صورة أرشيفية لشط العرب في العراق- تعبيرية
صورة أرشيفية لشط العرب في العراق- تعبيرية

احتلت أخبار الرحلات مكانة مهمة في كتابات العصور الوسطى، حيث سافر العديد من الرحالة إلى مختلف أنحاء العالم المعمور في تلك الفترات، ودونّوا ما شاهدوه في بعض الكتب التي تناقلها الناس عبر القرون.

كان الرحالة الإيراني ناصر خسرو واحداً من أشهر الرحالة في القرن الحادي عشر الميلادي، وزار جنوب العراق خلال جولته في الدول الإسلامية التي استمرت سبعة أعوام، دوّن مشاهداته خلالها في كتاب أسماه "سفر نامة".

 

من هو ناصر خسرو؟

ولد الرحالة ناصر خسرو علوي في منطقة قباديان الإيرانية لأسرة متوسطة الحال. ويُرجح أنه ولادته وقعت عام 1003. تلقى تعليماً جيداً في بدايات حياته ثم التحق بخدمة الغزنويين الذين كانوا يحكمون معظم أرجاء إيران في نهايات القرن الرابع وبدايات القرن الخامس الهجريين.

بعد تحول الدفة السياسية لصالح السلاجقة، التحق خسرو بالعمل في خدمتهم، وشغل بعض وظائف الكتابة والإدارة للأمير السلجوقي جفري بك حاكم خراسان.

يوجد خلاف حول المذهب الذي اعتنقه خسرو فى بداية حياته، لكن من المؤكد أنه -في فترة مبكرة – بدأ يتفكر فى حقيقة الدين والمذاهب المختلفة، فدرس الفلسفة والحكمة والأديان، حتى اعتنق المذهب الشيعي الإسماعيلي في نهاية المطاف، وأضحى واحداً من دعاته البارزين.

 

"سفر نامة"

يُعدّ كتاب "سفر نامة" من أهم وأشهر كتب خسرو، حيث سجّل فيه الرحالة الفارسي مشاهداته وتوصيفاته لما شاهده في رحلته حول البلاد الإسلامية، التي امتدت سبعة أعوام كاملة (437 هـ - 444 هـ).

في تلك الرحلة، تجوّل خسرو في إيران وأذربيجان وأرمينية والشام وفلسطين ومصر والحجاز وجنوب العراق، وهدفه الرئيسي منها أداء فريضة الحج، وزيارة مقر الدعوة الإسماعيلية الفاطمية في القاهرة لمقابلة الخليفة الفاطمي المستنصر بالله.

يذكر الباحث المصري محمد السعيد جمال الدين في دراسته "الطريق إلى مصر الفاطمية، دراسة في دوافع ناصر خسرو للارتحال إلى القاهرة"، أن الظروف السياسية والمذهبية التي عايشها خسرو أثرت كثيراً في اختياره للطريق الذي سلكه في رحلة الذهاب إلى مكة.

كان العباسيون الذين يحكمون بغداد في تلك الفترة أعداء للخلافة الفاطمية وللمذهب الإسماعيلي. يقول جمال الدين "لم يشأ -ناصر خسرو- أن يخرج مع قافلة الحجيج التي كانت تنطلق من البلد كلّ عام، بل ابتعد عن القافلة، ولم يسلك طريق الحجّ المعروف المتجه إلى الغرب مباشرة نحو العراق وبغداد، إنما سلك طريقاً متعرجاً فاتّجه إلى الشمال الغربي ثمّ انحدر من أذربيجان إلى الجنوب الغربي نحو الشام وفلسطين، فبدا كأنه قد تفادى المرور في العراق -موطن الخلافة العباسية- كلية".

 

البصرة وشط العرب

أقام ناصر خسرو في مصر لمدة ثلاثة أعوام، ثم قرر العودة إلى بلاده. عن طريق الحجاز، ثم فلج، والحسا، قبل أن يبلغ جنوبي العراق، وتحديداً البصرة عام 443 هجرية (الموافق 28 ديسمبر 1051).

وتحدث في كتابه "سفر نامة" عن الحالة المزرية التي كان عليها مع أخيه حين وصلا إلى البصرة بعد طول سفر. يقول خسرو "حين بلغنا البصرة كنا من العري والفاقة كأننا مجانين... ولم يكن علينا ملابس. كنت أنا وأخي كلانا نلبس فوطة بالية وعلى ظهرينا خرقة من الصوف متدلية من الرأس...".

آنذاك، اضطر لبيع السلال التي وضع فيها كتبه النفيسة وتوجه إلى حمّام المدينة للاستحمام وإزالة الأوساخ التي أصابته في رحلته، ليُفاجأ برد فعل صاحب الحمام "...فلمّا قدمت إليه هذه الدريهمات نظر إلينا شذراً وظن أننا مجانين وانتهرنا قائلاً: اذهبوا فالآن يخرج الناس من الحمام ولم يأذن لنا بالدخول. فخرجنا في خجل ومشينا مسرعين. وكان بباب الحمام أطفال يلعبون فحسبونا مجانين فجروا في أثرنا ورشقونا بالحجارة وصاحوا بنا فلجأنا إلى زاوية وقد تملكنا العجب من أمر الدنيا...".

رغم تلك البداية المحبطة، سار خسرو على عادته في تسجيل مشاهداته للمدن العظيمة التي مر بها في سفره، فكتب في وصف البصرة: "لها سور عظيم يحيط بها ما عدا الجزع المطل على النهر... وهي مُقسمة إلى عشرين حياً كبيراً".

ثم عمل على تسجيل الأوصاف الجغرافية لشط العرب بشكل مُفصّل: "يلتقي دجلة والفرات عند حدود مدينة البصرة ويلتقي بهما أيضاً قناة المويزة فيسمى النهر حينئذ شط العرب. ويتفرع من شط العرب هذا قناتان كبيرتان بين منبعهما مسافة فرسخ وقد شقا صوب القبلة مسافة أربعة فراسخ ثم يلتقيان ويكونان قناة واحدة تسير مسافة فرسخ واحد ناحية الجنوب ومن هاتين القناتين شُقت ترع كثيرة مدت في كل الأطراف وغرست أشجار النخيل والحدائق على شواطئها...".

بعدها، اهتم الرحالة الفارسي بوصف مظاهر العمران التي لاقها في بعض أنحاء البصرة فقال "... والجنوب الغربي للبصرة صحراء ليس بها عمران ولا ماء ولا شجر مطلقاً وكان معظم البصرة خراباً ونحن هناك. والجهات العامرة متباعدة جداً من واحدة لأخرى نصف فرسخ من الخراب. ولكن بابها وسورها محكمان وقويان وبها خلق كثير...".

من جهة أخرى، أشار خسرو للحالة السياسية في تلك الفترة. فقال إن حاكم المدينة كان الأمير ابن أبي كاليجار الديلمي المنحدر من نسل الملوك البويهيين الفرس، وتحدث أيضاً عن بعض الوزراء ورجال الدولة المهمين، مثل وزير ملك الأهواز أبو الفتح علي بن أحمد، الذي وصفه بأنه "رجل أخلاق وفضل يجيد معرفة الشعر والأدب وكان كريماً، وقد جاء البصرة مع أبنائه وحاشيته وأقام بها...".

تحدث كذلك عن الحالة الاقتصادية والتجارية للبصرة، فقال مقدماً وصفاً وافياً لحالة الأسواق ولطبيعة عملها: "... وينصب السوق في البصرة في ثلاث جهات كل يوم. ففي الصباح يجري التبادل في سوق خزاعة، وفي الظهر في سوق عثمان، وفي المغرب في سوق القداحين...".

من الأمور المهمة التي رواها خسرو في كتابه أيضاً، أنه بيّن كيفية تعامل التجار البصريين مع بعضهم البعض بنظام الصكوك، وكيف أنهم استبدلوا العملات الذهبية بأوراق رسمية "...والعمل في السوق هكذا كل من معه مال يعطيه للصراف ويأخذ منه صكاً ثم يشتري كل ما يلزمه ويحول الثمن على الصراف فلا يستخدم المشتري شيئاً غير صك الصراف طالما يقيم بالمدينة..."، وهذا الوصف يدلّل على الازدهار التجاري الكبير الذي عرفته البصرة في القرن الخامس الهجري بالإضافة لحالة الاستقرار السياسي والأمني.

بعد ذلك وصف معالم دينية، بقوله "في البصرة ثلاثة عشر مشهداً باسم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، يُقال لأحدها مشهد بني مازن... وبجانب المسجد الجامع مشهد آخر يسمى مشهد باب الطيب...".

كذلك أورد خسرو -على عادة أغلبية الرحالة القدامى- بعض التفاصيل الأسطورية الطابع التي نقلها من الثقافة الشعبية السائدة. من ذلك قوله "... ورأيت في مسجد البصرة عموداً من الخشب طوله ثلاثون ذراعاً وسمكه خمسة أشبار وأربعة أصابع وكان أحد طرفيه أسمك من الطرف الآخر قيل إنه من أخشاب بلاد الهند استولى عليه أمير المؤمنين علي وأحضره للبصرة". من الصعب تصديق تلك القصة، لا سيما أنه لا يوجد أي مصدر تاريخي موثق ذكر أن علي بن أبي طالب سافر إلى الهند.

من الملاحظات المهمة التي تركها لنا خسرو في "سفر نامة" أنه ترك وصفاً تفصيلياً لظاهرة المد والجزر التي كانت تحدث في مياه شط العرب، يقول "يحدث المد ببحر عمان عادة مرتين كل أربع وعشرين ساعة فيرتفع الماء بمقدار عشر أذرع وحين يبلغ الارتفاع أقصى مداه يبدأ الجزر بالتدريج فينخفض الماء عشراً أو اثنتي عشرة ذراعاً...".

مما يُحسب له أنه ذكر صراحةً أن المد والجزر يحدثان بسبب القمر، ما يعكس صورة الثقافة الفلكية الراقية التي وصل إليها المسلمون في القرن الخامس الهجري.

في ختام سرده لمشاهداته في البصرة، تحدث خسرو عن منطقة الأبلة، فقال إنها مدينة عامرة، وإنها "من الجمال بحيث لا يمكن حدها أو وصفها". كما وصف ما فيها من الشوارع والمساجد والأسواق والأبنية العظيمة التي "لا يوجد أحسن منها في العالم".

في النهاية، تحدث عن مغادرته للبصرة متوجهاً شرقاً ناحية إيران في منتصف شهر شوال عام 443 هـ (20 فبراير 1052) بعد أن أمضى حوالي شهرين في الجزء الجنوبي الشرقي من بلاد الرافدين.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.