دخل الشاي إلى أغلب الدول العربية عن طريق الإنجليز في القرن التاسع عشر أساسا.
دخل الشاي إلى أغلب الدول العربية عن طريق الإنجليز في القرن التاسع عشر أساسا.

"لقد انتشر الشاي بطريقة تُذكّر بطريقة انتشار الحقيقة. في البداية كان موضع تشكّك، ولم يعرف لذته سوى مَن تجرأ على تذوقه". بهذه العبارة لخّص إسحاق ديسرائيلي، الكاتب الإنجليزي من القرن الثامن عشر، قصة انتشار الشاي داخل البلاد العربية في كتابه "طرائف الأدب".

البداية كانت دائماً حذرة محل تشكّك، ثم انتشار بطيء، يعقبه انتشار أوسع، يتحوّل إلى عادة استهلاكية تمارسها الشعوب العربية بكثافة حتى اليوم.

وحددت الجمعية العامة للأمم المتحدة 21 مايو من كل سنة يوماً عالمياً للشاي بهدف زيادة الوعي بأهمية الشاي وفوائده الصحية وكفاح الملايين من العاملين في هذا القطاع حول العالم.

في هذا التقرير اخترنا 3 دول عربية، وقررنا تتبُّع حكايتها مع "الشاي".

 

العراق: أين شايك المهيل؟

عرف العراق الشاي في العهد العثماني، ولم يحقق انتشاراً كبيراً حينها بسبب تفضيل العراقيين للقهوة، وهو ما تغيّر في أعقاب الحرب العالمية الأولى ووقوع العراق تحت الاحتلال البريطاني.

وَفَدَت على بلاد الرافدين كتائب من جنود بريطانيين قادمين من الهند، اعتادوا شُرب الشاي في أقداح صغيرة منحوها اسم "وعاء الشاي الشرقي" (East Tea Can).

في العراق اختُصرت هذه العبارة في كلمة واحدة "إستكان"، وهي لفظة لا تزال تُستخدم حتى اليوم للإشارة إلى الكوب الصغير المخصص لشُرب الشاي. ومن العراق انتشرت هذه الكلمة في بعض الدول العربية القريبة منها.

وبمرور الوقت حفَر "الشاي" لنفسه مكانة كبيرة في المجتمع العراقي، وبات تناوله أحد الطقوس الأساسية في الاجتماعات بين الناس، وحتى بين كبار السياسيين.

في أحد "اجتماعات الشاي" دُعي السياسي العراقي ياسين الهاشمي إلى لقاء مع البريطانيين فاعتقلوه ونفوه إلى فلسطين بسبب شكهم في تخطيطه للانقلاب على الملك فيصل، حسبما ذكر حنّا بطاطو في كتابه "العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية".

وخلّف شيوع الشاي أثراً في الشعر العراقي؛ فنظَم الشاعر أحمد الصافي النجفي -وُلد 1897- قصيدة كاملة في مدح الشاي بدأها بقوله "لئن كان غيري بالمدامة مولعاً، فقد ولعت نفسي بشاي معطرٍ".

وحينما تُوفيت الدبلوماسية العراقية بلقيس الراوي رثاها زوجها نزار قباني بقصيدة خالدة استعرض فيه أهم مراحل حياته معها ولم يغفل ذِكر الشاي بها، فقال "أين شايك العراقي المهيل".

 

مصر: مشروب النخبة والفلاحين

مثل العراق، عرف المصريون الشاي مع قدوم الاحتلال الإنجليزي، لكن في وقتٍ أبكر إثر خضوع مصر للسيطرة الإنجليزية عام 1882.

وبحسب ما أوردته هدير مسعد، في بحثها "تاريخ دخول الشاي إلى مصر: حرب تعكير المزاج"، فإن المؤرخين اختلفوا حول صاحب الفضل الأول في دخول الشاي إلى مصر.

الرواية الأكثر شيوعاً تقول إن مصر عرفته مع دخول الجنود البريطانيين إلى البلاد سنة 1882، فيما تنسب روايات أخرى الفضل إلى الزعيم أحمد عرابي الذي نفي إلى جزيرة سيلان (سيريلانكا حالياً)، وفيها عرف الشاي لأول مرة ثم نقله إلى مصر.

لم يستقبل المصريون "الشاي" بالكثير من الترحاب في البداية، واقتصر تناوله على العائلات الأرستقراطية، ونُظر له كـ"مشروب نخبوي".

لم يحقق الشاي انتشاراً كبيراً إلا بعد الحرب العالمية الأولى. حكى توماس راسل -حكمدار القاهرة خلال الفترة من 1918 وحتى 1946- في مذكراته أنه بعدما نجحت الأجهزة الأمنية في الحدِّ من تجارة الحشيش والهيروين لجأ المصريون إلى "عادة جديدة، وهي شُرب الشاي المغلي".

سريعاً ارتفعت معدلات استهلاك المصريين من الشاي. ففي 1911 وصل إلى 895 ألف كجم زادت بعد الحرب العالمية الأولى إلى 1.6 مليون كجم، وفي 1931، قارب الاستهلاك 7 ملايين كجم تقريباً.

وفي 1932، نشر كريم ثابت الصحفي في جريدة المقطم حواراً مع جلال فهيم وكيل وزارة الزراعة حذّر فيها من إقبال الفلاحين المفرط على الشاي.

خلال الحوار، كشف ثابت سبباً إضافياً لانتشار عادة الشاي بين المصريين، وهي الفلاحون العائدون من أوروبا بعدما جرى تجنيدهم عنوة لصالح المجهود الحربي خارج مصر.

قال كريم: "الفلاح منذ عودته من أوروبا من أجل الحرب العظمى وهو ينشر عادة شُرب الشاي بين أقرانه، فتراهم يحملون معهم الشاي إلى جانب معداتهم إلى الحقل".

بعدها تكرّرت الدعاوى في الجرائد المحسوبة على الحكومة لتقليل معدلات استهلاك الشاي، حتى إن بعض الكتّاب نظروا له كأحد أشكال الخضوع لـ"ثقافة الاستعمار" في البلاد بعدما فضل المصريون الشاي على مشروبات أقدم، مثل النعناع والينسون.

لم تغيّر هذه الدعاوى من الأمر شيئا، واستمرّ إقبال المصريين عليه حتى بات مشروبهم الأول بلا منازع إلى أن  تغنّت به الأزجال الشعبية فقالت إحداها "السُكر والشاي والنعناع\ ما خلّى في الراس أوجاع"، حسبما أورد محمد طاهر بن عبد القادر في كتابه "أدبيات الشاي والقهوة والدخان".

وفي 2022، استوردت مصر كميات من الشاي بقيمة 282 مليون دولار.

 

المغرب: إن الأتاي لنعمة

بحسب ما ورد في كتاب "من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ" للمؤرخين عبد الأحد السبتي وعبد الرحمن لخصاصي فإنه -رغم انتشار الشاي بأوروبا طيلة القرن الـ17- ظلَّ مجهولاً بالمغرب حتى انتشر في مطلع القرن الـ18 خلال عهد السُلطان المولى إسماعيل. 

وبحسب المرويات، فقد قدّم المبعوثون الفرنسيون للسُلطان المغربي هدايا فاخرة لإقناعه بالإفراج عن أسراهم، ضمن هذه الهدايا مجموعة من أكياس الشاي، وكانت بداية تعرّف المغاربة عليه.

يضيف السبتي ولخصاصي أنه خلال هذا الوقت استُعمل الشاي بكميات محدودة دواءً قبل أن يُستهلك شرابًا.

وخلال القرن التاسع عشر، اقتصر استعمال الشاي على البلاط الملكي وحاشيته، حيث كان الشاي والسُكر من الهدايا التي اعتاد السفراء الأوروبيون منحها للسُلطان ومندوبيه خلال زيارتهم المغرب.

فعل ذلك السفير الإنجليزي شارل ستيوارت حينما زار المغرب عام 1721 فمنح حاكم مدينة تطوان كميات من الشاي والحلويات هدية.

وفي 1727 قام سفير آخر بزيارة للمغرب قدّم خلالها للسُلطان هدية عبارة عن 18 رطلاً من الأتاي، حسبما ذكر أحمد مكاوي في أطروحته "استهلاك الشاي والسكر في المغرب: المتعة والضرر".

وبحسب كتاب "من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ"، فإن السُلطان المغربي الحسن الأول استغلَّ الشاي سياسياً بعدما كان يقدّمه هدايا لرؤساء القبائل التي ترفض الخضوع له.

أيضاً بات شائعاً استخدام الشاي لتبادل الهدايا بين السلاطين وقادتهم العسكريين والوجهاء، ولاحقاً خُصص في القصر السُلطاني وظيفة ثابتة للشخص الذي يتولّى إعداد الشاي داخل البلاط.

وفي 1856، نجحت بريطانيا في إقناع السلطان عبد الرحمن بن هشام المغربي بتوقيع اتفاقية تجارية بينهما فتحت أبواب أسواق المغرب أمام حركة التجارة الدولية فتدفقت على البلاد كميات هائلة من الشاي والسكر، الأمر الذي كان له بالغ الأثر في زيادة معدلات استهلاكهما بين المغاربة.

وبمرور الوقت اتسع نطاق استهلاك الشاي وخرج من أوساطه النخبوية إلى القرى وحتى الأوساط الجبلية حتى وُضعت فيه الأغاني أيضاً فقيل بحقه "إن الأتاي لنعمة ما فوقه.. فما هو إلا أطيب الجنة"، والتي نسبها أوكوست مولييراس لمؤلفٍ مغربي غير معروف ونشرها بكتابه "المغرب المجهول".

يقول عبد الحق المريني في كتابه "الشاي في الأدب المغربي" إن الشاي احتل منذ بداية القرن العشرين مكانة متميزة وسط الأسرة المغربية، وأصبحت له طقوس وعادات وظهرت وسط الصناع حرفة تصنيع أدوات تحضير الشاي من صينية وبراد وإبريق، وبات لجلسات الشاي حضورها الدائم في مختلف طبقات المجتمع.

وبينما يُعدُّ القاضي والشاعر أبو حفص بن عمر السلمي أول شاعر معروف ألّف قصيدة في الشاي بحسب مكاوي، فقد ظهر بعده العديد من الشعراء المغاربة الذين وضعوا قصائد مطوّلة في مدح الشاي على غرار "الخمريات"، منها ما ذكره الفقيه المالكي حمدون ابن الحاج بقوله "شربنا من الأتاي كل معتق.. شراباً حلالاً لا نبيذاً ولا خمراً".

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.