يظهر أحد الرهائن من الأطفال مع صدام حسين خلال بث تلفزيوني عراقي 1990 - أرشيف ا ف ب
يظهر أحد الرهائن من الأطفال مع صدام حسين خلال بث تلفزيوني عراقي 1990 - أرشيف ا ف ب

لم يعلم الركاب على متن رحلة الخطوط الجوية البريطانية "بي إيه 149" المتجهة من لندن إلى ماليزيا في أغسطس 1990، أنهم سيتحولون إلى دروع بشرية في العراق وسيمضون أكثر من 4 أشهر أسرى لدى السلطات العراقية.

بدأت القصة كما يرويها شهود العيان من الضحايا والتحقيقات الرسمية في الموضوع، مساء الأول من أغسطس 1990 عندما كان 367 راكباً ينتظرون انطلاق رحلتهم من مطار "هيثرو" البريطاني إلى ماليزيا لقضاء العطلة الصيفية.

وأبرز ما كان يقلقهم حينذاك أن رحلتهم تتضمن توقفاً في مطار الكويت قبل إتمام الرحلة، حيث لم يكن الوضع الأمني للكويت مبشراً مع الأخبار المتداولة حول تحشيد النظام العراقي السابق بقيادة صدام حسين، للجيوش والعتاد من أجل غزو البلد الحدودي مع العراق.

وحاول الركاب الذين شكل البريطانيون غالبيتهم إلى جانب ركاب من أميركا وفرنسا واليابان التعبير عن قلقهم لموظفي الخطوط الجوية البريطانية من هذا التوقف، لكن الموظفين أكدوا لهم أن كل شيء سيكون "على ما يرام وسيحوّلون مسار الرحلة إذا تطلب الأمر".

وآخر مجموعة صعدت الطائرة، تألفت من تسعة رجال جلسوا في المقاعد الخلفية، ظهر في ما بعد أنهم  فريق استخباراتي لتنفيذ مهمة في الكويت.

مع دخول الطائرة الأجواء الكويتية كانت القوات العراقية قد توغلت في الكويت، واتجهت قطعات منها إلى مطار العاصمة، وبعد هبوط الطائرة بوقت قصير، قصف الجيش العراقي مدرج المطار.

في ذلك، أكد عدد من الرهائن السابقين إلى أن المطار كان خاليا تماما حتى أنه لم يكن هناك موظفون. ثم سمعوا إطلاق نار أعقبته سيطرة القوات العراقية على المطار بالكامل وتطويق الطائرة وإنزال جميع الركاب والطاقم ونقلهم إلى فندق المطار، بعد عزل  الرجال التسعة فوراً عن الركاب الآخرين.

مرت سنوات على هذه الواقعة، قبل أن تكشف تحقيقات استندت على حديث موظفين وجنود سابقين في مكتب الاستخبارات الخارجية البريطاني (MI6)، أن الرجال التسعة كانوا ضمن فريق استخبارات بريطاني سريّ تحت اسم فريق "The increment" لتنفيذ مهمة سرية في الكويت وافقت عليها رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك مارغريت تاتشر ووزارة الدفاع و(MI6) بالتعاون مع الخطوط الجوية البريطانية.

تمثلت مهمة الخطوط الجوية البريطانية بإيصال الفريق إلى الكويت وتنفيذ المهمة والمغادرة إلى ماليزيا قبل دخول القوات العراقية الى الكويت، لكن يظهر أن التقييم المقدم من فريق الاستخبارات الموجود على الأرض لم يكن دقيقاً في ما يتعلق بتقدم القوات العراقية التي سبقت أوانهم وأحبطت أحبطت العملية.

يقول الخبير الإستراتيجي العراقي الناصر دريد لـ"ارفع صوتك" إن "المهمة السرية كانت لإنقاذ وكلاء سريين للاستخبارات البريطانية في الكويت قبل سقوطهم بأيدي القوات العراقية، لكن الأمر تسبب في إمساك القوات العراقية للطائرة قبل إقلاعها وأخذ جميع الركاب رهائن ليصبحوا جزءاً من الرهائن الغربيين الذين كانوا محتجزين في العراق لفترة طويلة".

ويعتبر هذه الحادثة "فضيحة كبيرة للحكومة البريطانية آنذاك، لأنها فضلت المخاطرة بحياة مدنيين لا علاقة لهم بالحرب في سبيل إنقاذ وكلاء سريين يعملون لصالحها".

وزعت القوات العراقية الركاب وطاقم الطائرة على مجموعة من الفنادق في الكويت وأجبرتهم -بحسب شهادات الضحايا- على كتابة تقرير عن الركاب الآخرين ثم نُقلوا إلى بغداد، حيث تم توزيعهم على مجموعات وفي مواقع حيوية، ليتم اتخاذهم دروعاً بشرية.

ورغم إعلان الحكومة العراقية أن الرهائن "ضيوف كرام"، إلا أن العديد من الضحايا أكدوا أنهم تعرضوا للتعذيب الجسدي والنفسي مثل الإعدامات الوهمية والاغتصاب.

في نهاية أغسطس 1990، أطلقت القوات العراقية سراح النساء والأطفال من الرهائن وأبقت على الرجال محتجزين  كدروع بشرية لأكثر من 4 شهور، بعدها أطلقت سراحهم تحت ضغوطات دولية.

توفي أحد الرهائن خلال فترة الاحتجاز، ويعاني ضحايا طائرة الدروع البشرية حتى الآن من ظروف صحية جسدية ونفسية جراء ما شهدوه من معاملة سيئة خلال مدة أسرهم، بينما تعرضت الطائرة للتدمير خلال معركة تحرير الكويت.

بالنسبة لفريق الاستخبارات البريطاني وبرفقة قائد الطائرة، فقد تمكنوا بعد فترة من الأسر والاحتجاز داخل أحد فنادق الكويت من الفرار بمساعدة المقاومة الكويتية.

وقدمت الحكومة البريطانية في نوفمبر 2021 اعتذارها في هذه القضية. وكشفت وزيرة الخارجية البريطانية السابقة ليز تراس أمام البرلمان أن السفير البريطاني لدى الكويت "أبلغ لندن بالغزو العراقي منتصف ليل 2 أغسطس 1990 بعد إقلاع الطائرة، لكن لم تُرسل أية رسالة تحذيرية لشركة الطيران كي تحول الطائرة مسارها عن أجواء الكويت".

وبدأ نحو 100 من ركاب وطاقم الطائرة في الأول من يوليو الحالي إجراءات قانونية ضد الحكومة البريطانية وشركة الطيران، وفق ما أعلنت شركة محاماة.

وقالت شركة "ماكيو جوري آند بارتنرز" لوكالة فرانس برس إن "94 من الركاب رفعوا دعوى مدنية أمام المحكمة العليا في لندن، متهمين الحكومة البريطانية وشركة الخطوط الجوية البريطانية بتعريض المدنيين للخطر عمدا".

وأضافت "لقد تعرض جميع المدعين لأضرار جسدية ونفسية شديدة خلال محنتهم لا تزال عواقبها محسوسة حتى اليوم".

ويزعم المُشتكون أن حكومة بريطانيا وشركة الطيران "كانتا على علم ببدء الغزو"، لكنهما سمحتا للطائرة بالهبوط على أية حال لأنها كانت قد استُخدمت لإدخال فريق إلى الكويت من أجل تنفيذ عملية عسكرية خاصة.

في المقابل، ترفض الحكومة البريطانية هذا الاتهام.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.