على باب القاضي في إحدى المحاكم العراقية كانت سناء (اسم مستعار) تنتظر رفقة ابنها (14 عاماً)، قراراً مصيرياً يتعلق بنسبه إلى والده، الذي أنكر زواجه منها بعقد زواج تم إبرامه خارج المحكمة خلال فترة الحرب الطائفية (2006-2007).
لم يحتج الفتى إلى الحديث، فالانكسار في عينيه وتجنبه الحديث مع من يتحدث معه يشي بأزمة نفسية نتيجة رفض والده الاعتراف به.
بدأت الحكاية في سوريا عندما تعرفت سناء إلى زوجها الذي كان هاربا من جحيم العنف الطائفي في العراق.
تروي لـ"ارفع صوتك": "ما ن عدنا إلى العراق واكتشفت الحمل حتى هجرني ورفض الاعتراف بالطفل رغم امتلاكي عقد الزواج".
وتضيف: "حاولت معه بكل الطرق الممكنة لكنه رفض الاعتراف بالطفل، واتهمني بأني كنت على ذمة زوجي الأول حين تزوجت به، وقمت بخداعه بهدف كسب الوقت وتطويل أمد القضية".
بعد انتظار طويل، صدر الأمر باستدعاء الأب لمطابقة الحمض النووي (DNA). ورغم أن القرار لم يحسم القضية إلا أنه "يبشر بخير بعد أكثر من ثلاث سنوات على الشكوى التي قدمتها أول مرة،" تقول سناء.
وتُعقد غالبية عقود الزواج غير المسجلة في المحاكم على يد رجال دين وتسمى "عقد زواج السيد" بالنسبة لمن يعقدون زواجهم وفق المذهب الجعفري، أو "عقد زواج الشيخ" بالنسبة لمن يعقدون زواجهم وفق المذهب الحنفي، بحسب دراسة حملت عنوان "ظاهرة عقد الزواج الخارجي في قانون الأحوال الشخصية العراقي".
تذكر الدراسة أن المشرع العراقي لم يعتبر عقود الزواج خارج المحكمة باطلة أو غير صحيحة إنما حدد طرقاً لإثباتها في المحاكم، إما عن طريق طلب يقدم من الزوجين إلى المحكمة لتثبيت عقد الزواج في حال اتفاقهما دون إنكار الزوجية من أحدهما، أو عن طريق قيام دعوى قضائية لتثبيت عقد الزواج في حال وجود أطفال بينهما أو إنكار أحد الزوجين للزوجية.
حقوق "ضائعة"
للظاهرة آثار ضارة على الزوجين بشكل خاص وعلى المجتمع بشكل عام. ورغم تجريمها من قبل المشرع العراقي وفق النصوص القانونية إلا أن ذلك لم يحد منها. فالعراقيون يبرمون عقود الزواج لدى رجال الدين أولاً ثم يتم تسجيلها في المحكمة.
وعندما أوجس المشرع العراقي خطورة إبرام عقود الزواج خارج المحكمة أصدر التعديل الثاني لقانون الأحوال الشخصية العراقي بالقانون (رقم 21 لسنة 1978)، وأضاف فقرة خامسة إلى نص المادة العاشرة تنص على معاقبة كل من يعقد زواجه خارج المحكمة بالحبس لمدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد عن سنة أو بغرامة مالية.
والملاحظ في العقد خارج المحكمة كما بيّنت الدراسة أن الزواج ورغم كونه صحيحاً من الناحية الشرعية والاجتماعية، إلا أنه لا يخضع لنفس معايير الزواج داخل المحاكم من حيث الالتزامات والحقوق، إذ يُعدّ زواجاً خارج نطاق القانون، فهو غير مسجل بوثيقة رسمية وغير موثق في سجلات المحاكم.
بالتالي، لا يضمن هذا الزواج حقوق المرأة وحقوق أطفالها في حالة وفاة الزوج أو هجره لها أو حصول الطلاق بينهما.
أسباب عقد الزواج خارج المحاكم
في مكتب وسط العاصمة العراقية بغداد، تجلس "أم آية" على مقعد جلدي داكن للحصول على نصيحة قانونية من المحامي خليفة الربيعي، وتسعى لتوكيله في دعوى قضائية لاستخراج أوراق رسمية لابنتها (17 عاماً)، التي تعتبر على المستوى الرسمي غير موجودة ولم تولد على الإطلاق.
القصة بدأت قبل 20 عاماً، حين وقعت الأم في حب منتسب أمني بمحافظتها لتهرب معه بعد رفض عائلتها طلبه للزواج منها، تقول "أم آية" لـ"ارفع صوتك": "تزوجنا بعقد خارجي على يد رجل دين، وبعد إنجابي ولدين وبنتاً واحدة طلقني شفهياً وغادر دون عودة".
المشكلة "مركبة" بحسب المحامي الربيعي، موضحاً لـ"ارفع صوتك": "الأم وجميع أبنائها لا يملكون أوراقاً ثبوتية رسمية. بالنتيجة، أنا غير قادر على رفع دعوى قضائية".
ورغم أن للأم أوراقاً ثبوتية في منطقتها إلا أنها تخشى انتقام عائلتها منها حال عودتها للحصول عليها.
عدد كبير من العراقيين يبرمون عقود زواجهم خارج المحاكم دون تصديقها لأسباب متعددة. يقول الربيعي: "منها أن يكون عمر الزوجة دون السن القانوني للزواج وهو أمر يحصل بشكل خاص في المناطق الفقيرة والشعبية، وكذلك في حالة الزواج الثاني لأن القانون يشترط موافقة الزوجة الأولى إذا لم تكن الثانية أرملة أو مطلقة".
كما أن هناك حالات تصرّ فيها المرأة على تصديق عقد الزواج خارج المحكمة، بهدف"التحايل على قوانين الرواتب التقاعدية والإعانات الحكومية إذا كانت أرملة ولديها حقوق تقاعدية من زوجها الأول، التي تسقط عنها حال زواجها"، يضيف الربيعي.
وهناك حالات زواج لا يتم فيها إنكار العقد من الطرفين أو أحدهما، حينها "تقدم دعوى للقاضي الذي يحيل الموضوع إلى محكمة الجُنح، وتفرض عقوبة قانونية، وهي الحبس مع وقف التنفيذ أو الاكتفاء بغرامة رمزية لا تتجاوز 100 ألف دينار عراقي".
القضايا التي يتحدث عنها الربيعي يتم تقديم إحصائية عنها بشكل رسمي من قبل مجلس القضاء الأعلى الذي سجل خلال شهر فبراير الماضي -مثلاً- تصديق 3326 عقد زواج خارج المحكمة.
"قهر المرأة"
تأتي خطورة الزواج خارج المحكمة من خطورة النتائج المترتبة عليه، كما تقول الباحثة أسماء جمال رشيد في نتائج دراستها الميدانية "العوامل المرتبطة بظاهرة الزواج خارج المحكمة والآثار المترتبة عليها".
خلصت رشيد إلى أن الزواج خارج المحكمة هو مظهر من مظاهر "القهر" الذي تخضع له المرأة في العراق، إذ "غالباً ما يتم التغاضي عن عُمر الفتاة وتزويجها في سن صغيرة أو إكراهها على الزواج. كما يؤدي إلى سهولة التفريط بالعلاقة الزوجية طالما لا يترتب على هذا الزواج أي تبعات قانونية أو مادية".
شملت عينة الدراسة 300 امرأة متزوجة خارج المحكمة ممن توجهن بطلب للمساعدة في مراكز الدعم الحكومية بمدينة الصدر الشعبية في العاصمة بغداد، ليتبيّن أن 58% من الزواج خارج المحكمة يرتبط بزواج الأطفال وبأعمار تتراوح بين (12-17) سنة، نصف تلك الزيجات لا تستمر وتنتهي بالطلاق أو الانفصال والهجر أو بسبب وفاة الزوج.
كذلك، فإن قرار الزواج يتم اتخاذه غالباً من قبل والد الفتاة، فيما تبلغ نسبة من لم يؤخذ رأيهن أو موافقتهن 32%، وفق الدراسة، التي وجدت أن ربع الزيجات كان قسرياً و13% منها غير مسموح بها قانونياً مثل "زواج النهوة" و"البدل" و"الفصلية"، و20% كانت النساء زوجات ثانيات أو ثالثات.
وأوردت الدراسة أن أهم أسباب عدم تصديق عقد الزواج من قبل المحاكم "امتناع الزوج وعدم اعترافه بالارتباط"، مشيرةً إلى أن محكمة دعاوى استئناف النجف "كشفت عن تقديم 1300 دعوى لتصديق عقود الزواج (2009 و2010) اكتسبت منها الحكم بالتصديق 123 دعوى فقط بسبب إنكار الزوج للزواج".
كما جاء في الدراسة أن إيقاف حالات الزواج خارج المحكمة والحد من أضرارها "يقع بيد القانون نفسه عبر تحديد حد أدنى لسن الزواج لا يقل عن 18 سنة وإلغاء الاستثناءات التي تبيح للقاضي تزويج الفتيات في سن يقل عن هذا الحد. وتحديد عقوبة صارمة لكل من يخالف القانون بما يكفل تطبيقه على الشكل الأمثل".
"بالإضافة إلى استحداث مواد قانونية جديدة تضمن عدم زواج الأطفال زواجاً قسرياً، التي يعاقب عليه وفقاً للفقرة التاسعة من القانون. وتقديم الدعم والمساندة للنساء للإفادة من القانون في التخلص من الزواج بالإكراه وهو ما يكفل الحد منه"، تابعت الدراسة.
يتفق المحامي الربيعي مع نتائج الدراسة بشكل كبير، مؤكداً أنه "لم يتم على الإطلاق في المحاكم العراقية تشديد العقوبات لمن أبرم عقده خارج المحكمة ولو بالحد الأدنى من عقوبة الحبس وهي ستة أشهر، كما أن المبلغ المالي للغرامة بسيط جداً".
ويرى أن العقوبات "لو تم تغليظها سيحدث تراجع في أعداد من يعقدون قرانهم خارج المحاكم، لكن لو بقيت الأمور على ما هي عليه فسيبقى الأمر في تصاعد ويزداد عدد الأطفال غير المعترف بهم من قبل آبائهم".