عمل داود سمرة خلال مسيرته محامياَ وقاضياً ومُدرّساً للقانون واعتُبر واحدًا من أكبر القانونيين الذين أنجبهم العراق.
عمل داود سمرة خلال مسيرته محامياَ وقاضياً ومُدرّساً للقانون واعتُبر واحدًا من أكبر القانونيين الذين أنجبهم العراق.

حقّق اليهودي العراقي، داوود سمرة، مكانة كبيرة في سلك القضاء العراقي خلال العهد الملكي خولته للمشاركة في قيادة أكبر محكمة آنذاك، حيث عمل خلال مسيرته محامياَ وقاضياً ومُدرّساً للقانون واعتُبر واحدًا من أكبر القانونيين الذين أنجبهم العراق.

وصف يعقوب كورية في كتابه: "يهود العراق: تاريخهم، أحوالهم، هجرتهم"، داود سمرة بأنه "شيخ القانونين وإمام المُشرّعين والحقوقيين الذي له باعٌ طويلٌ في الأمور القانونية".

أتقن داوود اللغة العربية والتركية والإنجليزية والفرنسية والعبرية.

الباحث زيد عدنان ناجي، في كتابه "أقليات العراق في العهد الملكي"، يوثّق لجانب من حياة القاضي، فهو داود حسقيل بن شوعة سمرة النور، وُلِد في بغداد 1878، ودرس في مدرسة الإليانس ثم التحق بالمدرسة الإعدادية.

وبحسب مذكرات السياسي عبد العزيز القصاب، فإن السُلطة العثمانية أظهرت اهتماماً كبيراً بهذه المدرسة الإعدادية حتى إنها وفّرت لها مجموعة من الأساتذة المتميزين.

وتلقى طلابها دروساً مكثفة في الحساب والجبر والعلوم الدينية والفيزياء والكيمياء واللغة الفرنسية والرسم.

تألفت أول دفعة تخرجت من المدرسة من 7 طلاب، أحدهم مسلم: صالح محمد. أما الستة الباقون فكانوا من اليهود، منهم داود سمرة. وبسبب تفوقه في هذه المرحلة تكفّلت الحكومة بنفقات ابتعاثه إلى إسطنبول عام 1899، حيث درس الحقوق بصحبة صديقه نعيم زليخة، الذي تبوأ أيضًا مكانة قانونية كبيرة لاحقاً وكان أحد أعضاء مجلس النواب العراقي.

عاد داود سمرة إلى بغداد عام 1905، ومارس المحاماة لفترة من الزمن أثبت فيها كفاءة كبيرة ووضع مؤلّفات قيّمة وبحوثا في القانون أهّلته ليعتلي منصة القضاء.

 

براعة قانونية

خلال العهد العثماني نال داود سمرة عضوية محكمة استئناف الموصل 1909، ومحكمة استئناف بغداد في العام التالي. وفي 1914، فضّل الاستقالة واستأنف مزاولة المحاماة.

في نوفمبر 1919، أعيد تعيينه في محكمة استئناف العراق. ولاحقاً، أصبح نائباً لرئيسها وذلك في أبريل 1923.

لعب كذلك دوراً أساسياً في تدشين كلية الحقوق ببغداد والتي كان من أول مُدرسيها بعدما تولّى شرح عددٍ من موادها لطلابها.

اتخذ داود في داره مجلساً ثقافياً يتردد عليها "أفاضل أهل العلم وأكابر رجال القانون والحقوق"، كما يقول إبراهيم الدروبي في كتابه "البغداديون: أخبارهم ومجالسهم"، وكان أحد أشهر المجالس الثقافية اليهودية بالعراق مثله مثل مجلس الأديب مير بصري ومجلس المحامي أنور شاؤول ومجلس التاجر مناحيم دانيال وولده عزرا، جميع هذه المجالس نالت شهرة كبيرة في العراق.

يقول الأديب والدبلوماسي العراقي أمين المميز في كتابه "بغداد كما عرفتها"، إن القاضي اليهودي سمرة أثبت كفاءة كبيرة في استيعاب الفقه الإسلامي المصدر الأساسي للتشريع العراقي وقتها، ودرس على يديه معظم رجال القانون والقضاء في مصر.

وفق كتاب "موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين" للأديب حميد المطبعي، فقد طُبع لسمرة كتب "شرح قانون أصول المحاكمات القانونية" 1923، و"شرح قانون الإجراء" 1935، وفي 1941 أصدر كتاباً بعنوان "شرح قانون المحاكم الصلحية".

 

محكمة التمييز

في أواخر الثلاثينات تم اختيار داود سمرة نائباً لرئيس محكمة تمييز العراق. يقول مأمون أمين زكي، في كتابه "ازدهار العراق تحت الحُكم الملكي"، إن محكمة التمييز في ذلك الوقت مثّلت نموذجاً حياً للتسامح بين جميع فئات الشعب العراقي بغض النظر عن انتمائهم الديني. فلقد جرى تعيين القاضي اليهودي سمرة نائباً لرئيسها والمسيحي أنطوان شماس عضواً أولاً والمسلم عبد اللطيف الشواف عضواً ثانياً في المحكمة.

وفي كتابه "في غمرة النضال"، كشف السياسي سيلمان فيضي الموصلي أن وزراء عراقيين عدة حاولوا التدخل في عمل محكمة التمييز حتى إن وزير العدل ذات يوم طلب من داوود سمرة التحيّز في إحدى القضايا المعروضة أمامه فرفض وزجر الوزير على هذا التصرف.

نوري السعيد.. رجل الهاشميين الأول في العراق
لا يُمكن استحضار تاريخ العراق الملكي دون المرور على شخص السياسي البارز نوري السعيد، ذلك الرجل الذي مثّل حجر الزاوية الأساسي لتلك الفترة دون منازع حتى من الملوك أنفسهم. فلطالما نُظر إليه على أنه "رجل الإنقاذ" الذي يلجأ له الملك كلما ضاقت به السُبُل واستحكمت الأزمات السياسية.

لسنواتٍ طويلة استمرّ عطاء القاضي سمرة في محكمة التمييز، فمنحه الملك فيصل الأول وسام الرافدين من الدرجة الرابعة تقديراً لجهوده في القضاء. وفي 1946، قرّر اعتزال الحياة العامة والتخلي عن جميع مناصبه الحكومية.

خلال عُزلته في المنزل قضى داوود وقته في وضع المزيد من الكُتب القانونية وألّف مذكرات لمسيرة حياته طُبعت في بغداد 1953.

بحسب كورية فإنه صبيحة يوم ثورة 1958 كان داود سمرة يستحمُّ في مياه نهر دجلة. وشاهد نوري السعيد رئيس الوزراء وهو يهرب من منزله ويطلب من صائدي السمك تهريبه إلى الجهة الأخرى خوفاً من الاعتقال.

ويقول عبد الجبار العمر، في كتابه "الكبار الثلاثة: ثورة 14 تموز في 14 ساعة"، إن قادة الثورة العراقية أعلنوا جائزة كبيرة قدرها 10 آلاف دينار لكل مَن يُرشد عن اختفاء نوري السعيد. هذه الجائزة الضخمة لم تُغرِ القاضي داود ورفض الشهادة عن هروب السعيد عبر النهر وهو ما عرّضه للتحقيق أمام أجهزة الثورة لاحقاً.

بعد معاناة مع المرض تُوفي سمرة في 1960 عن عُمر ناهز 83 عاماً مخلّفاً وراءه ثلاث بنات وولدين، لمع من أبنائه فريد الذي لعب دوراً بارزاً في قيادة المجتمع اليهودي بالعراق. فبعدما درس الهندسة الكهربائية في الجامعة الأميركية ببيروت عاد إلى العراق حيث انتُخب نائباً في المجلس النيابي لدورتين متتاليتين مثّل خلالهما لواءي "بغداد والبصرة".

وفي 1947 مثّل بغداد وحدها، وما بين عامي 1953 حتى 1958 عُين رئيساً للجنة الإدارية لليهود العراقيين. وفي 1971 غادر العراق إلى إسرائيل حتى أدركته المنية في تل أبيب عام 1982.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.