أنجب علي جليل ستة من الأبناء وهو بانتظار طفله السابع الذي سيأتي إلى الحياة بعد ثلاثة أشهر فقط. ورغم أنه لا يكاد يسد رمق أبنائه، كونه عامل بناء بسيطا، إلا أنه يرى أن "كل طفل يأتي ورزقه معه".
يشرح المواطن العراقي لـ"ارفع صوتك" طبيعة حياته البسيطة: "ولدت لأسرة كبيرة تعمل في الزراعة ولدي 11 أخاً وأختاً، أقل شخص من المتزوجين منهم أنجب اليوم خمسة أطفال، ونحن معا نشكل قوة وسنداً لبعضنا على الرغم من الوضع المادي الذي نعاني منه جميعاً".
العبارات التي استخدمها علي، تصفها الباحثة الاجتماعية خديجة الجنابي بأنها "دستور ومبرر لإنجاب المزيد من الأبناء لدى الكثير من العوائل البسيطة والفقيرة في العراق، فكل طفل سيأتي برزقه بغض النظر عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لمستقبل هذا الطفل".
وترى الجنابي أن هذه القناعة "نابعة من الأعراف والتقاليد الاجتماعية التي تحث على الإنجاب لزيادة قوة العشيرة أو الطائفة".
"والبعض يعتبر استخدام وسائل منع الحمل أمراً محرماً أو على الأقل مكروهاً من الناحية الدينية"، تضيف الجنابي لـ"ارفع صوتك".
وتتابع: "بالمحصلة النهائية، وصل العراق إلى مرحلة حرجة من حيث عدد السكان"، محذرةً من "خطورة عدم إيجاد حلول لهذه المعضلة السكانية التي من شأنها التأثير سلبياً على المجتمع من خلال ارتفاع نسب العاطلين عن العمل، وتردي الوضع الاقتصادي في العوائل الكبيرة، بالتالي التسرب من المدارس وعمالة الأطفال والزواج المبكر وارتفاع نسب الطلاق".
"انفجار سكاني"
وفقاً لبيانات وزارة التخطيط العراقية فإن عدد السكان تجاوز 43 مليون نسمة عام 2023 وبنسبة نمو سنوي يصل إلى 2.5%، فيما تجاوزت الولادات المليون ولادة منذ عام 2018 مع تأشير تراجع بمعدلات الخصوبة.
يقول الباحث الاجتماعي حيدر نعمة في بحثه الذي حمل عنوان "اتجاهات النمو الديمغرافية في العراق والتداعيات الاقتصادية"، إن العراق من البلدان التي تعيش في المرحلة الثانية من مراحل النمو السكاني، التي تسمى بالمرحلة الديمغرافية الشابة أو مرحلة الانفجار السكاني.
تتميز هذه المرحلة بالنمو السريع للسكان نتيجة استمرار ارتفاع معدلات الولادات يقابلها انخفاض معدلات الوفيات، مع تميز الهرم السكاني بارتفاع نسبة صغار السن حيث يشكل نسبة من هم بسن 24 سنة فما دون 57%.
هذه الوثبة الديمغرافية كما يسميها نعمة تعد "سيفاً ذا حدين، فمن جهة لها آثار تنموية وأمنية مهمة إذا ما استغلت بصورة سليمة. فمن خلالها ستزداد القوى العاملة ويتوسع حجم السوق المحلية وسيُمكن الدولة من تأمين الجانب الأمني للبلد في أوقات الحروب والأزمات وغيرها".
من جهة ثانية، إذا لم تُحسِن الحكومات المتلاحقة استغلالها فإنها ستكون لها آثار اجتماعية سلبية منها الضغط على الموارد الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية وارتفاع معدلات البطالة والجريمة وزيادة الضغط على خدمات الصحة والتعليم والنقل والسكن والبنية التحتية.
تحديات
التحديات التي يواجهها المجتمع العراقي بسبب الزيادة السكانية الهائلة يلخصها فيصل عبد اللطيف في بحثه "التضخم السكاني والتحولات الديمغرافية في العراق: تحد للأمن الإنساني ومدخل لزعزعة الاستقرار السياسي والمجتمعي".
وقال فيه، إن العراق يواجه تحدياً وخطراً حقيقياً آنياً وعلى المدى المتوسط والبعيد، ناتج من ارتفاع معدلات الإنجاب والخصوبة بين سكانه، إذ يضغط نمو السكان متسارع الوتيرة في العراق على البنية التحتية المتداعية وعلي الموارد الطبيعية المتناقصة.
ولا تنبع مخاطر التضخم السكاني من الزيادة في أعداد السكان وحدها إذ تفاقم مشكلة زيادة نسبة الفئة العمرية الشابة التي تتراوح أعمارها بين 15-24 سنة وانعدام سبل استيعابهم في منظومة الإنتاج الاقتصادية المشوهة أصلاً والاستجابة إلى تطلعاتهم.
مع ذلك، يرى عبد اللطيف أن "امتلاك أي أمة من الأمم كتلة سكانية فتية يعتبر أحد مصادر القوة لهذه الأمة، بشرط أن تكون هذه الفئة العمرية من السكان متمكنة وتتمتع بصحة جيدة وتعليم عصري ومهارات ودربة عالية، يرافق ذلك وجود اقتصاد حيوي منتج يستوعبها ويستفيد من طاقاتها وإنتاجيتها وقدراتها".
لكن، عوامل استثمار الثروة البشرية وتوظيفها "إما غائبة أو معدومة أو مشوهة قدر تعلق الأمر بالوضع العراقي"، بحسب عبد اللطيف.
ويحذر من أن "انسداد آفاق المستقبل أمام الأعداد المهولة من البشر والذي يشكل الشباب الجزء الأكبر منه، سيقود بصورة حتمية إلى دفع كثير منهم إما للانضمام إلى فصائل مسلحة أو عصابات الجريمة أو اتخاذ مسالك خطرة للهجرة غير الشرعية، بالتالي تهديد الأمن والسلم المجتمعيين وما يحمله ذلك من تبديد وهدر لأحد أهم عناصر الثروة البشرية في البلاد".

ما الحل؟
يمكن لتغيير السياسات الاقتصادية أن يحول دون وقوع كارثة محتملة في العراق بسبب عدم قدرة الجهاز الإنتاجي على استيعاب الأعداد الكبيرة من السكان لتوفير سبل العيش والتطوير بعيداً عن الاعتماد على النفط فحسب.
جاء ذلك في بحث حمل عنوان "سكان العراق: المسار الحتمي والفرص الممكنة والاستجابة المحدودة"، ويقول صاحبه علي الكعبي، إن الاقتصاد العراقي يواجه تحديات هيكلية تحد من نموه السريع مرتبطة بهيمنة النفط وارتفاع تكلفة إدارة دولة الرفاه المبنية على توزيع البيوع النفطية.
نتيجة لذلك، تتكفل الحكومة بتوظيف المواطنين في القطاع الحكومي وتوفير الخدمات بتكاليف رمزية، مما أدى إلى تضخم القطاع العام وعزف الناس عن العمل في القطاع الخاص.
ويمكن القول، وفق ما الكعبي، بأن العراق "لم يفلح في مواكبة نمو القوى العاملة مع معدل النمو الحالي"، مردفاً "أما التحدي الأكبر في التهيئة لاستثمار التضخم السكاني، فهو التحدي السياسي الذي يؤثر في بيئة رأس المال وهو القادر الوحيد على تلبية سوق العمل وعرض فرص العمل بعيداً عن القطاع العام المتخم، وانعكاسات هذه العملية على تحسين نوعية الحياة".
لذلك، فإن مستقبل الحياة الاقتصادية والنمو الاقتصادي يرتبط بقدرة العراق على تطوير سوق العمل، وهو يتطلب تحسين نوعية التعليم والتدريب وتطوير الأسواق المالية والسياسات الكلية والضريبية التي تعطي أولوية للقطاع الخاص وتضمن إبرام العقود في بيئة مؤسساتية سليمة.
ويخلص الكعبي إلى أن الاستثمار في العراق لا يزال ضعيفاً رغم أنه الوحيد القادر على امتصاص طلب العمل عبر تكثيف قوة العمل بدلاً من تكثيف قوة رأس المال، من خلال الصناعات الصغيرة كثيفة العمل وقليلة رأس المال، للإفادة من التحول الديموغرافي.