قائداً عاماً للجيش اليمني ومديراً للأمن العام في صنعاء.

بدت الثورة في طريقها للنجاح بعدما اعترف شيوخ صنعاء بالوزير إماماً ودعوا في صلاة الجمعة باقي الشعب اليمني للاعتراف به ملكاً على عموم البلاد، إلا أن ولي العهد أحمد سارَع إلى تكوين جيش من القبائل المتحالفة مع والده بعدما تلقت دعماً مالياً من الملك سعود الرافض لهذا الانقلاب.

وفي مارس من العام  نفسه، دخل أحمد صنعاء، بعد 25 يوماً من استيلاء الثوار عليها، ونصّب نفسه إماماً خلفاً لوالده.

في كتابه "اليمن: الإنسان والحضارة"، وثّق القاضي عبد الله الشماحي اللحظات الأخيرة من حياة جميل، حاكياً أن اليوم الأخير للحُكم الثوري انتهى بعدما هاجم جيش الإمام أحمد صنعاء وحوّلها إلى "شعلة صراخ وطلقات وبنادق ورشاشات" انتهت بالاستيلاء على مقر الحُكم والقبض على الوزير ثم مقر الإذاعة ولم يبقَ إلا مقر قيادة جمال جميل".

وأضاف: "أحاطت القبائل بمقر قيادة جميل وصبّت عليه وابلاً من الرصاص، وقد قاوم مقاومة الأبطال حتى خرج من باب خلفي فوقع في الفخ وقُبض عليه".

أعدَّ الإمام أحمد للضابط العراقي "موكب عار" اقتيد فيه بصحبة 70 من قادة الانقلاب مربوطين بالأغلال من أيديهم وأعناقهم إلى محافظة حجة (127 كم بعيداً عن صنعاء)، خلال الرحلة الشاقة طاف الجنود بهم على القرى حيث تُركوا لعوام الناس من أنصار الإمام ليقذفوهم بالطوب والشتائم والقاذورات طوال الطريق، قبل أن يصلوا إلى ساحة قصر الإمام أحمد، وفيها جرى إعدامه بالسيف، ليكون رأسه هو "القربان الذي قدمه المناضلون للثورة اليمنية"، على حد وصف عبد الرحمن سلطان.

من أكثر المواقف التي خلّدت لحظة وفاة جميل بأنه صرخ في وجه الإمام قبل وفاته بعبارته الشهيرة "أحبلناها وستلد"، في إشارة إلى أن الثورة العسكرية المقبلة التي ستطيح بحُكمه لن تتأخر كثيراً.

وهو ما تحقق في السنوات التالية. فرغم فشل حركتهم إلا أن هذا الانقلاب أثار رجّة في المجتمع اليمني بعدما نُظر إليه كمحاولة أولى لإنهاء النظام الإمامي.

ووفقاً لما ذُكر في كتاب "تاريخ اليمن المعاصر"، فإن "الذين شاركوا في هذا الانقلاب لهم فضل في إيقاظ جماهير اليمن بقُدرة الشعب على تقرير مصيره وتحمّل مسؤولية أعماله".

ورغم سقوط انقلاب جميل فإن بعض تلاميذه استمروا في محاولات التغيير ودخلوا السجون وبعضهم شارك في بناء النظام الجمهوري الذي قام على أنقاض الحُكم الإمامي، منهم محمد علي الأكوع الذي شارك في حركة 1955 وعقب فشلها هرب إلى عدن ثم عاد إلى اليمن خلال العهد الجمهوري ليعيّن وزيراً للداخلية.

وأيضاً أحمد الحافي، الضابط اليمني الذي شارك في تشكيل عصبة "الحق والعدالة" أول تنظيم سياسي ثوري عرفه اليمن عقب فشل ثورة 1948.

وشهدت هذه الحركة مشاركة ثلاثة ضباط هم عبد الله السلال وحمود الجائفي وأحمد الثلايا، الذين سُجنوا بسبب ذلك، إلا أنهم أُعيدوا للخدمة مرة أخرى.

وفي 1955، قاد الثلايا تمردا آخر فشل مُجدداً وهذه المرة أُعدم لقاء ذلك.

أما السلال، فقاد ثورة 1962 التي أنهت الحُكم الإمامي في اليمن، وكان من قرارتها الرئيسية اعتبار جمال جميل "بطلاً وطنياً وشهيداً من أجل تحرير اليمن"، كما أطلق اسمه على شارع رئيس في صنعاء.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.