دخل رفعت الجادرجي إلى عالم الهندسة المعمارية بـ"الصدفة" ليحصد لقب "فيلسوف العمارة"، محوّلاً جدران مبانيه إلى لوحات تشكيلية تجمع بين التراث والحداثة وتلبي احتياجات المجتمع.
اشتهر الجادرجي بتصميم القاعدة التي علق عليها الفنان جواد سليم "نصب الحرية" في ساحة التحرير ببغداد عام 1958، الذي أصبح مركزاً للاحتجاجات المناهضة للحكومات المتعاقبة.
تعمق الجادرجي بالفن التشكيلي وعشق التصوير الفوتوغرافي موثقاً التنوع الجغرافي والثقافي العراقي، ووجد في الكتابة منفذاً للحرية حين حُكم عليه بالسجن المؤبد، ليخرج منه مكلفاً بإعادة إعمار بغداد، قبل أن يختار الحياة في المنفى حتى وفاته بفيروس كورونا في العاشر من أبريل قبل أربع سنوات عن عمر 93 عاماً.
وصف الدكتور خالد السلطاني الذي أرخ للكثير من منجزات العمارة في العراق، منجز الجادرجي المعماري على أنه "تمرين إبداعي حيث يرتقي المعمار بصياغة واجهاته وأشكال عناصرها المألوفة إلى جماليات اللوحة التشكيلية دون أن تقتصر معالجته على الواجهة الأمامية فقط".
البداية
ينتمي رفعت الجادرجي إلى عائلة أرستقراطية ذات نفوذ كبير في العهد الملكي، فوالده هو السياسي كامل الجادرجي مؤسس "الحزب الوطني الديمقراطي" وصاحب جريدة "صوت الأهالي"، وجدّه الذي سمي على اسمه، كان رئيس بلدية بغداد أواخر العهد العثماني.
وفرت له عائلته كل الإمكانات المتاحة للدراسة والاطلاع منذ طفولته، وما إن أكمل الدراسة الثانوية حتى بدأ يفكر بالتوجه نحو هندسة الكهرباء.
في أحد لقاءاته التلفزيونية تحدث الجادرجي عن "عامل الصدفة" الذي ألقى به إلى عالم الهندسة المعمارية، قائلا: "كنت أتهيأ لدراسة هندسة الكهرباء وكنت أناقش الموضوع مع أحد الأصدقاء الذي سألني لماذا تدرس الكهرباء وأنت مطلع كثيرا على تاريخ الفن والشعر الإنجليزي والموسيقى، فلماذا لا تدرس شيئا له علاقة. وسألني كيف أنت مع العمارة؟ حينها قررت في نفس اليوم أن أدرس في هذا المجال".
انطلق لدراسة فنون العمارة والتصميم في لندن (1946-1952) بمدرسة "هامرسميث للفنون والحرف "، وحين عاد إلى العراق عام 1952 أسس مع مجموعة من المعماريين العراقيين الطموحين مكتب "الاستشاري العراقي" كما تم تعيينه مستشاراً في دائرة الأوقاف.
خلال تلك الفترة قام الجادرجي بترميم العديد من البيوت التراثية، كما اشتهر بتصميم البيوت والمباني الرسمية وغير الرسمية والنصب التذكارية التي اهتم من خلالها بإبراز فلسفته في الهندسة من خلال المزج بين العمارة التقليدية والحديثة، حتى تجاوز عددها 100 تصميم في مختلف محافظات العراق.
"نصب الحرية"
بعد الانقلاب الذي قاده عبد الكريم قاسم ضد الحكم الملكي عام 1958 كلفت أمانة بغداد الجادرجي بتنفيذ عدد من التصاميم، اثنان منها أصبحا لاحقاً من أشهر أعماله، وهما نصب "الجندي المجهول" ونصب "الحرية".
صمم الجادرجي القاعدة التي ثبت عليها جواد سليم منحوتاته كما قال في لقاء تلفزيوني عبر استلهام غليان الشارع العراقي بالمتظاهرين الذين يحملون لافتات مكتوبة عليها شعارات عديدة.
فصمم النصب على شكل لافتة عريضة بـ50 متراً وعلى ارتفاع 8 أمتار، ليتحول النصب إلى أحد أهم الرموز في بغداد حيث مقر المظاهرات والاحتجاجات آخرها كان "احتجاجات تشرين" في خريف 2019، التي طالبت بإسقاط الحكومة.
واستلهم الجادرجي نصب "الجندي المجهول" من معاناة الأم العراقية التي سقط ولدها "شهيداً" في المعركة، فكان التصميم يشبه أما تنحني لالتقاط طفلها الذي تمثله شعلة تغذيها منظومة غاز على مدار الساعة.
تميز النصب بالبساطة في المظهر فكان على هيئة جدار مقوس عال شبه مدبب من الأعلى، وفي قاعدتيه نافذتان على شكل هلال نهايتهما تشكل قاعدة النصب.

تدمير
خلال حياته شهد الجادرجي على هدم وتشويه العديد من أعماله، أهمها نصب "الجندي المجهول" الذي نفذه مطلع الستينيات بجانب الرصافة من بغداد في الساحة التي أطلق عليها اسم "ساحة الفردوس".
هُدم النصب عام 1982 بأوامر مباشرة من رئيس النظام الأسبق صدام حسين، وحضر الجادرجي العملية بنفسه ووثقها بكاميرته الشخصية، بل والتقط صورة له بالقرب من الأنقاض ومع الشخص الذي أشرف على الهدم.
وحين سؤل في لقاء تلفزيوني عن سر حضوره لعملية الهدم، قال: "كنت أرغب بتوثيق تلك اللحظة"، مبدياً قناعته بتوقع أنه "لن تبقى أي من أعماله" مردفاً: "نحن كمجتمع لا نحافظ على تراثنا... لذلك أنا أوثق أعمالي عند التصميم وحين يبدأ التشييد وحتى عند التشويه أو الهدم".
حل محلّ النصب تمثال لرئيس النظام السابق وهو يلوح للجماهير، وهو ذات التمثال الذي شهد العالم بأكمله على إسقاطه ثم سحله من قبل مدرعة أميركية ومواطنين عراقيين في عام 2003.
لم يكن نصب "الجندي المجهول" آخر أعمال الجادرجي التي تعرضت للهدم أو التشويه، فقد تعرض مبنى البريد المركزي في السنك بجانب الرصافة الذي بني أوائل السبعينيات للقصف خلال الحروب العديدة التي خاضها العراق، كما تعرض مبنى اتحاد الصناعات العراقي للحرق عام 2003.
وفي الموصل جرى تدمير مبنى "شركة التأمين الوطنية" التي صممها الجادرجي عام 1966 خلال المعارك مع تنظيم داعش، بعد أن حولها التنظيم المتشدد إلى مقر له ومركز للإعدام، لتشهد على إلقاء من يتم اتهامهم بالمثلية الجنسية من أعلى البناية.
توثيق فوتوغرافي
في لقاء تلفزيوني معها، وصفت زينة عريضة مديرة "المؤسسة العربية للصور" رفعت الجادرجي بأنه "مهووس بالتصوير".
وعلى الرغم من أنه ليس مصوراً محترفاً إلا أنه كان "يصور الحياة اليومية في الشوارع ليس في بغداد فحسب بل في كل المدن التي كان يزورها أو يعيش فيها".
بدأ ولع الجادرجي بالتصوير الفوتوغرافي من خلال والده الذي وثق في بضع مئات من الصور الحياة اليومية للعراقيين خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وأكمل الابن مسيرة والده عبر دراسة منهجية للتصوير الفوتوغرافي لمدة عامين في الولايات المتحدة الأميركية.
وظهر في فيلم وثائقي عن شارع الرشيد وهو يتجول برشاقة ويلتقط الصور ويتحدث عن عمارة الشارع التراثي وكيفية النهوض به من جديد.
أهدى الجادرجي قبل وفاته "المؤسسة العربية للصور" نحو 50 ألف صورة فوتوغرافية وثقت الحياة العراقية اليومية في جميع محافظات العراق.

بين ظلمتين
في عام 1978 حكم على الجادرجي بالسجن المؤبد خلال رئاسة أحمد حسن البكر، وأمضى قرابة عامين في سجن "أبو غريب" قبل أن يطلق سراحه من قبل صدام حسين للإشراف على استعدادات عقد مؤتمر عدم الانحياز بغداد عام 1983.
في تأبينها له، تحدثت بلقيس شرارة زوجة الجادرجي عن نظرته إلى الحياة التي تتميز بـ"الإيجابية" حتى في أحلك الظروف التي مر بها بعد أن حُكم عليه بالسجن المؤبد، إذ "استغل كل لحظة قضاها في السجن واتجه نحو الكتابة".
أنهى الجادرجي في السجن كتابين هما "صورة أب" و"شارع طه وهمرسمث"، وبدأ في كتابه "الأخيضر والقصر البلوري" الذي أنهى معظمه في السجن.
فتحت له الكتابة أبواباً جديدة، فكرس حياته لها، واستمر في البحث والكتابة حتى بعد أن أفرج عنه من السجن، فكتب أكثر من عشر مؤلفات أحدها وثق الفترة التي سجن فيها عبر كتاب حمل عنوان "جدار بين ظلمتين" كتبه بالتعاون مع زوجته.
ونال الجادرجي عدة جوائز منها "الأغا خان" عام 1986 وجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2008 عن مؤلفه "في سببية وجدلية العمارة"، وجائزة "تميز" للإنجاز المعماري مدى الحياة عام 2015.
استمر في عمله بعد خروجه من السجن للأعوام( 1982-1983) قبل أن يقرر ترك التصميم المعماري والتفرغ للعمل الأكاديمي والتأليف بشكل كامل.
هاجر الجادرجي العراق في 1983 واستقر لما تبقى من حياته في بريطانيا حتى وفاته عام 2020 بكورونا.