نشرت بعثة الأمم المتحدة في العراق "يونامي" تقريراً مطولاً لتقييم عملها خلال العشرين عاماً الماضية تحدثت فيه عن "تهديدات" و"تحديات" تواجه استقرار العراق، معربة عن مخاوفها من أن يؤدي التصعيد في المنطقة إلى "إعادة العراق إلى الوراء".
وجاء التقرير لتقييم عمل بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق "يونامي"، رداً على طلب تقدمت به حكومة بغداد لتخفيف عمل البعثة وصولاً إلى إنهاء أعمالها في غضون عامين.
وبناء على التقرير، فقد طلبت حكومة محمد شياع السوداني من البعثة بشكل رسمي أن تنجز عملها في مدة أقصاها 31 مايو 2026، والبدء بتقليص صلاحياتها، وحصرها في القضايا الإنسانية والتنموية بدءاً من 31 مايو 2024.
وقدمت "يونامي" في تقريرها رؤيتها حول أوضاع العراق، واستنتجت أن استقرار البلد تهدده ثلاث ظواهر، هي: "هشاشة المؤسسات" و"انتشار الجهات الفاعلة المسلحة" و"إمكانية نشوء داعش جديد أو أشكالا أخرى من الإرهاب والتطرف".
وتحدث التقرير عن ثلاثة تحديات تواجه استقرار العراق، وهي "الأعمال غير المنجزة"، و"أنشطة الجهات الفاعلة الخارجية"، و"العوامل الهيكلية ونظام المحاصصة"".
التهديدات
يقول التقرير إن العراق واجه منذ إنشاء بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى العراق في عام 2003، سنوات من العنف وانعدام اليقين والتغيرات الهيكلية.
أما اليوم، فالعراق بلد ذو سيادة. لديه مؤسسات دولة ذات أداء فعال ونظام سياسي يقوم على الديمقراطية التشاركية بين الفئات المختلفة، وهو موطن لعملية سياسية تعددية، ويقبل قادته المجتمعيون والسياسيون ضرورة التمسك بالمبادئ الأساسية للديمقراطية والحكومة الرشيدة وحقوق الإنسان في العراق الجديد.
ومع ذلك، يؤشر التقرير على وجود "شواغل" من تبدل مسار التقدم المحرز -حتى الآن- تغذيها الأحداث التي وقعت بعد الانتخابات، ومخاوف من إمكانية أن تهيمن مجموعة واحدة على النظام السياسي الحالي، إضافة إلى مخاوف من أن يؤدي التصعيد الجديد في المنطقة إلى "إعادة العراق إلى الوراء".
ومع إحراز الحكومات المتعاقبة تقدماً نحو بناء مؤسسات دولة ذات أداء فعال، تطورت الأخطار التي تهدد سلام وأمن العراق، فالبلد جزء من منطقة متقلبة، وقد أسهم في بعض الأحيان هو ذاته بنصيب في هذا التقلب.
وخلص التقرير إلى استنتاج مفاده أن استقرار البلد اليوم تهدده أساساً ثلاث ظواهر:
أول هذه التهديدات تتمثل في "هشاشة المؤسسات" التي يمكن أن تتطور لتشكل تهديد خطير لسلام وأمن العراق، ومنها الرد العنيف على الاحتجاجات، أو الاستشهاد بنصوص قانونية من "عهد صدام" في أحكام المحاكم، أو توزيع الوظائف على أساس عرقي وطائفي.
ويرى التقرير أنه ما لم تبذل جهود وطنية متواصلة لتوطيد مؤسسات الدولة وممارساتها الديمقراطية، فإن الهشاشة الفعلية والمتصورة للمؤسسات الوطنية أو دون الوطنية يمكن أن تتطور لتشكل تهديداً خطيراً لسلام وأمن العراق.
أما التهديد الثاني فيتعلق بانتشار "الجهات الفاعلة المسلحة"، إذ أنه رغم السلام النسبي في البلاد فإن غياب احتكار الدولة لوسائل العنف المشروعة في جميع أنحاء البلاد يدعو إلى القلق، كما أنه يتعارض مع الفهم التقليدي لمكونات الاستقرار والأمن الداخليين.
ويتلخص التهديد الثالث بإمكانية" نشوء داعش جديد أو أشكالا أخرى من الإرهاب والتطرف العنيف".
هشاشة
وسجلت "يونامي" قدرة متزايدة للحكومة العراقية على "إدارة الأزمات بعنف أقل" وهو ما رصدته على الأقل خلال الـ18 شهراً الماضية.
وقالت إن العلاقات المعقدة داخل الجماعات الطائفية والعرقية وفيما بينها باتت تدار من قبل مؤسسات رسمية وغير رسمية، وأنه على الرغم من الضغوطات المتزايدة تواصل منظمات المجتمع المدني عملها.
ومع ذلك، سجل التقرير "مخاوف" مبعثها أن المؤسسات التي تحكم العمليات السياسية والاجتماعية الاقتصادية في البلد لا تزال "هشة"، وخشية ممثلي المجتمعات الصغيرة والجهات الفاعلة السياسية التي تعرف نفسها بأنها خارج دائرة العمل السياسي العرقي والطائفي من أن تكون المؤسسات بشكلها الحالي غير قادرة على حماية استقرار البلد.
ولا تزال هناك مخاوف من أن يؤدي نظام "الديمقراطية التشاركية" بين الفئات المختلفة لتقاسم السلطة الذي ساعد المجتمع الدولي على بنائه في العراق إلى خنق الديمقراطية والحوكمة الرشيدة.
ومع التسليم بأن المناصب الحكومية تقسم بين ممثلي الطوائف المعرفة بأنها مجتمعات عرقية أو طائفية، فإن سلطات صنع القرار تتركز في الغالب بيد الأحزاب التابعة للإطار التنسيقي الشيعي، وهو الكتلة السياسية التي تشكل حاليا الأغلبية البرلمانية.
ويوجه التقرير اللوم إلى الطريقة السائدة لتخصيص المناصب في الحكومة والخدمة العامة على أساس الانتماء العرقي والطائفي (المحاصصة) في ترسيخ التحزبات السياسية التي يمكن القول إنها تحد من المساءلة.
ورصد التقرير شعور معظم العراقيين بالارتياح إزاء حالة السلام النسبي، إلا أنه في الوقت نفسه يؤكد أن غياب احتكار الدولة لوسائل العنف المشروعة في جميع أنحاء العراق يتعارض مع الفهم التقليدي لعنصر رئيس من عناصر الاستقرار الداخلي.
ويرى التقرير أنه رغم أن العديد من الجماعات المسلحة تشكل جزءاً من الهيكل الأمني للدولة، لكن هناك مقولات تتحدث عن أن ولاءها الأكبر هو لفرادى الشخصيات السياسية أو الجماعات السياسية، في الوقت الذي لا تمتد الجهود الجارية لإصلاح قطاع الأمن لتشمل جميع الجهات الأمنية الفاعلة في العراق وهو وضع عام يشكل تهديداً كبيراً لاستقرار البلد.
ويقول التقرير إنه على الرغم من أن تنظيم داعش لم يعد يسيطر على الأراضي، إلا أنه لا يزال يحتفظ بخلايا نشطة في جميع أنحاء العراق وهو ينفذ هجمات إرهابية متفرقة.
ومع أن عودة ظهور داعش -بشكله السابق- أمر "غير مرجح"، فإن الأسباب الجذرية للتطرف العنيف لا تزال قائمة، وتظل هذه الأسباب خطراً يهدد سلام وأمن العراق، وتشمل هذه الأسباب وضعاً لم يتم حله ألا وهو وضع آلاف العراقيين الذين لهم صلات فعلية أو متصورة بتنظيم داعش وأسرهم في كل من سوريا والعراق.
التحديات
رصد التقرير ثلاثة تحديات تواجه استقرار العراق إذا ما أُهملت، وعلى الرغم من أنها لا تشكل تهديداً لسلام وأمن العراق في الأجل القصير أو المتوسط، إلا أنها تستطيع توسيع دائرة النزاعات التي تشعل فتيلها أسباب أخرى، وتنقسم إلى ثلاث مجموعات:
أول هذه التحديات هو "الأعمال غير المنجزة" مثل العلاقات بين بغداد وأربيل، والعلاقة بين الحزبين الرئيسين في الإقليم، وسن قانون النفط والغاز.
والتحدي الثاني فهو "أنشطة الجهات الفاعلة الخارجية في العراق"، والتي تتمثل بالطابع العابر للحدود، كالإرهاب أو التطرف أو الاتجار بالمخدرات والوضع المضطرب في سوريا، وعمليات القوات التركية والهجمات الخارجية من قبل إيران والولايات المتحدة داخل العراق، والتي يعتبرها العراق انتهاكاً لسيادته.
أما التحدي الثالث فيتعلق بـ "العوامل الهيكلية"، ومنها استخدام نظام المحاصصة في توزيع المناصب، والاعتماد المفرط على النفط في إيرادات الدولة، وعدم قدرة التخصيصات المالية الكبيرة لتحسين البنية التحتية على إيقاف "تعميق الفقر" كون النمو والفرص الاقتصادية لا تتناسب مع الزيادة في عدد السكان، وتحديات تغير المناخ واستمرار التصحر وندرة المياه والتلوث وملوحة التربة.
الأمن والسياسة
أشار التقرير إلى أن الحكومة العراقية لا تسيطر على جميع الجهات الفاعلة العسكرية والأمنية في البلد، علاوة على جماعات مسلحة أجنبية مثل حزب العمال الكردستاني، الذي يحتفظ بقواعد عمليات في شمال العراق خارج سيطرة الحكومة الاتحادية أو حكومة إقليم كردستان.
وبموجب المرسوم سيحصل المنتسبون إلى الحشد الشعبي الذي يتكون من فصائل شيعية مسلحة، على الكثير من الميزات المخصصة لأفراد الجيش بما في ذلك الرواتب وقوانين الخدمة العسكرية.
كذلك يمثل غياب وضوح القيادة والسيطرة على قوات "الحشد الشعبي" وقوات "البيشمركة" تحديات للحكومة العراقية على الرغم من قانونية وضعهما.
رغم ذلك فإن بعض التحديات التي يمكن أن تكون قاتلة في سياقات قطرية أخرى قد تكون في الواقع مصادر للاستقرار ولو بشكل مؤقت. على سبيل المثال في حين لا توجد للدولة المركزية سيطرة كاملة على قوات الحشد الشعبي والبيشمركة، فمما لا شك فيه أن كلتا القوتين حالتا دون عودة ظهور تنظيم داعش.
أما فيما يتعلق بالعمل السياسي في العراق فقد أشار التقرير إلى أنه خضع لترتيبات "الديمقراطية التشاركية" بين الفئات المختلفة لتقاسم السلطة، وأنه كان من السهل رصد أوجه القصور المرتبطة بهذه الترتيبات.
ووصف الحيز السياسي في البلد بأنه "مستقطب ومجزأ "، ونقل الخشية لدى الكثيرين من أن تؤدي هذه الترتيبات إلى خنق الديمقراطية والحوكمة الرشيدة.
ومع ذلك يقول التقرير أنه يبدو أن هذا النظام يلقى بوجه عام قبولاً من غالبية كبيرة من الجهات الفاعلة السياسية، بسبب قدرته على ضمان تمثيل جميع مكونات البلد بتعدديتهما العرقية والطائفية في هياكل الحكم.
أما في مجال القدرة على إدارة الأزمات فاعتبر التقرير أن النظام السياسي الحالي في العراق أثبت قدرته على إدارة الأزمات الداخلية والخارجية، إلا أن أشار في الوقت ذاته إلى ما اعتبره ممارسات تمت بوسائل قمعية على الأقل من جانب أجزاء من الطيف السياسي والمجتمعي.
ورصد التقرير ثلاث أزمات سياسية كبرى ظهرت داخل البلد، وهي احتجاجات 2019، والتشكيل الحكومي المطول الذي أدى إلى انسحاب التيار الصدري من مجلس النواب (2021-2022)، وإقالة رئيس مجلس النواب السني محمد الحلبوسي بسبب حكم أصدرته المحكمة الاتحادية العليا.